وُلدَ تحت سقفٍ شيدته أوجاع الحياة في 29 نيسان 1940 في قرية تنورين التي تعدّ إحدى البلدات الأساسيّة في قضاء البترون بمحافظة الشمال اللبنانية. ترعرع في بلدة تكثر فيها البساتين وتتعدد مناظرها الخلاّبة. تأثر بطبيعة أمتازت بأكثر غابات الأرز في لبنان كثافة وتنوعًا، تتخللها تلال، قمم ووهاد، أخاديد صخرية وكهوف طبيعية؛ تتفجر في سفحها وأوديتها مجموعة من الينابيع العذبة، لتغدو ملتقى الطيور التي تمرح هانئة في أجوائها. بلدة تكسو الزهور أراضيها. الفراشات الزاهية تتهادى بين الورود والرياحين، على شدو الطيور المغردة، أما الأشجار فقد تفتقت براعمها ثمارًا. في الخريف تتعرى الأشجار من أوراقها، حيث الطيور المهاجرة في طريقها الى البعيد،وفي الشتاء تغلف الثلوج البيضاء مساحاتها الخضراء؛ أسوق هذه المقدّمة لأن طبيعة تنورين كان لها إنعكاساتها في بروز موهبة الأستاذ مروان التي ألتفت لها اساتذته في دراسته الابتدائية، إذ كان ينظم الشعر الزجلي وينشد النثر المدور وهو في سنّ العاشرة، متغزلاً بالطبيعة وكأنها الأم أو الحبيبة.
نشأ الدكتور مروان كسّاب في كنف عائلة كبيرة في بيتٍ سياسي وأدبي عريق، والده المرحوم حنّا كسّاب كان خطيبًا وشاعرًا معروفًا، أما والدته المرحومة ماري هي الأبنة الوحيدة للمرحوم بطرس صادق طربيه الذي كان على جانبٍ كبير من الثروة الإجتماعيّة والمادية آنذاك.
إنّه الشاعر الذي اعده البعض ظاهرة في الشعر الزجلي سيّما أنه لا يلتزم الشعر المكتوب ويعشق الإرتجال، وهو الأديب الذي هزّ الآخرين ببلاغة الكلمة التي لا تطلب من سامعها أو قارئها اللجوء إلى القواميس اللغوية. طيّب القلب، صاحب نكتة، لا يعرف الأنانية والغرور، فلسف العتابا وأحسن نظم الشروقي إلى درجة قصوى.
هو المربي الفاضل والمحامي الفذ، واستاذ القانون البارع والقاضي الإنساني في ميزان العدالة، الذي كان يسعى لمصالحة موكليه مع خصومهم ولو على حساب أتعابه. وقد قيل لي وقرأت عنه أنه كان يدفع رسوم إخلاء السبيل عن بعض موكيله الذين لم يتيسر المال لديهم. تخرج من كلّيّة الحقوق عام1968. نال شهادة الماجستير عام 1989 في القانون. حاز عام 1997 على شهادة دكتوراه في الحقوق من الجامعة اللبنانية/ الصنائع، وهي اعلى درجة دكتوراه في القانون. كلف ليكون محاميًا للدولة اللبنانية، دون أن ينساق خلف المغريات المادية، مملوءًا بالعدالة متسلحًا بالفضيلة المهنية، لكنه بقي فارغ الجيب، فاستحق عن جدارة أن يكون محاميًا للشعراء، وشاعرًا للمحامين، ومنقذًا للمظلومين، وخبزًا لجياع الكلمة، فقد عرف بكرمه ونبله ورقة قلبه الحنون، في حين أن من القضاة يبدون قساة القلوب. كما درّس الأدب الفرنسي في مدارس الدولة اللبنانية.
عام 1968 أصدر باكورة مؤلفاته " فجيعة الضمير"، وأطل على القرّاء عام 1972 بكتابه " نحيب الذكريات". "لبنان في الغربة" كان وليده الأدبي الثالث الذي رأى النور عام 1978. أنقطع عن نشر مؤلفاته لمدة قاربت العشرين عامًا، لكنه لم يترك الكتابة. عام 1998 صدر له كتابان:" مدفن الأسرار"و " المسؤولية عن مضار الجوار" وهو كتاب حقوقي. كما نشرَ عام 2009 كتابه " بيارق الاستقلال". وفي سيدني لم تسمح له الظروف إلّا بنشر كتابه الوحيد والفريد " دموع الخريف"، ولا تزال له كتب عديدة أدبيّة وحقوقيّة وشعريّة قيد الطبع.
ذلك هو د. مروان كسّاب المواطن اللبناني الذي رفض ان يمحو سجل لبنانيته بمنشفة مبللة بخطإ أو خطأين أو حتّى ثلاثة من ساسة العصر في لبنان الموجوع!، تحوم حوله ذكريات الأمس كما يحوم النسر حول فريسته، بعد أن غدرته الظروف في أوج تألقه الأدبي والقانوني. أنسحب بِلا هزيمة، ركض هاربًا من وسط اللهب ليجد ذاته بين نيران الغربة. ومن وراء النار لا زال يطرب شعرًا بجسمٍ من الرماد وروحٍ من الدخان، يتلظى شوقًا وحنينًا لرؤية الارز، بعد أن وطأت قدميه أرض سيدني عام 2000 قادمًا من لبنان.
قاضٍ نزيه، لم يراقب أحدًا، بل تلصص الأخرون عليه كثيرًا، بسبب آرائه السياسية في بلدٍ تتعدد فيه الأحزاب، أعتقلت كلمته مرارًا وتكرارًا، لكن حروفه الناصعة افلتت من مقصلة الإعدام، جُلد قلمه، لكنه لم يسقط منكسرًا.
وريقات الخريف تناثرت من ذكريات الأيام الغابرة، مُشخصًا الداء، واصفًا الدواء، وسط حصار ممتد داخل النفس، لم يبح بمكنون فؤاده، ما يريد قوله لم يقل منه سوى القليل.
يحملُ اعوامه الـ 75 على جسدٍ نحيل، يواصل رحلة الحياة برأسٍ مرفوعة وبوجهٍ أبيض وعينين صغيرتين نقيتين مفتوحتين على الحياة، بيد أنّ كلّ هذه الصفات لا تعادلها صفة واحدة، صفة تختزل بكلمة أخلاق، فذلك الإنسان الخلوق صاحب الملامح اللبنانية، يحمل قلبًا كبيرًا وعقلاً أكبر وموهبة شعرية لا تشيخ، على مرجوحة الآمال يعيش ما تبقى من العمر الهارب،
ولا ادري لماذا الليل يعشقه حدّ الغرام؟ لدرجةٍ يسمره السهر أشتياقًا لموطن الأجداد. غارق هو في بحر الانتظار، والوقوع تحت طائلة الانتظار يصيب النفس بالضجر والنفور.
كلّ محاولات العيش التي يقوم بها، هي محاولات لاطلاق حريته المُكبلة بسلاسل الغربة؛ غُربة جعلت للخريف دموعًا، نثر على وريقات ارصفتها دررًا في زمن فقر السطور، لا يدعي النبؤة ولا يبالغ بالتغني بأدبه الراقي، لأنه شاعر خلوق، مرموق، متواضع، بل هو الرقي بعينه، لا هو من قال ذلك، بل هذا ما قالوه الناس عنه في لبنان وسيدني.
ويطيب لي هُنا أن أدرج كلمة مقتضبة بعنوان" أتيتك من عروس الشرق- بغداد" كنتُ قد ألقيتها مساء يوم الجمعة الواقع في 9 تشرين الأوّل 2015 في قاعة سيّدة لبنان بسيدني خلال عرس أدبي وقّع ليلتها الشاعر د. مروان كسّاب ديوانه " دموع الخريف".
مُنذُ أسرجَ الليلُ نجومهُ، ايقظتهُ الغربةُ على اوجاعِ لبنان.
في دموعِ الخريف ، مأساةُ وطنٍ في قلبِ إنسان، رسمَها قلمُ قاضٍ كالفنان.
جعلَ للربيعِ أبتسامةً، بانيًا للخوف مذوذًا، مُشيدًا للكلمةِ الحرة الجميلةِ قلاعًا.
لأجلِ صباحاتٍ مُشرقة. علّق الحبرُ أقلامهُ في سَقفِ الليل، فكانت ومضاتُ قلمهِ قناديلَ، تنثرُ اضواءَ النجومْ، في ليلٍ شديد الدُجى.
إمتطى جوادَ الشعرِ، واستلَ سيفَ القانونِ، تاركًا ابجديته تبوحُ بدموعِ شاعرٍ، غدا صوتًا صارخًا في بريةِ الشعر ِالمهجري.
من سيدني إلى لبنان، انسابت دموعُ شاعرٍ كسّاب،
وهأنذا ورابطةُ البياتي للشعرِ والثقافةِ والأدبِ، أتيناكَ من أرضِ العراق، من حضرةِ أبي نؤاس والسياب والمتنبي والبياتي، نكففُ الدموع، ونُكرمُ شاعرًا من حضارةِ لبنان، من طينةِ نُعيمة والخوري والقزي والبعيني وجبران.
أتيتُكَ اليومَ يا كسّاب كنهرٍ مُنسّاب. حتّى نلتقي لأشبك يدي في يديكَ، لا هنا بل في بغدادِ الشعرِ والصورِ والمعلقات، وأُزين صدركَ ثانيةً بقلادةِ إبداعٍ على ضفافِ فُراتْ الحضارات. ألفُ مبروك التكريم.
ختامًا... لقد توطدت مع الشاعر المحبوب د. مروان كسّاب أسباب الصداقة يوم ألتقى نخبة من المثقفين العراقيين واللبنانيين في مقر القنصلية العراقيّة في سيدني عام 2013؛ حيث أشادَ الرّجل بكلمةٍ ارتجلتها في تلك المناسبة. كما فعّل الصالون الأدبي الذي تقيمه الأخت الدكتورة بهية أبو حمد أحاديثنا رغم أنني مقلٌّ جدًا في المواظبة على جلساته.
كان أبو وليم قد أكرمني بقطعةٍ نثرية ألقاها في حفل توقيع كتابي أحاديث قلم، فرديت له الدين يوم وقّع ديوانه "دموع الخريف". ولعلّي لا أنسى دموعه وتأثره لحظة ارتجل كلمة عن دموع الخريف في تلك الأمسية، حيث تركت اثرها في مرامي الروح، وكيف خفق قلب ولده وليم خوفًا على والده الذي أختلط صوته بالعبرات، كصوت نحيب الأشجار.
لقد عرفته رجلاً تعتصره الحسرة، في عينيه دمعة ولوعة، يتكاثر الحزن بقلبه، لكنه أعتاد أن يُبلل ريشته ببسمة الحياة. كما عُرف بخفة ظلّه وبحديثه الممتع. يفضل حياة منعزلة، يتردّد عليه الاصدقاء والمريدون، وقد سمحت لي علاقتي الودّية معه أن اناقشه بشكلٍ صريح في ضرورة الإنفتاح والخروج من شرنقة الحزن، واسديت له ذات يوم الرأي بضرورة إظهار قدر أكبر من المشاركة وتجنب العزلة الزائدة عن الحد، فالأصدقاء يتبادلون الزيارات ويتشاركون في كثير من المناسبات الأدبية لتعميق الودّ وكسر الحواجز والتغلب على الغربة، وها هو منذ زمن ليس بالبعيد يتواجد في معظم المناسبات، بطلبٍ من متذوقي الشعر الزجلي الذين يقصدون مروان لسماعه.
قرأت في بؤبؤه علامات جرأة أدبية نادرة، وجاءني من صوته العالي وجع الأغتراب الذي يقضّ مضجعه، أما في شعره فقد وجدت معاناة مهاجر، لكنها إضاءات تُضيء وحشة الفجر وساعات الليل الطويل. وستبقى شهادتي مجروحة بتقييم مرواننا، فمَن أنا مِن ذلك الآتي من ينابيعِ تراتيلِ القديسين المعبّقة ببخور المحبّة، أجل مَن أنا مِن ذلك الذي طوبه الشعر مُحاميًا للشَعراء. فمباركة شفرة يراعه، ومباركة ثمار قلمه الذي بلله بدمعة القلب الطاهر، وطوبى لذلك التاج المرصع بحجر الزاوية في سماءِ الكلمات. فلا يتجادل إثنان بأنّ أبا وليم هو هدية أغدقتها علينا مآقي السماء.
مودة أدق وأرق من نسائم الصباح البغدادية والتنورية أحملها إلى قاضٍ وزناته ميزان عدل، وشاعرٍ أوزان شعره بمقياس القلب والفكر، فهنيئًا لنا نحن ملة الأدباء المغتربين لأننا عاصرنا شاعرًا بقيمة مروان كسّاب.
0 comments:
إرسال تعليق