الثورة التي لا ترتكز على فكر يلهمها ويرسم لها طريق المستقبل تقود غالبًا إلى الفوضى والخراب، وكما ألهم فولتير وديدرو ومونتسكيو من قاموا بالثورة الفرنسية، ألهمت مقالات الدكتور فيليب سالم من قاموا بثورة تشرين في لبنان، فهو قد استشرف قيام الثورة واحتضنها بعد قيامها، وسعى جاهدًا إلى تسديد خطاها عندما لجأت أحيانًا إلى العنف، وإلى إسداء النصح لها بعدما شخّص الأمراض التي يعاني منها لبنان، ووصف لها الدواء الناجح فكان حبر كلماته زيتًا أضاء قناديل الثورة التي أرادها ثورة حضارية سلمية تعبر بلبنان من دولة الطوائف إلى دولة المواطنة.
إن الدكتور سالم رغم إقامته في هيوستن على بعد آلاف الأميال من الثوار الذين احتشدوا في ساحة الشهداء وعلى امتداد ساحات الوطن، كان إلى جانبهم، يبارك خطواتهم السلمية، ويواجه معهم خراطيم المياه والقنابل المسيّلة للدموع، وينام في خيامهم، ويحرص كل الحرص على أن تظل شعلة الثورة مضاءة ومتّقدة في الساحات وفي القلوب، ويعود اليه الفضل في رسم خريطة طريق واضحة المعالم للثوار كي تحقق الثورة الأهداف المرجوّة وهذا ما نقع عليه في مقال بعنوان "أيها الثوار هذه رسالتي إليكم" نشره في جريدة النهار بعد سنة على قيام ثورة تشرين، جاء فيه:
"ها قد مضت سنة كاملة على اليوم الذى رفعتم فيه شعار الثورة. لم تكن سنة أحلامكم. كانت سنة المرارة. قليل من الانتصارات. كثير من خيبات الأمل. وبالرغم من أنكم لم تتمكنوا من صنع التغيير، نرجو ألا تنسوا أنكم حققتم نصرا كبيرا. لقد حددتم الطريق، ومشيتم الخطوة الأولى. وها قد جِئْتُ اليوم أكتب هذه الرسالة إليكم لكى يبقى لبنان صاحب «الرسالة»، ولكى تبقوا أنتم حماة هذه «الرسالة». أنا واحد منكم أيها الثوار. أنا مثلكم لقد تعمدت بالألم، كما تعمدت أيضا بالفشل. إلا أننى تعلمت شيئا مهما، شيئا كبيرا. لقد تعلمت ألا أخاف الفشل وألا أسمح له أن يجعلني إنسانا فاشلا. هذا بعض ما تعلمت. ورسالتى هى بعض الكلام الذى أود أن أقوله لكم. أقوله لأننى خائف عليكم وخائف أن تضلّ الثورة الطريق".
وفي ما يأتي رؤية فيليب سالم لتفعيل دور الثورة في لبنان:
أ - كان موت لبنان مسؤوليتنا نحن قبل سوانا وقيامته اليوم هي مسؤوليتنا أيضا. وحده التمرد يقيمه من موته. عدوّان يتربّصان بنا: الإحباط والخوف، وعلينا أن نتعلم كيف نتغلب عليهما.
ب - إن الثورة هي خيارنا الوحيد. انها الطريق إلى قيامة لبنان.
ج - قد أصيبت الثورة بمرض عضال وهو التشرذم فانقسم الثوار بعضهم على بعض. فصارت الثورة مجموعات مختلفة تتكلم لغات متعددة. وصار من الصعب أن نميّز بين من هو ثائر حقيقي ومن هو ثائر مزوَّر. علينا التواضع لكي نتمكن من أن نعمل بعضنا مع بعض كقوة واحدة.
د – اعلان قيادة تنظيمية للثورة.
هـ - على القيادة أن تحدّد رؤية واضحة للثورة. ولئن كان مهمًا أن نعرف ماذا لا نريد، فإن الأهم هو أن نعرف ماذا نريد. وليس كافيا أن نحدد الرؤية بل يجب أن نحدد الطريق الذى يأخذنا إليها.
و - من أهم الأخطاء التى وقعت فيها الثورة هو اللجوء إلى العنف ردًا على عنف السلطة. نحن ننبذ العنف بكل أشكاله، ونؤمن بالتمرد الحضاري.
ز - يجب أن تبقى هوية الثورة هوية لبنانية. ويجب أن نرفض أي تسلّل من قوى إقليمية أو دولية إليها.
ح – مسؤولية الثورة هي تفعيل اللبنانيين مقيمين ومنتشرين في العالم لإخراج لبنان من أزمته الخانقة.
ط – السعي إلى عقد مؤتمر دولي حول لبنان لتحقيق الأهداف الآتية:
وضع خطة شبيهة بخطة "مارشال" بعد الحرب العالمية الثانية.
وضع لبنان تحت مظلة دولية باشراف الأمم المتحدة لمرحلة انتقالية.
الطلب من مجلس الأمن وضع إطار لحياد لبنان، فهو فريسة لأطماع دول إقليمية تسعى للسيطرة على قراره السيادي الحر. إن الحياد الفاعل يصب في مصلحة لبنان العليا، وهو لا يعني الحياد بين الفلسطينيين والاشرائيليين فنحن مع حق الفلسطينيين في بلادهم، إنما نحن نصرّ على الحياد بالنسبة إلى الصراعات الإقليمية والدولية.
وردًا على الذين يريدون أن يتجه لبنان إلى الشرق، يقول سالم: "يسألوننا لماذا لا نذهب شرقًا؟ وأنا أسألهم: هل تعرفون أنتم شخصًا واحدًا مات في طريقه هربًا إلى الشرق؟ كلهم ماتوا وهم في طريقهم إلى الغرب. لم يهرب شخص واحد من هؤلاء المعذبين إلى طهران أو بكين أو موسكو. كلهم هربوا إلى دول الغرب ومدنه، كلهم هربوا إلى الحرية. هربوا إلى دول تحترم الإنسان".
إن ما توجّس منه الدكتور سالم في خريطة الطريق التي رسمها قد حصل، فالثورة تعرف ماذا لا تريد، لكنها للأسف لا تعرف ماذا تريد، وهي تفتقر إلى القيادة الفردية والقيادة الجماعية على حد سواء، ناهيك بأنها خاضت الانتخابات النيابية بلوائح متعددة، وحققت نتيجة واعدة. ومع أن الثورة فشلت في تحقيق أهدافها لا يزال الدكتور سالم يصرّ على إعادة إحيائها ودعمها، "الثورة أمر حتمي، وعلينا إعادة تنشيطها، ويجب أن نتذكر أيضًا أنها مسار طويل. قد تستغرق الثورة سنوات لتحقيق أهدافها وبالتالي يجب أن تكون لديها استراتيجية طويلة المدى. ولا بدَّ من التوضيح أن الثورة ليست الضوضاء التي تحدثها في الشوارع، إنها الغضب والتزام التغيير في قلوب اللبنانيين وعقولهم. إن الفوز في انتخابات أيار (مايو) لا ينبغي أن يكون الهدف النهائي للثورة إنه مجرّد بداية. إن الثورة ضرورية بشكل أساسي لا لتغيير الطبقة السياسية الحالية، ولكن لتغيير العقل السياسي في لبنان ولتثقف الجمهور حول دور المواطن إزاء دور الدولة. علينا اعتماد فلسفة سياسية جديدة تهدم الحدود بين الأديان وتلغي دور الزعيم لأن الولاء للمذهب الديني والزعيم أدّى إلى دمار هذا الوطن الجميل.
إن الدولة المدنية التي بشَّر بها الدكتور سالم تقوم على الركائز الآتية:
1 – لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه كما ارتضينا في اتفاق الطائف، ولكن يجب أن نرتضي بأن يكون الجميع للوطن. إن الولاء للبنان الأرض والوطن يجب أن يكون مقدّسًا، والولاء لوطن غير لبناننا خيانة".
إن الدكتور سالم في مسألة الولاء للبنان لا يناور ولا يساوم ولا يقبل بالتسويات وأنصاف الحلول تمامًا أن الفتاة لا يمكن أن تكون نصف امرأة ونصف عذراء.
2 – "أزمة لبنان الكيانية تكمن في جغرافيته، فسوريا تحده من الشرق والشمال وتعتبره جزءًا سُلخ منها وهي تريد استرجاعه. وإسرائيل تحده من الجنوب، وهي دولة عنصرية لا تريد قيامته لأنه يمثّل نموذجًا حضاريُا مغايرًا لها. إلا أن الفرق بين سوريا وإسرائيل شاسع جدًا، فإسرائيل دولة عدوّة زُرعت في هذا الشرق بإرادة غير إرادتنا، أما سوريا فهي دولة عربية صديقة تجمعنا بها صلات القربى والتاريخ".
وعلى لبنان أن يحافظ على سيادته في وجه العدو البغيض، وإزاء مطامع الشقيقة اللدودة.
3 – في مفهوم الدولة والسيادة يقول الدكتور سالم: "نأمل أن يكون اللبنانيون قد تعلموا من آلامهم وحروبهم أنه ليس هناك وطن من دون دولة قوية، وأنه ليس هناك دولة قوية بوجود دويلات فيها. ونرجو أن نكون تعلمنا شيئًا واحدًا، من حروبنا، وهو أن الدويلة، لا تقود إلى الدولة، ونقول أكثر من ذلك إن كل من يؤمن بمبدأ الدويلة... يرفض مبدأ لبنان الدولة ولبنان الوطن...
ما يطرحه الدكتور ليس تطرفًا ولا استفزازًا، بل هو الف باء السيادة الوطنية، إذ لا سيادة لدولة فيها سلاحان، ولا سيادة لدولة يتّخذ فيها حزب من الأحزاب قرار الحرب والسلم.
4 – فصل الدين عن الدولة وعن التربية.
يؤمن الدكتور سالم أن فصل الدين عن الدولة وعن التربية شرط أساسي لقيام الدولة المدنية أي الدولة التي لا دين لها "دينها هو المواطنة، وأبناؤها مواطنون لا رعايا، متساوون في الحقوق والواجبات. أنظروا إلى هذا الشرق كيف يغرق في الحروب الدينية والمذهبية. والحل يكون في فصل الدين عن الدولة، كما يكمن في الاقتناع بأن الإنسان وليس الله هو المسؤول عن تدبير شؤونه".
ويصرّ الدكتور سالم على فصل الدين عن التربية مركزًّا على أن مسؤولية المدارس والجامعات لا تقوم على التلقين فحسب، بل تقضي بتدريب العقل على المناقشة والاعتراض سعيًا إلى صنع إنسان جديد. وقد شدّد على أن النظام التربوي في لبنان مريض لأنه أدّى إلى قيام قبائل ثقافية يتناحر بعضها مع بعض، وإلى تخريج أجيال من الطلاب يدينون بالولاء للطائفة لا للوطن، كما أسهم في تخريج أفواج من الشباب والصبايا يتسكّعون على أرصفة البطالة ويحتشدون أمام أبواب السفارات طلبًا للهجرة.
إن النصائح التي أسداها الدكتور سالم إلى الثوار والركائز التي تقوم عليها الدولة المدنية هي المواصفات التي يجب أن يتحلّى بها الرئيس اللبناني العتيد، إلى كونها برنامج الرئيس اللبناني الذي يطمح اللبنانيون إلى رؤيته في بعبدا، فهل يتحقق الحلم؟
في كل ما يدعو اليه، ينطلف الدكتور سالم من المحبة ولذا يقول مخاطبًا حزب الله: "على رغم اختلافنا الفكري مع فلسفة الثورة الإيرانية الإسلامية أود أن أتوجّه إلى حزب الله وأقول لهم إن الأهل قد يختلفون في الرأي فيما بينهم، لكنهم يبقون أهلا. نحن وأنتم أهل هذه الأرض ونصرّ على أن نبقى أهلا، فتعالوا نجلس إلى طاولة واحدة ونتعهد أمام الله إنقاذ لبنان وإعادته إلى الحياة. أنتم تعرفون جيدًا أنه إذا سقط لبنان هذه المرة لن يكون في سقوطه غالب ومغلوب بل سنكون جميعًا مغلوبين".
إن حزب الله أمام فرصة تاريخية، يجب أن يغتنمها كي لا يقود اللبنانيين إلى الغرق وإلى الانتحار الجماعي فهل يعود إلى أحضان الوطن ويدرك أن "قُم" ليست أقرب إلى الضاحية الجنوبية من عين الرمانة والطريق الجديدة.
* شاعر ونقيب سابق للمعلمين.
0 comments:
إرسال تعليق