باحث عربي وأكاديمي من فرنسا
قرأتُ ما كتبتَه في القدس العربي يوم 4 أبريل 2016 عن " فزاعة التوطين والاستعباد الجنسي " دفعة واحدة وكأنّك جالس أمامي أو بقربي تتكلّم إليّ وأنا أسمعك دون أن أقاطعك. قرأتك وسمعتك إلى درجة أنني أخذت بدوري كلماتي وقذفتها دفعة واحدة حتى أنهيتها أو بالأحرى أنهكتني ! هذا هو حال الكتابة الحقّة : أمواج عنيفة، مرتفعة ومرتطمة، تخبط صاحبَها رامية به إلى الأغوار، وتستدرج قارئَه إلى 'هَوْلِها' المظلم في حركيّة هائجة وإيقاع قوي سريع غير منقطع، ثم تتقدم به إلى الأمام لتلفظه، كحوت يونس، على شاطئ ما !
كلماتك، ياصاحب الضمير اليقظ، حيّة بالمعنى الحرفي لِما تعبّر عنه أي أنها منفعلة غاضبة ساخطة ثائرة، جريحة مؤلمة حزينة، لكنها بالخصوص شجاعة وصائبة، بل أكثر من هذا وذاك هي صادقة ومخلصة لنفسها أي للقيم التي تدافع عنها وتدعو لها.
أنت بهذا تحقّق لكتابتك خاصية قلّما توجد في كتابة الآخرين من المفكرين والمحللين والأدباء. أقصد الانسجامَ بين الكتابة والرؤية الإنسانية (الحضارية) للمفكّر كفرد اختار لنفسه أن يكون من بين المُرمى بهم في شدق " حكمة " طاحونة الأحداث. وأنت تعرف أنّ الكلام فعل حقيقي كما الكتابة هي الأخرى كلام ينبع من الأحشاء وله واقع يؤكّد أنه جزءٌ لا يتجزأ ممّا يكتب الكاتب عنه ويتحمّس له ويحلم به ويصبو إليه. إنّ القرّاء لَيُحِسّون أمام كلام كتابتك أنهم أمام مثال ملموس لمقاربة ابن جنّي للكلام حين قال في ' خصائصه ' ما معناه فأصاب : وإنما الكلام من الكَلِم أي أنه نتيجة مباشرة لحاجة الجراح والآلام في الإفصاح عن نفسها بأصوات وحروف وصياغة تخرجها إلى الوجود المرئي لعلّها تلقى صدى إيجابيا عند الأحياء .. لكن، للأسف – لا جدوى من إضافة ' الشديد ' أو صفة أخرى من صفات القوة السلبية المتعدّدة لحالة الأسف - لا حياة لمن تنادي ..
وأنا أقرأ هذه الصرخة العالية المتفرّدة ضدّ الانحطاط وضدّ الفضيحة وضدّ التعفّن وضدّ التفسيرات المتفذلكة الهاربة من الحقيقة المُرّة الساطعة العارية، وضدّ الانهيار الأخلاقي المثير للاشمئزاز، أراكَ محمرّ الوجه، مقطّب الحاجبيْن، تشير بيدك في كلّ اتجاه، تضرب بقبضتك على الطاولة، تقوم من مجلسك، ترمي بنظرك إلى أفق ما، تتكلم بسرعة البرق وقوة الرعد... كلّ هذا ليس لأنّك لا تفهم ما يحدث لنا بل لا تفهم كيف لا يفهم كلّ مسئول أنه يقود البلد والوطن إلى الهلاك اليقين بعيون مفتوحة مائة بالمائة. اسمح لي هنا أن آخذ منك عبارة أعتبرها خلاصة الخلاصات المتعلقة بواقعنا الشكيزوفريني (المنفصم ذاتيا) الذي يمكن تعميمه دون مبالغة على مرضنا الجماعي العضال : " هؤلاء السوريات اللواتي تلطخت أجسادُهن وأعمارُهن أشرف وأنقى وأطهر منا جميـــــعا، إنهن مرآتنا التي تنتصب في وجوهنا كي تقول إنه آن الأوان كي ننظر ونرى. نظرة واحدة في هذه المرآة تكفي كي تكشف كل شيء، ونكون وجها لوجه أمام هذا العار الذي صار عارنا جميعا ".
عارنا، ياأخي إلياس، أنّنا داعشيون حتى النخاعة، بل إننا أدعش من داعش لأننا بكل بساطة ما زلنا نصرّف – كما فعلنا لمدة طويلة في الماضي- فعل ' دعش ' في الحاضر، وحالنا يقول أننا سنتفنّن في تصريفه إلى المستقبل القريب والبعيد، بلهجة الأمر وتحت كلّ أشكال الإثبات.
الداعشية، كفكر وسلوك مترادفيْن للهمجية والبربرية والوحشية والتخلف، هي الوجه الذي يرفض أن ينظر إلى نفسه في المرآة. إنّ عقيدته قائمة على تكسير المرايا والايمان بالتوهّم والأشباح والموتى. ونحن، على كثرتنا، دواعش عوالمُها نُحتت من شظايا هذه المرايا الراقدة في سجون وسراديب وعتمة كبت جنسي مسموم، وإحباطات متكرّرة مدمّرة للإرادات !
بصراحة، كم أتمنّى أن أكون بجوار إنسان مثلك نتكلّم ونتناقش كي أستفيد من رؤاك ووجهات نظرك. لكن بما أن هذا غير ممكن تبقى الكتابةُ المتكلّمةُ الجسرَ الذي يسمح بالعبور إلى الجهة الأخرى والارتماء في فضاءات الآخرين ورؤاهم التنويرية. إنها تسمح بالتقريب بين العقول والقلوب، وتعمل على الجمع بين الأفكار والمواقف، والدفع بالمشاعر والأحاسيس إلى التداعي والتفاعل في زمن عربي إسلامي يبتعد أكثر فأكثر عن ذاته وثوابته، ولا يفهم أنّ المخرج الوحيد يكمن بالأساس في التفاتة إنسانية إلى الآخر الذي يطالب بحقه الطبيعي في أشياء اسمها الكرامة والحرية والعدالة.
قرأتُ ما كتبتَه في القدس العربي يوم 4 أبريل 2016 عن " فزاعة التوطين والاستعباد الجنسي " دفعة واحدة وكأنّك جالس أمامي أو بقربي تتكلّم إليّ وأنا أسمعك دون أن أقاطعك. قرأتك وسمعتك إلى درجة أنني أخذت بدوري كلماتي وقذفتها دفعة واحدة حتى أنهيتها أو بالأحرى أنهكتني ! هذا هو حال الكتابة الحقّة : أمواج عنيفة، مرتفعة ومرتطمة، تخبط صاحبَها رامية به إلى الأغوار، وتستدرج قارئَه إلى 'هَوْلِها' المظلم في حركيّة هائجة وإيقاع قوي سريع غير منقطع، ثم تتقدم به إلى الأمام لتلفظه، كحوت يونس، على شاطئ ما !
كلماتك، ياصاحب الضمير اليقظ، حيّة بالمعنى الحرفي لِما تعبّر عنه أي أنها منفعلة غاضبة ساخطة ثائرة، جريحة مؤلمة حزينة، لكنها بالخصوص شجاعة وصائبة، بل أكثر من هذا وذاك هي صادقة ومخلصة لنفسها أي للقيم التي تدافع عنها وتدعو لها.
أنت بهذا تحقّق لكتابتك خاصية قلّما توجد في كتابة الآخرين من المفكرين والمحللين والأدباء. أقصد الانسجامَ بين الكتابة والرؤية الإنسانية (الحضارية) للمفكّر كفرد اختار لنفسه أن يكون من بين المُرمى بهم في شدق " حكمة " طاحونة الأحداث. وأنت تعرف أنّ الكلام فعل حقيقي كما الكتابة هي الأخرى كلام ينبع من الأحشاء وله واقع يؤكّد أنه جزءٌ لا يتجزأ ممّا يكتب الكاتب عنه ويتحمّس له ويحلم به ويصبو إليه. إنّ القرّاء لَيُحِسّون أمام كلام كتابتك أنهم أمام مثال ملموس لمقاربة ابن جنّي للكلام حين قال في ' خصائصه ' ما معناه فأصاب : وإنما الكلام من الكَلِم أي أنه نتيجة مباشرة لحاجة الجراح والآلام في الإفصاح عن نفسها بأصوات وحروف وصياغة تخرجها إلى الوجود المرئي لعلّها تلقى صدى إيجابيا عند الأحياء .. لكن، للأسف – لا جدوى من إضافة ' الشديد ' أو صفة أخرى من صفات القوة السلبية المتعدّدة لحالة الأسف - لا حياة لمن تنادي ..
وأنا أقرأ هذه الصرخة العالية المتفرّدة ضدّ الانحطاط وضدّ الفضيحة وضدّ التعفّن وضدّ التفسيرات المتفذلكة الهاربة من الحقيقة المُرّة الساطعة العارية، وضدّ الانهيار الأخلاقي المثير للاشمئزاز، أراكَ محمرّ الوجه، مقطّب الحاجبيْن، تشير بيدك في كلّ اتجاه، تضرب بقبضتك على الطاولة، تقوم من مجلسك، ترمي بنظرك إلى أفق ما، تتكلم بسرعة البرق وقوة الرعد... كلّ هذا ليس لأنّك لا تفهم ما يحدث لنا بل لا تفهم كيف لا يفهم كلّ مسئول أنه يقود البلد والوطن إلى الهلاك اليقين بعيون مفتوحة مائة بالمائة. اسمح لي هنا أن آخذ منك عبارة أعتبرها خلاصة الخلاصات المتعلقة بواقعنا الشكيزوفريني (المنفصم ذاتيا) الذي يمكن تعميمه دون مبالغة على مرضنا الجماعي العضال : " هؤلاء السوريات اللواتي تلطخت أجسادُهن وأعمارُهن أشرف وأنقى وأطهر منا جميـــــعا، إنهن مرآتنا التي تنتصب في وجوهنا كي تقول إنه آن الأوان كي ننظر ونرى. نظرة واحدة في هذه المرآة تكفي كي تكشف كل شيء، ونكون وجها لوجه أمام هذا العار الذي صار عارنا جميعا ".
عارنا، ياأخي إلياس، أنّنا داعشيون حتى النخاعة، بل إننا أدعش من داعش لأننا بكل بساطة ما زلنا نصرّف – كما فعلنا لمدة طويلة في الماضي- فعل ' دعش ' في الحاضر، وحالنا يقول أننا سنتفنّن في تصريفه إلى المستقبل القريب والبعيد، بلهجة الأمر وتحت كلّ أشكال الإثبات.
الداعشية، كفكر وسلوك مترادفيْن للهمجية والبربرية والوحشية والتخلف، هي الوجه الذي يرفض أن ينظر إلى نفسه في المرآة. إنّ عقيدته قائمة على تكسير المرايا والايمان بالتوهّم والأشباح والموتى. ونحن، على كثرتنا، دواعش عوالمُها نُحتت من شظايا هذه المرايا الراقدة في سجون وسراديب وعتمة كبت جنسي مسموم، وإحباطات متكرّرة مدمّرة للإرادات !
بصراحة، كم أتمنّى أن أكون بجوار إنسان مثلك نتكلّم ونتناقش كي أستفيد من رؤاك ووجهات نظرك. لكن بما أن هذا غير ممكن تبقى الكتابةُ المتكلّمةُ الجسرَ الذي يسمح بالعبور إلى الجهة الأخرى والارتماء في فضاءات الآخرين ورؤاهم التنويرية. إنها تسمح بالتقريب بين العقول والقلوب، وتعمل على الجمع بين الأفكار والمواقف، والدفع بالمشاعر والأحاسيس إلى التداعي والتفاعل في زمن عربي إسلامي يبتعد أكثر فأكثر عن ذاته وثوابته، ولا يفهم أنّ المخرج الوحيد يكمن بالأساس في التفاتة إنسانية إلى الآخر الذي يطالب بحقه الطبيعي في أشياء اسمها الكرامة والحرية والعدالة.
0 comments:
إرسال تعليق