لا أرغب بقراءة مقدّمات الكتب التي يكتبها الآخرون عن الكتب، خصوصاً الأصدقاء منهم. ثمّة مقدّمات لازمة يكتبها آخرون عن كتب غيرهم، كالكتب العلميّة أو المترجمة أو الكتب القديمة التي يُعاد إحياؤها. لا أتحدّث عن هذا النوع من المقدّمات العلميّة المنضبطة، وهي لازمة في الواقع، وذات أهداف غير ترويجيّة
راجت هذه العادة- عادة كتابة الآخرين للمقدمات- بين الكتّاب في السنوات الأخيرة، يتوسّل بعضهم بعضاً ليكتبوا مقدّمات، أو تظهيرات. الأمر خائب تماماً كما يبدو لي. ونادراً ما يتطوّع كاتب ليكتب مقدّمة لكتاب دون طلب. إن حدث هذا فإنّ له هدفا آخر. أعلمُ أنّ هذه العادة موجودة وشرعيّة بين الكتّاب وتحدّثتُ عنها في مقالات سابقة، ووُجدت عند كبار الأدباء؛ كالعقّاد، وطه حسين، والرافعي، وميخائيل نعيمة، والقائمة تطول. وتحتاج تلك المقدّمات إلى دراسة بحثيّة منهجيّة للكشف عن طبيعتها، ومقارنتها بالمقدّمات الخائبة الرائجة هذه الأيّام.
كثيراً ما أفكّر بهذا النوع من المقدّمات، أراها حاجزاً نفسيّاً كبيراً، أمتعض من وجودها، أشعر أنّني كائن ضالّ، ويتقدّم صاحب المقدّمة ليوجّهني قبل الدخول إلى النصّ. هؤلاء أيضاً لا يعرفون كيف تُكتب مقدّمات الكتب. في الحقيقة، هم بارعون بالكتابة الرديئة عندما يكتبون ذلك.
لماذا يطلب الكتّاب هذه المقدّمات؟ من تجربتي وعنها أتحدّث أوّلاً، وتجربتي أظنّ أنّها قد تتشابه مع تجارب الكثيرين. لو عاد بي الزمن لأنشر كتبي من جديد، لن أطلب من أحد أن يكتب لي مقدّمة أيّ كتاب. أيّ تعاسة مكتشفة في هذا الأمر الذي يشعرني بالكدية الأدبيّة المهذّبة؟ على الرغم من أنّ من قدّموني بكتبي قلائل؛ فمن "24" كتاباً لم يقدّمني منها سوى خمسة كتّاب فقط، وعندما طلبت ذلك منهم طلبته لاعتبارات غير كتابيّة، إلّا مقدّمة أحد كتبي "السرد- قصصيّة"، متوخّياً من ذلك الكاتب اعترافاً بقدرتي على الكتابة السرديّة، أمّا الكتب الأخرى فقد قدّمتها لي كاتبات؛ تحقيقاً لنواحٍ عاطفيّة ووجدانيّة بيننا، كوننا أصدقاء، وكنّا نتعايش معاً بصنعة الكتابة، وبيننا الكثير من الأمور المشتركة، فكان التقديم بدافع الألفة، رغبة منّي لإثبات حضورهنّ في سياق تلك الكتب.
هل لكتابة المقدّمة من أهداف خارج نطاق هذين الهدفين الكبيرين. ربّما كانت- مسبقاً في بداية عصر النهضة- نوعاً من التقريظ؛ أي المدح، فكانت مختصرة ومكثّفة، ولا تشرح الكتاب، ولا يمارس كاتبها أيّ سلطة على القارئ.
المقدّمات اليوم- في أغلبها- مضلّلة، لقد كتبت هذا في نقدي لكثير من الكتب، غضب مؤلّفوها منّي غضباً شديداً إلى حدّ القطيعة النهائيّة، فكيف لبعض تلك المقدّمات أن تطول طولاً مرهقاً، تستنفد طاقة القارئ قبل الدخول إلى متن الكتاب. ألم يفكّر الكتّاب بالقارئ في تلك اللحظة؟ إنّ كتّاب المقدّمات الخائبة يضعون القارئ بين خيارين؛ إمّا أن يكفّ عن القراءة ويرمي بالكتاب ومؤلِّفه ومقدِّمه ويلعن الكتابة والكتّاب، وإمّا- إن كان يطيق الصبر قليلاً كحالتي- فلا يحفل بتلك المقدّمة، ويُسقطها من الكتاب حكماً. النتيجة واحدة، لا فائدة إذاً من كتابة تلك المقدّمات.
إذا كنت تعدّ نقسك كاتباً ناقصاً، وتحتاج إلى مقدّمة أحد الكتّاب؛ ليقدّم كتابك، فانتظر حتّى تكتمل وتنضج، واصبر قليلاً على نفسك حتى ترشُد، وتنضج، وتحسن الصنعة، وتستطيع السير وحدك في حدائق القرّاء الغنيّة بملايين الكتب الخالية من المقدّمات، وتتخلّص من عبء المقدّمات، ولا تُحمّل أكتاف القرّاء كتّاباً آخرين غيرك، ينوء بحملهم وثقيل دمهم، ألا يكفيهم أنتَ وكتابك وما فيه؟
ما تتركه المقدّمات من عبء نفسي ونقدي في القرّاء كبير جدّاً، وغدا الأمر مزعجاً، وذا نتائج عكسيّة على كلا الكاتبين، لاسيّما الكتّاب الجدد الداخلين إلى نوادي الكتّاب الذين يبحثون عن شرعيّاتهم المفتقدة بالتشبُّث بمقدّمات الكتّاب الموصوفين بالكبار. لكنّ الكبار سيكتبون بالفعل مقدّمات خائبة يكلّ تأكيد، لأنّهم سيكتبون من خبرتهم، وموضعهم ووضعهم، وإحساسهم بالأهمّيّة المضاعفة لما سيكتبونه، وينظرون من علٍ إلى الكتاب المقدّم له وصاحبه. سيشعرون بالزهو والجنون الإبداعي، وهم يقدّمون واحداً من هؤلاء الكتّاب. نادراً ما يتواضعون، فهذا موضع يحبّون فيه النظر إلى ذواتهم، وهي تتضخم بنرجسيّة مرضيّة عالية الظهور.
إنّهم- فيما أعتقد جازماً- يقتلون صاحبهم، ويشيّعونه وكتابَه ليكونا في عداد الموتى. فإذا أردت لكتابك أن يصنع حياته الخاصّة، فاتركه وحيداً بمواجهة القرّاء. إنّ هذه المواجهة غير الموصى بها أكثر نفعاً لك ولكتابك، إنْ كنتَ من العاقلين المقدّرين لأهمّيّة كونك كاتباً، تسعى إلى تأسيس سلطتك الإبداعيّة بعيداً عن الاستلاب وعن سلطة الآباء، عليك أن تفكّر جدّيّاً بقتل كلّ الآباء الفعليّين والمحتملين، لتكون أباً لنفسك وحدك.
هذه النرجسيّة المترعرعة آنفاً ليست فقط لدى الكتّاب الكبار المقدِّمين، بل إنّها أيضاً تفعل فعلها بصغار الكتّاب، إذ تتضخّم ذواتهم تبعاً لتضخّم ذات المقدِّم، إنّه شديد التذكير بهذا الفعل، حتى ليخيّل إليكَ أنّ هذا التقديم يُحيي ويميت، إنّها نقطة فاصلة حدّيّه وجدّيّة في مسيرته، يشكر القدر على أنْ منح هذه الفرصة.
ليس هذا وحسب، بل إنّ كتابة الكاتب الكبير مقدّمة لأحد الكتّاب المتمدّدين في الظلّ، يشعل الغيرة في نفوس معارفه وأصدقائه القابعين معه في الهامش ذاته، ويصبحون كأنّهم على نار، يتحرّقون. يدفعهم هذا إلى التطفّل، والطلب والإلحاح من ذلك الكاتب أن يفعلها مرّة أخرى. إنّ هؤلاء لا يقدّرون الموقف، ولا يعرفون معنى الكتابة، ولا يحقّ للكاتب أن يجعل كاتباً آخر موظّفاً لديه، ليكتب له تقديماً أو تظهيراً. على صغار الكتّاب أن يكفّوا عن هذه السذاجة التي توصلهم إلى حدود البلاهة والبلادة والجهل، وعدم تقدير الذات الكاتبة حقّ قدرها.
ولتعلموا- يا معاشر الكتّاب- أنّ الكتابة وحدها هي التي تصنع منكم كتّاباً مهمّين، وليست تلك المقدّمات التي ربما ستصبح عبئاً ثقيلاً عليكم وعليها في المستقبل، فتندمون على أنّكم قد قبلتم بأنْ تكون بينكم وبين القرّاء، فإنْ كنتم تحبّون قرّاءكم فلا تحجبوهم عنكم بالأسماء الكبيرة؛ فهم ليسوا ضوءاً لكم، إنّما سيكونون سدّاً منيعاً يحول بين كتاباتكم وتقديرها لذاتها وبين القرّاء والنقّاد الذين بلا شكّ يقدّرونكم لأنّكم مختلفون، إن وجدوا هذا الاختلاف الذي يبحثون عنه دون واسطة بينكم وبينهم بمثل هذه المقدّمات التي لا تنفعُ ولا تشفع، ولا تغني عن أمر إجادة الكتابة شيئاً.
0 comments:
إرسال تعليق