ما تحتاجه القضية الفلسطينية الآن هو أكثر من حراك بطولي شبابي فردي في القدس والضفة الغربية، فهي تحتاج إلى انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة تضع حدّاً لما حصل في العقدين الماضيين من تحريفٍ لمسار النضال الفلسطيني، ومن تقزيمٍ لهذه القضية التي كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض بين "سلطة فلسطينية" في الضفة الغربية وبين "الدولة الإسرائيلية" التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية.
وكما كان من الخطأ تصغير حجم القضية الفلسطينية في مجال العمل السياسي والمفاوضات، سيكون كذلك من الخطأ الآن تحجيم عمل المقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال بحصره على جبهة القدس والمسجد الأقصى فقط. فالمطلوب فعلاً الآن هو وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كلّ المنظمّات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلة وخارجها، ففي ذلك يمكن أن يتكامل أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كل المناطق الفلسطينية، ومع أسلوب المقاومة المسلّحة حينما يضطرّ الأمر إلى ذلك.
إنّ المشكلة الأساسية تكمن الآن في الانقسام الفلسطيني الذي ازداد حدّةً بعد توقيع اتفاقيات "أوسلو" والتي ثبت، بعد أكثر من عشرين عاماً، عجزها عن تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتستفيد إسرائيل طبعاً من تداعيات الحروب الأهلية العربية، ومن الموقف الأميركي الذي يساهم الآن في تهميش القضية الفلسطينية بعدما تراجعت إدارة الرئيس أوباما عن مطلب تجميد الإستيطان، وامتنعت عن ممارسة أي ضغط فعلي على حكومة نتنياهو طيلة السنوات الماضية من عمر العهد الأوبامي.
فتصريحات "البيت الأبيض" والخارجية الأميركية وأعضاء في الكونغرس بشأن الملف الفلسطيني، كلّها تكرّر ما يقوم به معظم الإعلام الأميركي من تشويه لحقائق الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل، ومن تصوير للمشكلة الآن في القدس والضفّة وكأنّها أزمة بين طرفين متساويين يمارسان العنف ضدّ بعضهما البعض! أو كأنّ ما تفعله إسرائيل هو مشابه لما تقوم به أميركا وحلف الناتو في أفغانستان وفي أماكن أخرى من ملاحقة وقتل لجماعات "إرهابية"!. فموضوع "الاحتلال الإسرائيلي" مغيَّب عن المواقف الرسمية الأميركية ومهمَّش كثيراً في الإعلام الأميركي، كما هو الظلم أيضاً في مساواة مسألة "الإرهاب" بالمقاومة ضدّ الاحتلال.
لكن المصيبة ليست في الموقف الأميركي فقط أو في بعض المواقف الدولية الأخرى، فالأوضاع العربية مسؤولة أيضاً عن حجم المأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني. فعناصر المواجهة العربية والفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي ما زالت حتّى الآن غائبة، ووحدة الشعب الفلسطيني ومنظماته وقياداته هي العنصر الأهم المفقود حالياً، وكذلك الحدّ الأدنى من التضامن الرسمي العربي المطلوب مع الشعب الفلسطيني. كلّ ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة نتنياهو من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأميركية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟!
ربّما أهمية ما يحدث الآن في القدس والضفة هي إعادة الحيوية لقضية فلسطين، التي جرى تهميشها عمداً في السنوات الماضية، وبالتالي تصحيح "البوصلة" العربية، بعدما تسبّبت "معارك التغيير الداخلي" بفقدان معيار معرفة الصديق من العدوّ!.
لقد أوقفت السلطة الفلسطينية التفاوض مع إسرائيل، لكن ما البديل الذي طرحته؟ وهل أعلنت مثلاً التخلّي عن نهج التفاوض لصالح أسلوب المقاومة المشروعة ضدَّ الاحتلال؟ هل تّمت إعادة بناء "منظمة التحرير الفلسطينية" لكي تكون "جبهة تحرّر وطني" شاملة توحِّد الطاقات والمنظمّات الفلسطينية المبعثرة؟ ثمَّ ماذا لو استجابت حكومة إسرائيل لمطلب "تجميد الاستيطان" لبضعة أشهر، فهل يعني ذلك برداً وسلاماً في عموم المنطقة؟ وكيف لبضعة أشهر أن تصنع التحوّل في حكومة إسرائيلية قامت على التطرّف ورفض الاتفاقات مع الفلسطينيين، بحيث تقبل هذه الحكومة بدولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس، وبإنهاء المستوطنات وإعطاء اللاجئيين الفلسطينيين حقوقهم المشروعة؟!.
المراهنة فقط على أسلوب التفاوض مع إسرائيل هو مراهنة على سراب، وهو أضغاث أحلام لا جدوى فلسطينياً وعربياً منها. فما هو قائمٌ على أرض الواقع هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضات أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الكفيل حصراً بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين الإسرائيلي والدولي.
إنّ مسألة المستوطنات هي رمزٌ لمدى العجز العربي والضعف الأميركي من جهة، والاستهتار الإسرائيلي من جهةٍ أخرى بمن يمدّ إسرائيل بالسلاح والمال والدعم السياسي لعقود طويلة. فإذا كانت الإدارة الأميركية (ومعها كل أطراف اللجنة الرباعية) غير قادرة على إجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات، فكيف ستجبرها إذن على إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتسهيل بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة؟!
إنَّ الظروف الآن مناسبة جداً لفرض أجندة إسرائيلية على المنطقة يكون الهدف الأساسي فيها هو التشجيع على الصراعات الطائفية والإثنية، وتكثيف الإستيطان، وإخضاع الفلسطينيين لمشيئة المحتلّ الإسرائيلي، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى إدارة مدنية ترعى شؤون الخدمات وتشكّل امتداداً أمنياً لإسرائيل وسط المناطق الفلسطينية، مع توطين الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلة.
وإذا كانت الأوضاع السائدة في المنطقة حالياً واضحةً جداً في كيفيّة خدمة المشروع الإسرائيلي، فإنَّ مقارنة حال الوضع الإسرائيلي مع الوضع العربي والفلسطيني تجعل الرؤية أيضاً واضحة لكيفيّة الخروج من المأزق الذي هي عليه الآن السلطة الفلسطينية.
فلِمَ لا تحسم السلطة الفلسطينية أمرها بإعلان أنّها أمام خيارين: إمّا التحوّل إلى إدارة مدنية تخدم إسرائيل وأمنها واحتلالها، أو الانتقال الفعلي إلى صيغة "جبهة تحرّر وطني" تجمع وسطها كل التيارات والقوى التي تنسجم مع إستراتيجيةٍ واحدة، تطالب بالحدّ الأدنى من حيث الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس الشريف، وبناء دولة فلسطينية مستقلة على هذه الأراضي (وعاصمتها القدس)، ثمّ تفاوض هذه الدولة حين قيامها على مصير اللاجئين الفلسطينيين دون التخلّي عن حقوقهم المشروعة التي نصّت عليها القرارات الدولية.
وحينما تتحوّل السلطة الفلسطينية إلى "جبهة تحرّر وطني"، فسيكون من واجبها - كما هو من حقّها- تحديد أساليب المقاومة وأمكنتها والجهات التي تقوم بها لكي لا يحدث أي خلل سياسي وأمني في الساحة الفلسطينية، ولمنع إسرائيل من استغلال أي عملياتٍ فردية قد تسيء إلى معركة التحرّر الوطني الفلسطيني..
واقع الحال الآن أنَّ السلطة الفلسطينية تتصرّف وكأنّها دولة مستقلة ذات سيادة بينما هي مؤسسات مستباحة يومياً تحت الاحتلال الإسرائيلي، والأجدر بها (أي السلطة) أنْ تتصرّف وكأنّها جبهة وطنية لمقاومة الاحتلال حتّى لا تصل إلى مستوى الإدارة المدنية للاحتلال. عند ذلك، ستعود الحيويّة إلى الشارعين العربي والفلسطيني، وسيجد الإنسان العربي أملاً في جهةٍ ما تسير على طريقٍ سليم يجمع بين وضوحٍ في الرؤية، وبين أسلوبٍ سليم في التعامل مع مسألتيْ المقاومة والتفاوض.
13-10-2015
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
Sobhi@alhewar.com
0 comments:
إرسال تعليق