هذهِ القصيدةُ الرِّثائيّةُ "كيفَ نُعزّى؟" يرثي الشَّاعر جوزيف إيليّا عبرها البرينسيسة سيلينا، ابنة اخته نوال، قصيدةٌ مُفعمةٌ بالأحزانِ والمشاعرِ الوجدانيّةِ الفياضّةِ الموغلةِ في العمقِ، تتضمَّنُ رؤيةً شعريّةً شاهقةً بتجلِّياتِ صورِها الحزينةِ، الممتزجةِ بأسىً عائليٍّ وإنسانيٍّ وروحيٍّ، فقَدْ وُلِدَتْ بآفاقٍ شعريَّةٍ فيها الكثيرُ مِنَ الدَّلالاتِ والصُّورِ والانزياحاتِ الخلَّاقةِ في فرادتِها ورهافتِها. وأكثرُ ما لفتَ انتباهي في آفاقِ انبعاثها، هو متى وكيفَ تمكَّنَ الشَّاعرُ القس الفاضل جوزيف إيليّا أنْ ينسُجَ فضاءَاتِ هذهِ القصيدةِ بكلِّ ما جاءَ فيها مِنْ تجلِّياتٍ مُبهرةٍ بوقتٍ قصيرٍ جدّاً، وهو خالُ الأميرةِ الرَّاحلةِ سيلينا، ابنةِ أختِهِ نوال إيليّا، وابنةِ الدُّكتور يعقوب سليم عبدالأحد. مَن يقرأُ القصيدةَ، يندهشُ مِمَّا جاءَ في انسيابيَّتِها وفضاءَاتِ بوحِها مِنْ انزياحٍ وشموخٍ بديعٍ في تجسيدِ فضاءِ الحزنِ والأسى الَّذي صاغَهُ وكأنَّهُ في أوجِ إشراقاتِهِ، وتفرُّغِهِ للكتابةِ، في الوقت الَّذي كانَ مفجوعاً ومصدوماً وفي ذُروةِ حزنِهِ، وغائصاً في الاتصالاتِ الّتي ترِدُهُ مِنْ كلِّ الجهاتِ، فمتى كتبَ القصيدةَ بكلِّ هذا البوحِ الرَّهيفِ والتَّعبيرِ العميقِ، بما انبثقَ في رِحابِ جموحاتِهِ السَّامقةِ مِنْ صورٍ مُبهرةٍ في بنائِها الفنِّيِّ، وهذا يقودُنا إلى السُّؤالِ التَّالي: هَلْ يستطيعُ الشَّاعرُ أنْ يفصلَ حالةَ المأساةِ والحزنِ العميقِ عِنْ فضائِهِ الشِّعريِّ ويكتبَ نصَّهُ الشِّعريِّ بكلِّ هذهِ الحساسيَّةِ المُرهفةِ دونَ أنْ يتشتَّتَ مِنْ آثارِ الصَّدمةِ الَّتي يتلقَّاها، بَلْ نراهُ يزدادُ بوحاً وإبداعاً في عالمِهِ الانسيابيِّ الرَّقراقِ؟!
أقرأُ بينَ الحينِ والآخرِ بعضَ النُّقادِ يقولونَ أنَّ قصائدَ المُناسباتِ هي قصائدُ خاصَّةٌ بمناسبةٍ ولا يستحسن تعميمُها كقصائدَ شعريَّةٍ متفرّدةٍ في رصانتِها وتماسُكِها، وأتساءَلُ بدوري هَلْ يوجدُ قصيدةٌ ولا يوجدُ لها مناسبةٌ معيَّنةٌ؟ إنَّ كلَّ الشِّعرِ وكلَّ الكتاباتِ مِنْ كُلِّ الأجناسِ لَها مناسباتُها وحالاتُها وظروفُ انبثاقِها، لهذا أرى أنَّ قصائدَ المُناسباتِ سواءً كانَتْ أفراحاً أو أحزاناً هي قصائدُ عميقةٌ بمشاعرِها ورؤاها الخلَّاقةِ، وهذا يتوقَّفُ بحسبِ قُدرةِ الشَّاعرِ على التَّعبيرِ عَمَّا يختلجُ في ذهنِهِ مِنْ تجلِّياتٍ، وفي هذهِ القصيدةِ نجدُ كيفَ تمكَّنَ الشَّاعرُ أنْ يمسكَ بخيوطِ القصيدةِ رَغمَ انهماكِهِ في أنينِ المأساةِ الَّتي تلقَّاها بوفاةِ ابنةِ أختِهِ وهي في ريعانِ شبابها وبهائِها وأوجِ نجاحِها، فقد تخرَّجَتْ حديثاً مِنَ الجامعةِ كطبيبةِ عيون، كلُّ هذا يجعلُنا نشعرُ أنَّ القلمَ يتحجَّرُ بينَ أيدينا عندما نكتبُ شعراً أو نثراً إزاءَ هكذا حالةٍ مأساويَّةٍ، بينما نجدُ الشَّاعرَ جوزيف إيليَّا ينسابُ متدفِّقاً مثلَ ينبوعٍ عذبٍ، ويترجمُ مشاعرَهُ خلالَ دقائقَ معدودةٍ بوزنٍ عميقِ البناءِ، وبلُغةٍ مجنَّحةٍ تصلحُ أنْ تكونَ هذهِ القصائدُ وقصائدُهُ بشكلٍ عامٍّ نماذجَ يُحتذى بفضائِها عَنِ الموضوعاتِ الَّتي يطرقُها وما أكثرها، فقَدْ كتبَ عشراتِ القصائدِ، بَلْ مئاتِ القصائدِ عَنِ الحالاتِ الفرحيّة والحزنيَّةِ والاجتماعيَّةِ والحنينيَّةِ بأسلوبٍ راقٍ وعميقٍ.
القصيدةُ موزونةٌ على بحرِ الرَّمل التَّام، مُكثّفةٌ بصورِها ودلالاتِ فضائِها الجمالي، رغم مَسحاتِ الحُزنِ الَّتي عبَّرَ عنها، بلُغةٍ سلسةٍ مُشبّعةٍ بالرُّموزِ والإيحاءَاتِ المُضمّخةِ بالصُّورِ والمشاعرِ الفيّاضةِ، كأنَّنا أمامَ مَشاهدَ حيّةٍ، نكادُ نتلمّسُ وقائعَ الحدثِ الَّذي يرسمُهُ بكلِّ تفاصيلِهِ، فهذهِ القدرةُ على تصويرِ المشهدِ الأنينيِّ والحزنِ العميقِ لِمَا حَلَّ بوالدَي سيلينا والأسرةِ والأهلِ، تنمُّ على قدرةِ الشَّاعرِ على الإحاطةِ والتَّعبيرِ عمَّا حَلَّ بالجميعِ مِنْ صدماتٍ، مَاسكاً خيوطَ القصيدةِ كأنَّهُ يترجمُ أحداثاً قصصيَّةً بكلِّ دقائقِها ومتفرِّعاتِ حزنِها بتجلِّياتٍ وجدانيَّةٍ روحيَّةٍ عاطفيَّةٍ، تجعلُ القارئَ يذرفُ دمعتَهُ وكأنَّهُ داخلَ مأتمٍ، وقَدْ تمكَّنَ الشّاعرُ مِنْ أنْ يعكسَ مشاعرَهُ بلُغةٍ موشَّاةٍ، فيها مِنْ الانزياحاتِ الرَّهيفةِ الشَّيءُ الكثيرُ، إنَّهُ شاعرٌ مَجبولٌ بجمالِ القصيدةِ حتَّى وإنْ كتبَ عَنْ أقسى حالاتِ الحُزنِ والمآسي، فجمالُ القصيدةِ عندَهُ ينبعثُ مِنْ روحانيَّتِهِ الشَّفيفةِ المُنبثقةِ مِنَ الصَّفاءِ الذِّهنيِّ والفكريِّ والعاطفيِّ البديعِ، هو شاعرٌ إنسانيٌّ، فأيَّةُ قصيدةٍ نقرؤُها لَهُ نشعرُ بالعمقِ الإنسانيِّ المُتوَّجِ في فضاءَاتِها، فكيفَ لو كانَتْ هذهِ القصيدةُ منبثقةً عَنْ رثاءِ ابنةِ أختِهِ المدلَّلةِ الرّاحلة الأميرة سيلينا؟!
يقولُ الشَّاعرُ في مستهلِّ القصيدةِ: "ما تصوَّرتُ يومًا أنَّ هذهِ القصيدةَ المنتظرَةَ ستأتيني على هذا النَّحوِ"، فهذا التَّصريحُ ينمُّ عَنْ حالةِ مُفاجأةٍ صادمةٍ، بانزياحٍ موشّىً بالدَّلالاتِ الحزينةِ، والمَعاني العميقةِ في جراحِها، فبدلاً أن يتلقَّى أخباراً مُفرحةً، صدمَتْهُ المآسي والأحزانُ، فتحوَّلَتْ مرامي الأفراحِ إلى جبالٍ مرصرصةٍ بالأحزانِ! وقدْ جسَّدَ الموتَ كوحشٍ يفترسُ أجملَ ما عندنا، مُشبِّها البرينسيسة الرَّاحلة كأنَّها الطّبيعةُ الخلَابةُ، وقد غزاها جيشٌ مِنَ الغبارِ الفتّاكِ، ونتيجةً للأحزانِ العميقةِ، تنامى الأسى في بواطنِنا مثلَ الشَّوكِ الغادرِ، مُستخدماً لُغةً شاهقةً في انزياحِها بتشبيهاتٍ واستعاراتٍ مكتنفةٍ بشهقاتٍ أنينيةٍ مُتفرّدةٍ في تصويرِها، وهو يعكسُ ما يموجُ في أعماقِنا من مآسٍ على نفوسِ المفجوعين جميعاً.
انطلقَ الشَّاعرُ مصوِّراً لنا عوالمَ القصيدةِ على عدّةِ مساراتٍ في فضاءِ البوحِ، مُستخدماً رهافةَ الطَّبيعةِ بكلِّ ما فيها مِنْ مَعانٍ في إسقاطاتها وتشابيهها، فقَدْ كانَ للبستانِ، والشَّوك والهضابِ المضمَّخةِ بخصوبةِ الحياةِ، وتلألؤاتِ النُّجومِ السَّاطعةِ في عتمِ اللَّيلِ، وكانَتِ الطَّبيعةُ انعكاساً لحالةِ الفقدانِ وأيضاً أسقطَ عليها دلالاتِ الحزنِ والأسى الدَّفينِ، متوغِّلاً في جراحِ الإنسانِ وأنينِ المشاعرِ، فقدْ صوَّرَ لنا الشَّاعرُ مدى ضراوةِ الأسى المُستفحلِ في قلوبِ الأسرةِ برمّتِها، وكأنَّهم في حالةِ انهيارٍ لِمَا حلَّ بهم مِنْ فجيعةٍ ما بعدَها فجيعةٌ، مُسلّطاً جموحَهُ على منارةِ الرُّوحِ وفضائِها الخالدِ، فلَن تغيبَ عنّا رغمَ رحيلها، فهي باقيةٌ وخالدةٌ بألحانِها وحضورِها في أعماقِ القلوبِ، كأنَّها نورٌ يسطعُ في أعماقِ مُحبِّيها جميعاً، كرمزٍ للصفاءِ والنَّقاءِ والخلودِ!
وقَدْ غاصَ الشَّاعرُ عميقاً في ترمزياتِهِ، واعتبرَ سيلينا تمثِّل النَّقاءَ والأملَ، وما يخسرُهُ الإنسانُ في رحلةِ الحياةِ، ومشبّهاً المرضَ كوحشٍ مُفترسٍ، والموتَ كعدوٍّ رغمَ أنّهُ سُنّةُ الحياةِ، لكن في هذه الحالةِ أشبهُ ما يكونُ عدوّاً مُفترساً، واعتبرَ الرَّاحلة لحناً رنَّاناً خالداً، وكأنَّهُ يريد أنْ يقول لقرّائِهِ أنَّها ستبقى خالدةً في قلوبِنا، بعطاءَاتِها الرّاقيةِ. ولَمْ يتوقَّفِ الشَّاعرُ عندَ حالةِ الفقدِ والمأساةِ العائليَّةِ فحسب، بَلْ تجاوزَ هذهِ الخصوصيَّةَ ليقدَّمَ رؤيةً مفتوحةً شاهقةً تحملُ بُعداً إنسانيّاً عامّاً، لتجسيدِ الحزنِ كحالةٍ إنسانيَّةٍ يشتركُ فيها الجميعُ، فقدْ كانَ للبعدِ الرُّوحيِّ آفاقُهُ، مُؤكِّداً على أنَّ ربَّ الكونِ هو مُعزّينا الأوَّلُ والأخيرُ، مُركِّزاً على هشاشةِ حياةِ الإنسانِ، وما يفاجئنا في خضمِّ حياتِنا، ولكن الأهمَّ هو ما يتركُهُ الإنسانُ مِنْ قيمِ الخيرِ والمحبّةِ والجمالِ والعلمِ، فهذهِ القيمُ ستبقى خالدةً إلى الأبدِ!
فيما يلي القصيدة مع استهلالٍ لها من قبلِ الشاعر
كيف نُعزّى؟كنت أنتظر مشغوفًا افتتاحكِ عيادتكِ الخاصّة بعد تخرّجك طبيبة عيونٍ بامتيازٍ لأهنّئك بقصيدةٍ رنّانةٍ راقصةٍ وما تصوّرت يومًا أنّ هذه القصيدة المنتظرَة ستأتيني على هذا النّحو شاحبة الوجه ثقيلة الخطو محنيّة الظّهر مرتديةً ثوب حدادها لترثيك بدموعٍ غزيرةٍ حرّى
وقد غيّبك عدوّنا الموت بعد أن هاجمك بأنيابه الشّرسة وحش مرضٍ لعينٍ لم يمهلك طويلًا.
أوّاهُ، ما أفدحَ مصابي بك يا دكتورة سيلينا يعقوب سليم ابنة أختي نوال
وكم من الوقت سأحتاج لأتعزّى عن فقدانك الصّعب يا حبيبة خالك؟
آهِ "سِيلينا" لكَمْ موتُكِ صعبُ هدَّنا هدًّا كما تفعلُ حربُ
إذْ غزا بستانَنا جيشُ غبارٍ ونما فينا كشوكِ الوعرِ كَرْبُ
لا طعامٌ تُشتهى ألوانُهُ لا نغمةٌ تحلو ولا حكْيٌ وشُرْبُ
جرحُنا زادَ اتّساعًا وانكسرنا مُخفيًا ما قد حبانا الدّهرُ جُبُّ
في ربيعِ العمرِ ودّعتِ الحكايا يا وداعًا بَعدَهُ نَوْحٌ ونَدْبُ
سوف تبكيكِ مآقٍ وسواقٍ وحَوارٍ وسيشتاقُكِ طِبُّ
وصبايا الحيِّ تبكي ونجومٌ وهضابٌ وأناشيدٌ وكُتْبُ
يا ضياءَ الرّوحِ عنّا لن تغيبي والّذي أوقدتِ يومًا ليس يخبو
لحنُكِ الرّنّانُ باقٍ ما تهاوى شدوُهُ في مسمعِ الأيّامِ عذبُ
كنتِ كرْمًا مثمرًا ما نشتهيهِ وسطا الآنَ على دنياهُ جَدْبُ
إنّنا في ألمٍ كيف نُعزّى ومتى في صدرِنا يرتاحُ قلبُ؟
نحوَ جنّاتٍ فسِيري واستريحي ولنا في هذه المأْساةِ ربُّ
القس جوزيف إيليا
٢٠ / ٦ / ٢٠٢٥
0 comments:
إرسال تعليق