استقبلت عدة قرى ومدن عربية في البلاد بشائر حلول عيد الميلاد بتزيين ساحاتها العامة وشوارعها؛ وأقامت مهرجانات احتفالية تحت اسم "كريسماس ماركت" ومسمّيات أخرى مشابهة، استقطب بعضها آلاف الوافدين، الذين جاؤوا ليشاركوا في الحدث وليتحوّلوا، بشكل تلقائي، إلى صنّاعه لا مستهلكيه وحسب.
قد يكون برنامج الأيام الثلاثة لمهرجان الميلاد الذي بادر إليه المجلس المحلي في قرية كفرياسيف الجليلية أبرز هذه الاحتفالات وأكثرها جذبًا لأعداد غفيرة من الناس، وللتأثير الايجابي في نفوسهم وفي إشاعة أجواء الفرح الانساني، وطرد روائح البارود من الصدور، كي يمتلأ الهواء، في ربوع الجليل، بالزنابق وبالوعود.
فعلى مدار ليال ثلاث كانت شوارع القرية، التي يبلغ عدد سكانها حوالي عشرة آلاف نسمة، ينتمون إلى ثلاث طوائف: المسيحيون والمسلمون والدروز، تزدحم بالمركبات وبآلاف الزوّار الذين كانوا يهرولون، بخفة، صوب ساحات المهرجان، والبهجة تفرّ من عيونهم، رغم حملات التحريض على المناسبة وعلى شرعية المشاركة فيها!
لا أعتقد أن تلك الجماهير الغفيرة كانت على دراية بتفاصيل معركة لافتة دارت رحاها بين أعضاء جسم يسمّى "رؤساء الكنائس المسيحية في القدس" وبين حكومة إسرائيل. ولا زالت أصداء هذه المواجهة تتداعى، خاصة بعد أن أصدرت حكومة إسرائيل، يوم الاثنين الفائت، بيانًا نفت فيه مواقف رؤساء الكنائس وادّعت أنهم "يشوّهون حقيقة المجتمع المسيحي في إسرائيل"، وحذرت، في نفس الوقت، من أن "الزعماء الدينييّن لهم دور حاسم في التربية من أجل التسامح والتعايش، وينبغي أن نتوقع من قادة الكنيسة أن يفهموا مسؤوليتهم وعواقب ما نشروه، مما قد يؤدي إلى العنف وإلحاق الأذى بالأبرياء".
سوف تنتهي هذه المواجهة بشكل أو بآخر؛ لكنها سوف تترك، بدون أدنى شك، أثرًا كبيرًا على طبيعة علاقة بعض تلك الكنائس، الغربية الهويّات بمعظمها، مع حكومات إسرائيل التي ما زالت تتمسك بمواقفها المهادنة إزاء تعدّيات سوائب الجماعات المتطرفة على المواطنين المسيحيين وعلى أماكنهم المقدسة وعلى كهنتهم ورهبانهم. فلقد أصبح المسيحيون، حسب ما جاء في بيان البطاركة ورؤساء الكنائس "مهددين بالطرد من جانب الجماعات الاسرائيلية المتطرفة، وتحديدًا المستوطنين المعتدين، إذ أنهم يهدفون الى تقليص الوجود المسيحي". كما واتّهم البيان تلك الجماعات الأيديولوجية المتطرفة، بتدنيس المواقع الدينية وبتخريبها، وبالاعتداء على الكنائس وارتكاب الجرائم بحق الكهنة والمصلّين.
لقد حظي بيان رؤساء الكنائس باهتمام عالمي واعلامي واسعين، خاصة في الصحافة البريطانية، التي انفردت فيها صحيفة "ديلي تلغراف "، علاوة على نشر البيان المذكور ، بنشر مقالة كتبها حارس الأراضي المقدسة الأب فرانشيسكو باتون، يوم 19/12/2021، جاء فيها : "إن وجودنا محفوف بالمخاطر ومستقبلنا في خطر" ، ثم أردف مؤكدًا على أن حياة العديد من المسيحيين أصبحت لا تطاق وذلك بسبب اعتداءات المجموعات الاسرائيلية المتطرفة، التي على ما يبدو تستهدف "تخليص البلدة القديمة في القدس من الوجود المسيحي". وبالتزامن مع مقالة حارس الأراضي المقدسة نشر رئيس أساقفة كانتربري البريطاني، جاستن ويلبي، مقالة كتبها بالشراكة مع رئيس أساقفة القدس الأنجليكاني الشفاعمري حسام نعوم، في صحيفة "صنداي تايمز" قالا فيها إن هنالك "محاولة منسقة لترويع المسيحيين وطردهم"؛ ثم أوضحا على أن الزيادة في مجتمعات المستوطنين، إلى جانب القيود المفروضة على الحركة بسبب جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل، قد عمّقت من عزلة القرى المسيحية التي بات بقاؤها مهددًا.
نشاهد هنا لغة غير مسبوقة بحدّتها وبعدد الكنائس التي أيّدتها؛ وكم كنت أتمنى أن تلتفت قيادات مجتمعنا المحلّية، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، إلى هذه التطوّرات، وأن تتواصل مباشرة مع أصحاب تلك البيانات، خاصة بعد أن دعا رؤساء الكنائس في بيانهم المذكور إلى "حوار عاجل مع السلطات الإسرائيلية والأردنية والفلسطينية التي سبق وأعلنت التزامها حماية الحرية الدينية من أجل الحفاظ على الوجود والبقاء"؛ فكما هو معروف سنبقى نحن خارج إطار تلك الدعوة وخارج الحوار؛ هذا في حالة انعقاده.
سنبقى خارجه رغم أن وجود العرب المسيحيين في إسرائيل، مثل وجودهم في سائر الأراضي الفلسطينية، هو الآخر، مهدّد، لا بسبب ملاحقتهم من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة، وحسب؛ بل لعدة أسباب أخرى، قد يكون في طليعتها استحكام الجهل العميق في ذهنيات المجتمعات العربية حيال ضرورة الحفاظ على الوجود العربي المسيحي الأصيل في فلسطين التاريخية، وبسبب سهولة التخلّي عمّن تبقى منهم في أرض أجدادهم المسيحيّين، بالرغم من الحاجة الوطنية للإبقاء على تمازج النسيجين، الحضاري والثقافي، الضروريّين للحفاظ على مركّبات الهويّة الفلسطينيّة التاريخيّة الجامعة والثابتة.
لقد نوّهت في الماضي إلى الخطورة في استمرار تناقص أعداد العرب المسيحيين وإلى تفتت كياناتهم المحلية وغيابهم كمجموعة شريكة في بنى المجتمع الفلسطيني وهويته العربية الحضارية. وقد أكدّت حينها، وأكرر مجددًا، أن ما يحرّكني في هذه المسألة هو ليس الهاجس الديني العقائدي، ولا الكنسي المؤسّساتي؛ فهذان البُعدان لا يؤرّقاني شخصيًا، لكنني أستشعر، مثل الكثيرين، دنوّ نهاية وجود مجموعة سكانية أصيلة بشكل حزين. وليس تقلّص أعدادهم، بتسارع ملحوظ، هو شاهدي الوحيد على ذلك -فهذه هي النتيجة- بل هو التغيّرات المفاهيمية السلبية التي رسخت في أذهان أبناء مجتمعاتنا الجديدة، وهي كثيرة، ومن ضمنها محاولات تحويل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى صراع ديني، يهودي إسلامي، حول أحقية مَن في الأرض وفي المعابد، مما أسهم في عملية رفع الغطاء الجمعي عن مصالح المواطنين العرب المسيحيين وعن أهمية حماية وجودهم، وبالتالي دفع الكثيرين نحو الشعور بخسارتهم "لحواضن الأمومة" المجتمعية الطبيعية الواقية. هذه الحواضن تكون، كما عاشتها الأقليات في المجتمعات البشرية المدنية المتقدمة، مكوّنة بالعادة من سلطة مركزية حامية بشكل فعّال وحقيقي؛ ومن أكثرية سكانية متقبلة للغير ومؤازرة له، عن قناعة وليس من باب المداهنة أو الاستقواء؛ ومن مؤسسات مدنية قوية ومتكافلة؛ ومن وحدة بين مركبات الأقلية السكانية ذاتها وثقتها بأهمية تلك القوة في تحصين أمانها الجمعي وأمن أفرادها وصمودها في وطنها.
ونحن إذا راجعنا كيف تدهورت أحوال مجتمعاتنا، في العقود الأخيره، سوف نرى كيف اختفت معظم تلك الحواضن، أو أن بعضها قد انقلب على ابنائه بشكل واضح؛ فلا الحكومات، خاصة حكومة إسرائيل، معنية بحماية المواطنين العرب المسيحيين، ولا الأكثريتين السكانيتين، اليهودية والمسلمة، بقيتا على مفاهيمها الأصلية المتسامحة تجاه العرب المسيحيين وحرّياتهم بممارسة طقوسهم وعاداتهم؛ ولا مؤسسات المجتمع المدني نجحت ببناء كيان قادر على استعادة التوازنات الحافظة التي خسرناها مع حدوث الانهيارات السياسية داخلنا، ومع نشوء القوى الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية الجديدة .
أعرف أنّ ما تقدم سيستفزّ البعض، ومنهم من سيدّعي أن الواقع معاكس وأن الحقيقة مغايرة؛ وقد تحرّض، بالمقابل، قلّة باسم التعفّف الفكري والتحسّس الزائف من ولوجي إلى "المناطق الحمراء" الخطيرة؛ لكنني سأقول لجميعهم: إن التعامي عن الواقع لن يخفيه، وإنّ الشعارات لا تكفي والبيانات لا تشفع، وإنّ النوايا، مهما حسنت، ستكذّبها مخاوف المواطنين وأفعال المغرضين، وهم موجودون طبعا في جميع الطوائف.
وأعرف، كذلك، أن بعض رؤساء تلك الكنائس، أو أسلافهم، ومعاونيهم العرب المحليين، كانوا شركاء في اضطهاد العرب المسيحيين وفي سلبهم صليب هذه الأرض وروحها؛ فالمسيح، الذي يحتفي العالم بذكرى ميلاده، هو أبن هذه الأرض السمراء، والكنائس التي شيّدت عليها هي شواهد على حضارة فلسطين العربية المسيحية، كما تغنّى بها فحول شعراء العرب المسيحيين في قصائدهم الخالدة، وكما زرعتها معاول الفلّاحين الاوائل مآثر في صدور التاريخ، وحفظتها الأجيال كالأماني في التراتيل وفي الشعائر. ولكن .. لقد كتبت في الماضي أن مصير العرب المسيحيين في فلسطين قد حسم، وقد صاروا في حالة تشبه ما يصطلح عليه في علوم الأحياء والأنثروبولوحيا "نوع في حالة انقراض"، فجهات كثيرة، غريبة وقريبة، معنيّة بتبخّرهم؛ لكنني، وأنا أقرأ عن معركة حكومة إسرائيل مع "رؤساء الكنائس" (وإن كان بعضهم من الشرق براء) أتنشق جرعة من أنفاس ميلادنا. وعندما أقف في ساحات كفرياسيف الفرح والحياة والمستقبل، وأمامي يقف وينتشي عشرات الآلاف من المحتفين المصرّين على استحضار غدهم الأرجواني الجديد، أقبض على ناصية العاصفة وأفكّر من يستطيع أن يخطف مريم، الطاهرة والمصطفاة على نساء العالمين، من أهلها؟ ومن يستطيع أن يسلب فلسطين مسيحها ؟
0 comments:
إرسال تعليق