كنّا نعتقد في الأردن أنّ قضية الأمير حمزة المسمّاة بالفتنة قد انتهت، واختفائه عن الأضواء بعض من العقاب الذي وقع عليه جرّاء الإتهامات الباطلة، فقد عاصرنا منذ بداية الأزمة يوم الأحد 3 أبريل/نيسان 2021م ولغاية 5 أبريل/نيسان أيام عصيبة بعد أن شهدت عمّان حملة اعتقالات طالت الشّريف حسن بن زيد وباسم عوض الله ومدير مكتب الأمير وبعض مرافقيه وآخرين بتهمة تحركات ونشاطات توظَّف لاستهداف أمن الدولة، كما وأخضعت قيادة الجيش سُمُوّ الأمير حمزة قيد الإقامة الجبرية.
أختفى الأمير عن الأنظار بعد التغيّرات التي طرأت في البلاد، وبين ليلة وضحاها مُنع الحديث عن القضية، ليلجأ الأردني إلى الصحف غير الأردنية والغربية تحديداً لمعرفة ما يدور في البلاد من ضعضعات واعتقالات، وصفت على أنّها محاولة انقلاب، حتّى أقرّ الملك عبدالله الثاني في التعامل مع الأمير حمزة ضمن إطار الأسرة الهاشمية الملتحمة، حيث أوكل لعمّه الأمير حسن بن طلال الذي تواصل بدوره مع الأمير حمزة الذي أكّد من خلال رسالة من بيت عمّهما أنّه يضع نفسه بين يديّ جلالة الملك وبقائه على عهد الآباء والأجداد وفياً لإرثهم سائراً على دربهم ليقطع بذلك دابر المتآمرين المتملّقين بعباءة الولاء والميثاق.
وبهذا القدر ظنّ الشارع الأردني بأنّ الأمر انتهى رغم التحفّظ على الأمير، أغلب الظنّ في القصر، وإذا برسالة مطوّلة أشبه برسائل العباسيين؛ أصدرها الديوان الملكي بإسم الملك عبد الله مساء الخميس 19 مايو/آيار، تتضمّن قرارات صدمت الشارع الأردني مجدّدا؛ تقييد اتصالات وإقامة الأمير حمزة وتحركاته، إذ قال الملك في رسالته أنّ أخاه الأمير استنفد كل فرص العودة إلى رشده والالتزام بسيرة الأسرة، فضلاً عن تجاهله الوقائع وتلاعبه بالحقائق.
مساء الخميس صرّح الديوان بصدور الإرادة الملكية السامية بالموافقة على توصية المجلس المشكّل بموجب قانون الأسرة المالكة بتقييد اتصالات وإقامة وتحركات الأمير، والتي رفعها المجلس إلى الملك منذ 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
بهذا رفع الملك الحرج عن نفسه وأرجأ الأمر إلى الأسرة المالكة بكلّ ما ترتّب على الأمير من عقوبات مجحفة.
بقاء الأمير تحت الإقامة الجبرية
الحكم الذي أصدره الملك بحقّ أخيه لا علاقة له بقضية الفتنة بشكل صريح، هذا لأنّ الأمر انتهى داخل العائلة ورسالة الإعتذار التي قدّمها الأمير حمزة لأخيه الملك المفروض أنّها أنهت الظنّة والضغينة والبغضاء، وقد قال الملك في حينه: «إن الأمير حمزة مع عائلته في قصره وتحت رعايتي»، إلّا أنّ هذا لم يغيّر من موقفه تجاه أخيه بالجانب الفعلي شيء، كونه أبقاه تحت الإقامة الجبرية في قصره - على حدّ تصريحه - وفصله عن العالم الخارجي تماماً.
في تلك الأثناء كانت التغطية الرسمية في الأردن حول جمال الجسور في العالم تزامناً مع اشتعال الشارع الأردنيّ واستقائه تطورات الأحداث عبر القنوات الخارجية أو تكهّنات الإعلام الموازي ليظهر الأمير من خلال فيديو وجّهه للعالم باللغة الإنجليزية والعربية بثّته قناة العربية، ليصدم محبوب الأردنيين كلّ الأردن بخطاب حزين يبرأ من الفساد والتغلغل في مؤسّسات الدولة والتنفّع والتنفّذ من مجموعة صغيرة على حساب الوطن؛ قربه من الشارع يُدفِعه الثمن وأخضعته حينها رئاسة هيئة الأركان العسكرية والمخابرات للإقامة الجبرية وعزلته كليّاً عن العالم الخارجي.
الترويج لإدانة الأمير
حينها صرّحت المصادر الرسمية في مؤتمر صحفي عُقد في 5 أبريل/ نيسان قدّمه نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية وشؤون المغتربين أيمن الصفدي تضمّن إتهام صريح للأمير حمزة بنشاطات وتحركات تستهدف أمن الأردن، ورُبط اسمه مع أكثر الشخصيات الأردنيّة تنفّعاً؛ ارتبط اسمه بملفات فساد كثيرة، باسم عوض الله.
وقعت هذه التصريحات على مسامع الأردنيين كالصّاعقة وسابقة لم يعرفها الأردنيّ ولا الأسرة الهاشمية من قبل، فقد عُرف الأمير بقربه من الشارع وحديثه بنبضه ليفوز بقلوبهم ويذكّرهم بوالده المغفور له، ملك القلوب الملك حسين.
لقد حمل المؤتمر الصحفي توجيه صريح للأمير ووضعه أمام خيارين، إمّا التسوية داخل العائلة - وهذا الذي حصل - أو مثوله في محكمة أمن الدولة لرفع الغطاء عنه، ناهيك عن ضبابية المؤتمر الذي لم يتّسم بالشفافية على الإطلاق، بينما تصريحات رئيس الوزراء بشر الخصاونة سحبت يوم 12 أبريل/نيسان الخيار العائلي لتبقي مثول الأمير حمزة أمام محكمة أمن الدولة بتهمة التآمر كخيار أخير لا بديل له، وذلك في جلسات مغلقة لمجلسي الأعيان والنواب، الذي قدّم الخصاونة فيه شرحاً عن طبيعة العلاقة والاتصالات بين المعتقلين الثلاثة الأبرز في ملف المؤامرة.
بين اعتقال الأمير في 5 أبريل/ نيسان 2021 عقب تغريدته الأخيرة بأشهر في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2020م والأخيرة في 3 أبريل/نيسان 2022م التي تنازل من خلالها برسالة مقتضبة عن لقب الأمير قرابة عام ونصف.
القصر لم يتفاعل مع تخلّي الأمير عن لقبه ولم يصرّح بشيء، الأمر الذي أثار كثير التساؤلات في الشارع والأوساط الإعلامية. والأمر اللافت للنظر أنّ تغريدة الأمير الأخيرة بقت وحيدة منذ ذلك الحين وحتى اللحظة، ممّا يفتح الباب لإحتمالات كثيرة، واحدة منها أنّه استعان من أحد الثقات في القصر ليتمكّن من نشر التغريدة، أي أنّ الأمير حمزة وصل إلى مرحلة يئس أثناء احتجازه جعلته يستخدم آخر كلمة يذود بها عن نفسه ويردّ لأخيه صفعة، وهي تنازله عن لقبه.
لذلك أظنّ بأنّ العقوبات التي أصدرها الملك بحقّ أخيه برسالته ما كانت ستُبرم دون تخلّي الأمير عن اللقب، والتعريض له برسالة التخلّي، التي بدى فيها تحميل الملك مسؤوليّة تنفّذ منظومة الفساد في الدولة، إذ قال: «إنّي وبعد الذي لمست وشاهدت خلال الأعوام الأخيرة، قد توصّلت إلى خلاصة بأنّ قناعاتي الشخصية والثوابت التي غرسها والدي فيّ، والتي حاولت جاهداً في حياتي التمسك بها لا تتماشى مع النهج والتوجهات والأساليب الحديثة لمؤسساتنا»، وأردف: «من باب الأمانة لله والضمير؛ لا أرى سوى الترفُّع والتخلّي عن لقب الأمير».
وصف الملك عبد الله الأمير بالهدّام عبر رسالته؛ وصف يتناسب والاتهامات المنسوبة إليه، وهذه هي ذات الاتهامات المتداولة لكلّ من ينتقد أداء الدولة الركيك. مآل الأمير حمزة كمآل أي مواطن يتجرّأ على نظام الدولة، فكيف إذا كان هذا الشخص ولي عهد سابق أُطيح به، ومحبوب الشّعب وضحيّة القصر؟
الأزمة التي يمرّ بها الأمير حمزة وضعت الأردنيّين على المِحكّ ولا زالت، فرغم حبّهم للأمير وتوظيف هذا الودّ من بعض الجهات الحاقدة المغرضة وأعداء الدولة ليخلقوا شرخاً في الأمّة جرّاء الأداء الحكومي المترهّل والأزمات الإقتصادية وتفاقم المديونية وتهالك المنظومة الصّحّيّة والتعليميّة التي تمرّ بها الدولة، إلّا أنّهم مجتمعون على وحدة الصّف أمام أي فكرة أو خطوة تهدّد أمن البلاد.
الإلتفاف حول مؤسّسة العرش
الأردنيون ينتقدون أداء الحكومة وضعف المؤسّسات وهشاشة البرلمان دون هوادة ويختلفون بالمبتدأ والخبر، غير أنّهم ملتفّون حول مؤسّسة العرش. لذلك كان بالإمكان الإفراج عن الأمير والتعامل معه والفتنة المزعومة بشكل أكثر موضوعية ومصداقية وودّ داخل العائلة الهاشمية، مع حفظ حقّ الأمير بالحرّيّة، بدلاً من التهويل والقمعية وعدم التسرّع بعقابه وتقييد حياته.
عندما نتحدّث عن انقلاب، فالحديث يكون عن تواطؤ جهاز المخابرات وقيادة الجيش والداخلية، أمّا إذا كانت الاعتقالات التي أوكل إليها هذا الاتهام لا تتجاوز شخص، هو خلاصة فساد حكومي مُعضل وطاقم مرافقي الأمير ومدير مكتبه، فيجب أن يكون الحديث هنا عن شيء آخر أكثر بعداً عن تهديد أمن الدولة.
قال الملك في رسالته: «خلُصت إلى النتيجة المخيبة أنّه لن يغيّر ما هو عليه»، ما معناه المؤامرة.
فهل حملة الإعتقالات بوزن هؤلاء الأشخاص ومعهم الأمير كافية لإنقلاب أو ضعضعة الأمن؟ أم علّها أكثر من قرصة أذن لتصل إلى كسر ذراع ورُكبة؟ كما بيّنت رسالة الملك الآن.
حديث الأمير حمزة عن الفساد بات يؤرّق الملك، هذا كلّ ما في الأمر. تذكّرني أحداث القصر في الأردن بمكر نساء خلفاء بني عبّاس.
تقييد حرّيّة إنسان بزعم قضية الفتنة بأدلّة فُصّلت على مقاسه، فضلا عن كونه أمير، حتى لو تنازل عن لقبه، وبعيداً عن نفاذ التنازل من عدمه، هو استقواء لا يقبله القانون ولا العرف؛ تجاوز يمارسه نظام بوليسي مستبدّ؛ يحاول بكلّ ما أوتي من قمعية سلب حرّيّة التعبير، وهي حقّ كالماء المسروق والنفس المحزوق.
لم يسلُك الأمير حمزة كغيره من الأمراء؛ يأخذون مسّتحقاتهم بصمت - وبعضها من قوت الشعب - وأحياناً كثيرة أكثر ممّا تُخصّص لهم الدولة. قاسَم الشعب «المعثّر» اللقمة واطّلع على حالهم، فأوجعه وجعهم وتحدّث بصوتهم فطاله الظلم الذي يطول جلّهم.
إن الظلم يستهدف الجميع، لذلك يخطئ من يظنّ أنّ الظلم الواقع على غيره لن يطاله، فلا حياة للظالم إلّا بعموم الظلم، ولا بدّ أن ينال من أعانه عليه عملاً وقولاً أو بغض الطرف، وسنّة الله تسليط المساهم بالظلم عليه.
نهاية أستحضر قول الله تعالى: «وجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ».
وقول الرسول الحبيب صلّى الله عليه وسلم: «اتقُوا الظُّلم؛ فإنّ الظلم ظلُمات يوم القيامة».
ما سقطت أمّة إلّا بالمحاباة والمداهنة في العقاب والخنوع. أُكلتم يوم أُكل الثور الأبيض.
0 comments:
إرسال تعليق