ملاحظة إن المعلومات الواردة في هذا النص مقتطفات منقولة عن بعض المواقع والكتب التاريخية وهي غير مرتبة تاريخياً وغير شاملة لكل الكنائس في سوريا، إنما هي لمحة تاريخية موجزة لمن يهمه أمر التعايش السلمي بين مكونات المجتمع السوري، مع التنبيه إلى أنه لا يوجد إحصاء موثق لعدد سكان سوريا وطوائفها ومذاهبها الدينية، منذ عام 2011 بعد تهجير الملايين من السوريين ومقتل مئات الآلاف في المعارك التي دارت رحاها في مختلف مناطق سوريا، إضافة إلى الذين تم قتلهم في السجون والمعتقلات، ناهيك عن المفقودين ومكتومي القيد الذين ولدوا في مخيمات اللجؤ في البلدان المجاورة لسوريا لبنان والأردن ومصر وتركيا على سبيل المثال، وكذلك في الدول الأوروبية وأستراليا وكندا وأميركا، مع تقديرات مبدئية عن تناقص أعداد المسيحيين في سوريا منذ بدء الأحداث بتاريخ 15 أيار/مايو 2011 إلى نسبة 2 في المئة في كافة المحافظات السورية، وبعد التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق بتاريخ 22/6/2025 التي تم خلالها استهداف مواطنين أبرياء وهم يؤدون صلاتهم بخشوع بلغ عددهم أكثر من عشرين شهيداً وعشرات المصابين بحالات مختلفة.
أبدأ تاريحياً بفتنة سنة 1860 التي بدأت في جبل لبنان وزحلة ثم انتقلت إلى سوريا بدعم وإسناد من قوى خارجية، تماماً كما يحدث في هذه الأيان، التي تعيد إلى الأذهان ما عرف بفتنة أو (سنة الطوشة) أو (الفتنة الطائفية الكبرى)، التي انتهت بثورة الفلاحين على الإقطاعيين بقيادة طانيوس شاهين، وقد امتدت تلك الفتنة إلى سوريا حيث داهم الغوغائيين الحي المسيحي داخل مدينة دمشق، ليحرقوه ويدمروه بالكامل، بعد اندلاع الفتنة في جبل لبنان بين المسيحيين الموارنة والدروز. وقد بدأت هذه الأحداث الدامية بدمشق مع دخول فتية من المتطرفين المسلمين إلى منطقة باب توما في 7 يوليو/تموز 1860 حيث قاموا برسم شارات الصلبان على الأراضي ودوسها بأقدامهم، ما أدى إلى اعتقالهم وإجبارهم على تكنيس الشوارع التي عبثوا بها، فهب أحد الأهالي من المسلمين المتطرفين صائحاً: "يا مسلمين، يا أمة محمد، المسلمون يكنسون حارة النصارى"، فاشتد الصراخ والعويل وردّ الجمع بصوت واحد: "يا غيرة الدين" في تلك الأثناء تدفق الأشقياء و"الزعران" والمرتزقة إلى منطقة باب توما من كل حدبٍ وصوب، وقد وصل عددهم كما يروى إلى عشرين ألفاً، بالتزامن مع انسحاب القوات العثمانية النظامية من الحيّ المسيحي، وفي غضون أسبوع قتل 5000 مسيحي في دمشق، ما بين وافد من لبنان أو ساكن أصلي. وتم إحراق جميع الكنائس وتهجموا على الرهبان وقتلوا عدداً منهم، ثم تهجموا على القنصليات والبعثات التبشيرية البروتستانتية والكاثوليكية، ودير رهبان الإسبان ودير العازارية الفرنسي وعدد من المدارس ومنها المدرسة الآسية في باب توما في دمشق ومقر "أخوات الرحمة" للراهبات، الذي تأسس قبل عدة أشهر قليلة في دمشق بدعم ماليّ من الإمبراطور نابليون الثالث. إضافة إلى الكنيسة المريمية، وهُدم مصلى حنانيا الشهير، ودُمرت كنيسة سلطانة العالم للأرمن الكاثوليك في باب توما، وكنيسة سيدة النياح للروم الكاثوليك في حارة الزيتون، وكنيسة القديس منصور للآباء العازاريين في باب توما، وكنيسة القديس بولس المجاورة لدير الرهبان الفرنسيسكان، وكاتدرائية القديس أنطونيوس المارونية في باب توما، وكنيسة القديس بولس للسريان الكاثوليك في باب شرقي، وكنيسة القديس سركيس للأرمن الأرثوذكس في باب شرقي أيضاً. ووصلت يد الإجرام إلى ريف دمشق، حيث دُمرت ثلاثة بيوت مسيحية في وادي بردى، وقُتل خمسة مسيحيين في بلودان وحُرق 52 منزلاً. وقد تكرر المشهد ذاته في دمر والهامة وفي معرة صيدنايا وقرية معرونة التي ذُبح فيها 15 من شبابها المسيحيين. أما مسيحيو سرغايا فقد نجوا من القتل بمساعدة أحد أعيان المسلمين، ولم يتعرض أحد، لا إلى المسيحيين ولا إلى الكنائس في حي الميدان، خارج سور دمشق.
دور الأمير عبد القادر الجزائري
فتح الأمير عبد القادر الجزائري أبواب داره في حي العمارة خلف الجامع الأموي، لاستقبال المسيحيين الهاربين من المجزرة. كان الأمير الجزائري نزيل دمشق منذ خمسينات القرن التاسع عشر وقد سانده في حماية المسيحيين عدد من الوجهاء المسلمين بفتح دورهم أيضا مثل صالح آغا المهايني، وصالح الموصلي، وعبد اللّه العمادي (شقيق جد وزير الاقتصاد محمد العمادي) وسعيد آغا النوري وعمر آغا العابد (الجد الأكبر لأول رئيس جمهورية محمد علي العابد) والمفتي محمود الحمزاوي (جد الشاعر خليل مردم بك)، والتاجر عثمان جبري، والشيخ سليم العطار (مدرس البخاري في جامع سليمان باشا)، والشيخ عبد الله البيطار (جد العلامة الشيخ محمد بهجت البيطار) الذي حذر من نار الفتنة وسفك دماء المسيحيين خلال خطبته على منبر جامع الدقاق في حيّ الميدان. حمل الأمير عبد القادر السلاح وخرج أمام الجموع التي وصلت إلى باب داره في حيّ العمارة، صائحا: "أهكذا ترضون نبيكم محمدا؟ لن تنالوا من مسيحي واحد هنا، فجميعهم إخوتي". أعجب العالم بشجاعة الأمير عبد القادر وحكمته، وبدأت الهدايا تنهمر على داره بصفته "حاميا للمسيحيين"، كان من بينها مسدسان حربيان مطليان بالذهب هدية من الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن، وسيف من ملكة بريطانيا، وقلادة من الحبر الأعظم في الفاتيكان، ووسام الشرف الفرنسي من الإمبراطور نابليون. في عام 1915، أطلق اسم الأمير على مدينة في ولاية أيوا الأميركية، ولاحقا سميت إحدى المنح الدراسية باسمه في جامعة فيرجينيا، كذلك أقامت الأمم المتحدة ندوة حول دوره الإنساني في عام 2006، ووضع تمثال له في إحدى قاعاتها، وسُمي كرسيّ حقوق الإنسان في اليونسكو باسمه أيضا.
إعادة إعمار الكنائس
نشطت بعد عام 1860 عمليات إعادة إعمار الكنائس المدمرة في دمشق، تلتها حركة خجولة لبناء كنائس جديدة، بهدف استعادة الهوية المسيحية وتدعيمها. أُنشئت كنيسة يوحنا الدمشقي للروم الأرثوذكس في عام الفتنة، شمال شرق الكاتدرائية المريمية التي أعيد إعمارها عام 1867 وضمت إلى قسمها الشرقي مساحة كنيسة القديسين كبريانوس ويوستينا وكنيسة القديس نيقولاوس. أما في قسمها الغربي، فقد وُسِّع "درب مريم" المارّ من الجهة الغربية والمؤدي إلى حي القيمرية، وما بقي منه تحول إلى مدرسة ابتدائية جديدة عُرفت باسم "القديس نيقولاوس" (مكان قصر النارنج اليوم). أما كنيسة القديس بولس (للسريان الكاثوليك) الواقعة إلى يسار باب شرقي، فقد أعيد بناؤها عام 1863، مع إعادة افتتاح كنيسة سلطانة العالم للأرمن الكاثوليك التي كانت وقتها مقرّ الرهبنة اليسوعية، وأصبحت في أربعينات القرن العشرين مطرانية الأرمن الكاثوليك. تلتهما كاتدرائية القديس أنطونيوس في باب توما عام 1864، وكنيسة القديس سركيس للأرمن الأرثوذكس التي كانت أساسا للسريان وتعود إلى ما قبل عهد الإسلام في دمشق.
أعيد افتتاح كنيسة سيدة النياح للروم الكاثوليك في حارة الزيتون عام 1865، على مساحة أوسع، وقد زُينت برسومات "الرخمجي" العريق يوسف وردة، وعمل معه لفيف من المهندسين الدمشقيين، مثل نقولا وردة ويوسف العنيد وأنطوان منصور ووهبة بهيت، تحت إشراف المعماري ميخائيل مسدية. كذلك أُعيد بناء كنيسة القديس سركيس للأرمن الكاثوليك وكنيسة منصور للآباء العازاريين عام 1866، وأعيد بناء مزار حنانيا عام 1870. أما عن الكنائس الجديدة التي جاءت بعد عام الفتنة، فكانت هناك الكنيسة الإنجيلية الوطنية في ساحة الدوامنة، التي اشترتها الإرسالية التبشيرية عام 1845، ونظرا لعدم الاعتراف بها طائفة مسيحية مستقلة، سُجل المكان باسم مالك البيت الذي تحول لاحقا إلى كنيسة لهم وبُنيت بعد التدمير، عام 1861. وجاءت كنيسة القديس بولس على السور (داخل باب كيسان)، أي باب بولس، خلف أرض تابعة لبطريركية الروم الكاثوليك، وكانت متصلة بكاتدرائيتهم سيدة النياح في حارة الزيتون. وقد منح الفرنسيون باب بولس للكاثوليك عام 1934 فحوّلوها إلى كنيسة على اسم القديس بولس، وهذا الباب هو الذي هُرِّب بولس الرسول منه عام 35م، بإنزاله ليلا بسلٍّ كبير من فوق الباب من قبل جاورجيوس البواب، هربا من اليهود. وقد هرب بولس الرسول إلى حوران، وكان مصير البواب القتل رجما، وقبره موجود في المقبرة الأرثوذكسية المقابلة في المقام مدفن الكهنة. ومن يومها صار المسيحيون الدمشقيون يدفنون موتاهم حول قبر هذا الشهيد، وصارت مقبرة تعرف باسم القديس جاورجيوس.
في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، فُتحت كنيسة القديسة تيريزا لطائفة الكلدان الكاثوليك في حارة بولاد بباب توما عام 1895. آخر الكنائس التي ظهرت في دمشق خلال العهد العثماني كانت كنيسة يوحنا بوسكو الإيطالية للاتين، وتقع خلف المستشفى الإيطالي، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بعام. الغريب أن فترة الانتداب الفرنسي لم تشهد بناء الكثير من الكنائس الجديدة، علماً أن الفرنسيين حاولوا تبني المسيحيين الدمشقيين كما فعلوا مع موارنة لبنان، وحاولوا أيضا إثارة الفتنة مجددا بينهم وبين المسلمين، خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925، عندما أمروا جنودهم بالانسحاب من الأحياء المسيحية، أملاً في أن يدخلها ثوار الغوطة لنهبها وتكرار مجازر 1860، ولكن هذا الأمر لم يحدث.
في زمن الفرنسيين، شُيدت كنيسة أنطوان البادوي لطائفة اللاتين في الصالحية وفي عام 1930 بُنيت كنيسة القديس كيرلس للروم الكاثوليك في حي القصاع. وفي عام 1932 بُنيت كنيسة الصليب المقدس للروم الأرثوذكس في بستان الصليب، وهو موقع دير الصليب المقدس الذي كان رهبانياً منذ مطلع القرن الخامس إلى تيمورلنك لتدميره وذبح رهبانه. وفي زمن الاستقلال، ظهرت كنيسة جديدة واحدة فقط عام 1951، هي كنيسة القديس جرجس للسريان الأرثوذكس في باب توما، دُشنت في عهد الرئيس هاشم الأتاسي، وبدأ العمل على بناء كنيسة يوحنا الدمشقي للروم الكاثوليك في شارع الأمير شكيب أرسلان، ولكنها لم تكتمل حتى عام 1963. أما في عهد الوحدة مع مصر، فلم يُفتتح إلا كنيسة واحدة، وهي كنيسة السيدة العذراء للسريان الأرثوذكس في شارع حلب عام 1961. ونشطت حركة العمران الكنائسي في الستينات، فكانت كنيسة القديس نيقولاس للروم الأرثوذكس في منطقة المزة عام 1965، وكنيسة السيدة فاطمة للسريان الكاثوليك في شارع حلب، وخلفها كنيسة يسوع نور العالم لطائفة الاتحاد المسيحي الإنجيلية في منتصف الثمانينات. وكانت كنيسة القديس ديمتريوس مقابل حديقة السبكي بالقرب من رابطة المحاربين القدماء، وهي للروم الأرثوذكس، اشترتها البطريركية الأرثوذكسية من عائلة أرثوذكسية وحولتها إلى كنيسة عام 1990.
وفي عام 1970 افتُتحت كنيسة القديس إغناطيوس أو كنيسة الممثلية الروسية لبطريركية موسكو في منطقة البزم (غرب المالكي) عام 1973. وفي يوم 7 أبريل/نيسان 1975، افتتحت كنيسة سيدة دمشق للروم الكاثوليك بالقرب من ساحة العباسيين. وفي عام 1980، وفي عام 1992 شُيدت كنيسة ميخائيل للروم الأرثوذكس في كورنيش التجارة، وكذلك بُنيت كنيسة القديس جاورجيوس للروم الكاثوليك شرق التجارة. وكنيسة القديس بولس الرسول التي تقع في الطبالة خارج السور الأثري لمدينة دمشق بالقرب من باب كيسان وباب شرقي في دويلعة.
فهل هذا التفجير الإرهابي سيزيد من أعداد المهجرين مما تبقى من المسيحيين السوريين، أم هو بداية لفتنة طائفية ومذهبية كبرى تؤدي إلى تقسيم سوريا؟ وهل سيتداعى الشرفاء والأحرار وما تبقى قوى وطنية لوأد هذه الفتنة في مهدها كي لا تتكرر مأساة فتنة 1860 (تنذكر وما تنعاد)؟
وإلى أن تصدح أجراس كنائس المسيحيين في سوريا والعراق ولبنان وبقية بلدان المنطقة بأمان، أكتفي بهذه اللمحة التاريخية المختصرة.
25/6/2025
0 comments:
إرسال تعليق