يجب أن يكون حكامنا جيدين ليستطيع أبناؤنا أن يعيشوا بسلام وأمان، وحتى لا تجرحنا ولا تحرجنا إجابتنا لهم على أسئلتهم الفطرية، أتدرون لماذا؟ ابني الصغير يسألني عن الرئيس إن كان جيّدا أم لا. لم أجبه سوى بجملة عامة، لم تشفِ غليله. بقي السؤال معلّقا في ذهنه، من المؤكد أنه لم يقتنع. وكيف سيقتنع، وهو يرى كل حين عشرات (الفيديوهات) من خلال شاشة هاتفه الصغيرة تتندر على الرئيس. أعتقد أن على الحكام جميعا أن يقفوا عند هذه المسألة وِقفة تأنٍ وتأمل، ليحسّنوا من صورتهم لا ليحاربونا أو يمنعونا عن مثل تلك المخرجات التي تقتحم حياتنا غصباً عنّا، فهذا الجيل لا أحد يستطيع أن يَكْذِبَ عليه أو يشوّه وعيه. فثمة مزاج عام يساهم في بناء الوعي لديه، بعيدا عن لغة التعقل الكاذبة التي نمارسها أحياناً لنبرّر أخطاء وخطايا وآثام الحكام والحكومات.
هذا الطفل وجيله من أبناء (التك توك) لن يقتنع بكلامي وكلام التزييف الإعلامي، وأنا سأكون محرجا أمامه وأنا أحاول أن أرواغ. هذا الجيل لا يحبّ المراوغة. يريد إجابة واضحة ومحددة وقاطعة وبسيطة يفهمها مباشرة، وتعزز ما يراه عبر سيل الفيديوهات التي نجحت- في اعتقادي- أن تكون معلّماً أصيلا، أقوى من سلطة الأب ومعلم المدرسة.
سؤال صغيري كان محرجاً، لاسعاً، مفاجئاً، أعاد إليّ التفكير بالفعل بعمل المثقف، ومن هو المثقف، فلا أظن أن المثقف هو قارئ الكتب النهم الذي يسجل في أجندته أنه قرأ (100)كتاب سنويا مثلا، إنها لا تعني شيئا، إذا لم تصنع من قارئها شخصا مقاوما للعبث، وشكلت لديه موقفاً يدافع عنه بشراسة ليكون مستعداً للموت في سبيله، بهذا المنطق، وبهذا التأسيس ثمة مثقفون مهمّون لم يكونوا كتّاباً، فقط كانوا أصحاب قضية ووعي مستنير كباسل الأعرج ونزار بنات ومنى الكرد على سبيل المثال لا الحصر، وحتى الكتّاب ليس بمقدوري أن أعدّهم كلهم مثقفين، فكيف يكون مثقفا من يكتب تهويمات في الفضاء، وليس معنيا بالتغيير، وعلى هذا التأسيس أيضاً، فإن الكتب؛ يؤلفها أصحابها لتكون أدواتٍ للتعبير عن المواقف، وليس مجرد كتب تلفظها فوّهات المطابع دون أن تدفع كتّابها- قبل القرّاء- إلى مساءلة الواقع وتغييره. لذلك تعد كتب غسان كنفاني وأنطون سعادة وإدوارد سعيد كتبا للتعبير عن مواقفهم السياسية، وتجسّد رؤيتهم ورؤاهم كمثقفين مشغولين بالرأي العام والقضايا التي آمنوا بالدفاع عنها، ومنها القضية الفلسطينية، فكل ما كتبه غسان على سبيل المثال يتمحور حول فلسطين الأرض والتاريخ والإنسان. لم يلتفت إلى غير ذلك، فجاء مشروعه في الكتابة مكرسا لخدمة هذا المحور، كما فعل أيضا- فلسطينيا- إدوارد سعيد، فمشروعه النقدي كان يدور في فلك واحد وإن تعددت دوائره واتسعت مضامينه. وينطبق هذا أيضا على المرحوم أنطون سعادة الذي كرّس كتاباته؛ كتبا ومقالات من أجل هدف محدد، وإن لم يكن لديه الكثير من المؤلفات، ولكن كانت لديه الرؤى الواضحة الساعية للتغيير، ولذلك تم إعدامه، واغتيال كنفاني، ومحاولة التشويش كثيراً على إدوارد سعيد واتهامه باللاسامية.
هذه مسائل مهمة في مقاربة دور المثقف، ليكون مثقَّفاً (بفتح القاف، اسم مفعول) ومثقِّفاً (بكسر القاف، اسم فاعل)، فليس دور المثقف أن يمدح السلطة أي سلطة، لأنه ببساطة من واجب تلك السلطات أن تكون جيدة، وأن تعمل من أجل الشعب وقضاياه، سواء في ذلك السلطات المنتخبة أو الثورية، فقد استولت على الحكم لتكون جيدة وتحقق للشعب آماله وتطلعاته، ليس لديها خيار آخر، وإن جنحت إلى غير هذا الهدف، فتغوّلت، واعتقلت، ونكلت، وكممت الأفواه، فسيأتي يوم وتتحطّم تحت معاول الثورة والثوار، والشواهد في التاريخ كثيرة وساطعة الدلالة.
ليس من واجب المثقف أن يمدح تلك السلطات حتى وهي محسنة وجيدة ورائعة وذات بطولات تاريخية، فليس دوره أن يكون معززا معنويا للسلطة، أيّاً كانت تلك السلطة. دوره أن يكون حارسا للقيم النبيلة، ويحافظ على البوصلة في أن تظل موجهة نحو الهدف المنشود، وعلى السلطة أن تمتنع عن مطالبة المثقف في أن يمدحها إن أجادت، وقليلاً ما تجيد، بل يجب ألا ترضى هي عن أعمالها مهما كانت جيدة، بل تكون مندفعة للتحسين الدائم، فمهمتها أن تخدم الشعب، وليس أن يطبّل لها المثقفون المزيّفون، وأن تمنعهم عن التعبير عن مواقفهم، لتجعل منهم أحجار شطرنج في حكوماتها الصورية، وتقيلهم على خلفية اتخاذ مواقف جرئية ضدها، كما حدث مع الدكتور إيهاب بسيسو والدكتورة شهد فاروق وادي، فلم تحترم السلطة، ولا رئيسها رأياً لمثقف شاعر وأكاديمي ووزير ثقافة سابق، وموظفة دبلوماسية، وعاملتهما بحمق ظاهر، وبالطريقة نفسها من الحمق تعاملت مع كثير من المثقفين والصحفيين والكتاب والأكاديميين والمثقفين الذين اعتقلتهم على خلفية المشاركة في الاحتجاجات الأخيرة التي أدانت مقتل نزار بنات.
لكل ذلك يتعزز لديّ أن المثقف يجب ألا يقع فريسة الاغتيال المعنوي، واغتيال المواقف، وكنت قد طالبت بداية الأحداث على خلفية جريمة مقتل نزار بنات بأن يستقيل وزير الثقافة الدطتور عاطف أبو سيف من حكومة أمنية لا تراعي الذمة ولا الضمير في الناس، فتعتقلهم وتضربهم وتقتلهم، وتعمل على تشويه الوعي وتزييفه من خلال الخطاب الإعلامي المضلّل، والحشود المنقادة، غصباً عنها، لتكون في مظاهرات مضادة، موظفة أسلوب التشبيح، وقد استعارته من أنظمة الإجرام العربية أيام ثورات ما عرف بالربيع العربي.
إن أي مثقف يرضى أن يطبل لأي سلطة ويمدحها، سيكون قد اقترف جرما حقيقيا، وبدأ يبتعد عن مهمته، لأنه مع الوقت سيكون جزءا من هذه المنظومة الفاسدة، ويتطور موقفه ليصبح مدّاحاً مدجنا ومرتبطا بالدولة وأجهزتها لاسيما إن أجزلت له العطاء بمنصب أو جائزة.
على المثقف أن يظل وحده، لا تربطه بالدولة وأجهزتها أي علاقة أو صحبة، لأن الدول- في العادة- ليس لها صديق تحترمه، وتنقلب على أصدقائها في أي لحظة، والشواهد كثيرة في كل العصور، قديما وحديثاً. تنقلب عليهم كما لو أنهم أعداؤها التاريخيون، ولذلك نجد مثلا شهداء الفكر في كل عصر وفي كل بيئة ومع كل دولة، ومنهم بطبيعة الحال أنطون سعادة وغسان كنفاني وناجي العلي وباسل الأعرج ونزار بنات وجمال خاشقجي، ومن قبلهم الحلاج وعبد الله بن المقفّع، وإن اختلف الفاعل، ومكان الجريمة، وأدواتها إلا إن الحقيقة الواحدة المجمع عليها منطقيا أنهم- جميعاً- شهداء سلطة، هذه السلطة التي شعرت أن أركانها مهزوزة ومنطقها مهزوم بفعل مواقف هؤلاء الشهداء العظماء.
حقيقة أخرى تشير إليها هذه الوقائع من الشهداء، هي أن للكلمة أهميتها في المعركة، معركة الحياة، معركة السلطة، معركة الأنظمة، معركة الاحتلال، معركة الثقافة ذاتها، فأغلب هؤلاء الشهداء لم يكونوا مقاتلين، فغسان لم يكن يحمل (RBJ)، ومثله أنطون سعادة وناجي العلي ونزار بنات، كانوا مفكرين، قادة سياسيين، معارضين، كانوا مثقفين حقيقين، لهم مشروعهم الثقافي السياسي المتحد معاً، فلم تكن لتنفكّ الثقافة عن السياسة يوماً ما، لذلك كانوا بالفعل يشكلون خطرا على تلك المنظومات التي انتقدوها أو أرادوا تغييرها ومحاسبتها. ومقتلهم يشير إلى هذا الخطر السيو-ثقافي؛ فإذا ما غدا الشاعر والفنان والكاتب خطرا يهدد النظام، فاعلم أن الضمير بدأ يصحو من غفلته، وآخذ في التعافي نحو طريق آخر قد يكون مفروشا بالدم، قبل الياسمين، وعلى الناس بهباتهم الشعبية إكمال المسيرة لتحقيق الخلاص، "فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا".
إن تلك الدول لها أدواتها في قياس درجات الوعي التي أحدثها هؤلاء المثقفون، وتعلم أنها أصبحت في حالة قلق، هذه الحالة التي تجعلها تهذي في الأفعال والأقوال على حد سواء، فترتكب الجريمة تلو الأخرى، ولا ترعوي، أو تستوعب الدرس جيّداً، فلا تحسب حساباً لما بعد كل ذلك البلاء، فتستخدم القوة المفرطة في التعامل مع المتظاهرين، وهي تظن أنها تُسكت الصوت، وتُخرس المثقف، وتزيّف الوعي، لكنها في حقيقة أمرها تفجّر المسائل كلها دفعة واحدة، لينقلب السحر على الساحر، وتضع نفسها وأدواتها الإعلامية وأبواقها السياسية ومدجنيها من الكتاب والمثقفين في مأزق كبير، وهذا ما حدث مثلا مع الصحفية "إريكا زيدان" التي استقالت على الهواء مباشرة؛ احتجاجا على سياسة "كمّ الأفواه" التي كانت تطالبها وزملاءها بها إدارةُ إذاعة "موّال" ليلتزموا بالصمت حيال الاعتداء على الصحفيين الذين تعرضوا للتنكيل على أيدي قوات الأمن السلطوية، الأمر الذي رفضته علنا بشَجاعةِ المثقف الذي يدرك متى عليه الانفلات من عقل السلطات التي تكبّل يديه، وتسعى إلى تكميم فمه.
هكذا تسير الأمور مع أن التغيير ليس وشيكاً، وإنما هي البداية، ولعل القادم أفضل وأجمل، لنكون نحن وأطفالنا في مأمن من الإحراج وهم يسألوننا عن رؤسائنا. ربما لسنا نحن من سيشهد التغيير، إنما على أبعد تقدير أبناؤنا الصغار الحاليون عندما يصبحون آباء لأطفال آخرين قادمين في مستقبل أكثر جمالا وأكثر أمنا في منطقة أكثر صلاحية للعيش وممارسة الحياة بحرية مطلقة أو ما يشبهها على الأقل، لهذا الأمل الموعود يجب أن نظل عاملين، لا نكلّ ولا نملّ مهما دفعنا جرّاء مواقفنا من ثمن، ولا أظن أن هناك أثمن من الروح، وصدق الشاعر في قوله. هذان البيتان اللذان ينطبقان على كنفاني وسعادة وبنات وكل شهداء الفكر الأحرار:
يَجُودُ بالنَّفْسِ إِنْ ضَنَّ الجَوادُ بِها
والجودُ بالنَّفْسِ أَقْـصَى غايةِ الجُودِ
عَوَّدْتَ نَفْسَكَ عاداتٍ خُلِقْتَ
لَها صِدْقَ اللِّقاءِ وإِنْجازَ المَواعِيدِ
يقودني قول الشاعر هذا إلى أمر مهمّ، ونحن نتحدث عن رجلين مثقفين شهيدين (أنطون سعادة وغسان كنفاني)، وهو ذلك التناظر البادي بين الحالتين، حالة أنطون سعادة وإعدامه وحالة غسان كنفاني واغتياله، فعدا أن كليهما قد قتل على أرض بيروت، وفي التوقيت ذاته (الثامن من تموز)، فهما كانا مطلوبين، للتصفية الجسدية، لعلاقتهما بالقضية الفلسطينية. ففي الوقت الذي لم يمض على احتلال فلسطين سنة، كان قد أطلق سعادة "حركـة مواجهة قومية شاملة خلال حرب فلسطين 1948. وكان رد فعل الحكومة اللبنانية مباشراً، إذ أصدرت سلسلة قرارات منعت بموجبها الحزب ]السوري الاجتماعي[ من عقد الاجتماعات العلنية، وحدثت عدة صدامات بين أعضاء الحزب والسلطة"، ثم تم تدبير تسليمه إلى الحكومة اللبنانية، وإعدامه في اليوم التالي مباشرة ليوم التسليم بتاريخ: (8/7/1949)، وبعد ثلاثة وعشرين عاماً، وفي التاريخ نفسه يتم اغتيال كنفاني (8/7/1972)، بعد أن أحرج النظام العربي برمته، فتتم تصفيته على أرض لبنان أيضا، في الوقت الذي كان النشاط العسكري الدولي للجبهة الشعبية على أشده المتمثل حينها في عمليات نوعية استهدفت خطف الطائرات.
رحم الله شهداء الفكر والمواقف، وكما قال غسان كنفاني، صاحب الذكرى: "تسقط الأجساد لا الفكرة"، فالفكرة لا تموت، والشهداء لا يموتون، وسيظلون "كأشعة الليزر" على حد وصف الدكتور إيهاب بسيسو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المداخلة المعدّة لندوة دار الرعاة التي أقامتها يوم الخميس 8/7/2021 في ذكرى اغتيال غسان كنفاني وإعدام أنطون سعادة، وتوقيع كتاب "استعادة غسان كنفاني".
0 comments:
إرسال تعليق