سيطرت حركة حماس على قطاع غزة في العام 2007، وذلك بعد انسحاب جيش الاحتلال الاسرائيلي منه قبلها بعامين. أعلنت اسرائيل حصارها للقطاع، الذي يسكنه نحو مليوني فلسطيني، ودأبت على التعامل معه "ككيان معاد"؛ مع حرصها الحذر على ضبط علاقتها مع حركة حماس تحديدا، وسائر فصائل المقاومة الاسلامية في القطاع، وفق معادلات سياسية وأمنية متقلبة، حيث كانت تنعكس أحيانًا بمواقف ملتبسة وغير مفهومة؛ وهذه قضية لا تعنينا في هذا المقال .
لقد شهد القطاع المحاصر خلال السنوات الفائتة وعلى فترات متقطعة سلسلة من الاعتداءات الاسرائيلية التي راح ضحيتها آلاف الضحايا الفلسطينيين وبضعة عشرات من الاسرائيليين اضافة الى الدمار العمراني الهائل الذي كانت تخلفه كل معركة ومعركة وراءها.
ففي نهاية العام 2008 شنت اسرائيل حربا على غزة اطلقت عليها اسم "الرصاص المصبوب"، كان هدفها الاسرائيلي المعلن "انهاء حكم حركة حماس في القطاع " والقضاء على المقاومة وعلى قدراتها العسكرية ومنعها من الاعتداء المسلح على العمق الاسرائيلي. استمر العدوان الاسرائيلي نحو ثلاثة أسابيع فقصفت خلالها اسرائيل القطاع باطنان من المتفجرات، حتى المحرمة منها؛ وردت عليها المقاومة الفلسطينية باطلاق مئات الصورايخ أصاب بعضها لاول مرة حتى مدينتي اسدود وبئر-السبع .
كانت حصيلة العدوان الاسرائيلي سقوط نحو 1500 شهيد، منهم حوالي 400 طفل وأكثر من 200 امرأة، اضافة الى أكثر من خمسة آلاف جريح، وعشرة آلاف منزل مدمر. أما خسائر الجانب الاسرائيلي فكانت عبارة عن مقتل 13 اسرائيليًا من بينهم عشرة جنود واصابة ما يقرب من 300 جريح.
بعد مرور أربعة أعوام على عملية "الرصاص المصبوب" أعلنت اسرائيل في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2012 ، عن شروعها بمهاجمة قطاع غزة بحملة اطلقت عليها اسم "عامود السحاب". وكان هدفها المعلن ، مرة أخرى، تدمير المواقع العسكرية ومخازن الذخيرة التابعة لحركات المقاومة واغتيال قيادييها العسكريين؛ فتمكنوا حينها من اغتيال احمد الجعبري ، قائد كتائب عز الدين القسام. ردت فصائل المقاومة على العدوان برشقات صاروخية وصل بعضها هذه المرة الى تل ابيب والقدس وغيرها من الاهداف والمواقع العسكرية الاسرائيلية، وسقط خلال هذا العدوان قرابة 190 شهيدًا فلسطينيًا من بينهم بضعة عشرات من الاطفال والنساء، وقتل بالمقابل جنديان اسرائيليان، واصيب حوالي مائتي اسرائيلي كانت اصابات معظمهم طفيفة.
بعد عامين من عملية "عامود السحاب" شنت اسرائيل، في مطلع شهر يوليو/ تموز عام 2014 عدوانا جديدًا على غزة، وأطلقت عليه اسم" الجرف الصامد". استمر القصف الاسرائيلي على غزة واحدًا وخمسين يومًا واعلنت اسرائيل وقتها انها نفذت خلاله أكثر من ستين ألف غارة جوية. ردت المقاومة من غزة باطلاق آلاف الصواريخ وصل بعضها حتى حيفا وتسببت بايقاف حركة الطيران في مطار بن غوريون . وكما في كل الاعتداءات الاسرائيلية السابقة صرّح رئيس الحكومة الاسرائيلية ذاته بنيامين نتنياهو، هذه المرة ايضا، ان الهدف من وراء العملية العسكرية التي شهدت توغلات برية لجيش الاحتلال داخل القطاع، هو تدمير شبكة الانفاق التي بنتها حركات المقاومة في غزة تحت الارض . لقد اسفر هذا العدوان الاسرائيلي عن سقوط ما يقارب 2400 شهيد فلسطيني، اضافة الى اكثر من عشرة آلاف جريح، بينما قتل خلالها حوالي سبعين جنديًا اسرائيليا واربعة مدنيين، بينما اصيب حوالي 2500 اسرائيلي بين مدنيين وعسكريين .
أما في العام 2021 فكانت معركة "حارس الاسوار" التي اندلعت في اعقاب الهجمة الاستيطانية على بيوت الفلسطينيين في حي الشيخ جراح في القدس وتكثيف اعتداءات المستوطنين على المسجد الاقصى. اطلقت المقاومة الفلسطينية الصواريخ على مواقع متعددة داخل اسرائيل فقتل اكثر من عشرة اسرائيليين بينما سقط حوالي 250 شهيدًا فلسطينيًا واصيب ما يقارب الخمسة آلاف جريح ودمرت عشرات المساكن والانفاق.
قد يبدو للبعض أن استذكار هذه الأحداث في ظل تداعيات عملية "طوفان الأقصى" هو خطوة غريبة وغير متوقعة؛ فالأكثر طبيعيًا ومقبولًا ومتوقعا أن يبدأ الكاتب، خاصة الكاتب الفلسطيني، بالحديث عمّا جرى في فجر يوم السبت الفائت، حين صحت اسرائيل، والعالم معها، على مشاهد سقوط عدد من المواقع والبلدات الاسرائيلية جراء مباغتتها من قبل مجموعات مسلحة فلسطينية نجحت بشل جميع مجسات المراقبة العسكرية الاسرائيلية واقتحام الجدار الفاصل مع قطاع غزة والهجوم السريع والسيطرة المطبقة على مناطق واسعة في الجنوب الاسرائيلي، وقتل المئات من عناصر قوات الأمن الاسرائيلية والمدنيين، وأسر أعداد كبيرة منهم والعودة بهم الى داخل القطاع.
من الواضح أن الحديث عن تفرد الحدث وعن الابداع في تخطيطه وكيفية احكام تنفيذه وعن النجاح الصارخ في مباغتة واحد من أقوى جيوش العالم المزود باحدث وسائل الحرب التكنولوجية المتطورة. الحديث عن جميع ذلك، هو الموقف الاسهل والاجدر، خاصة اذا اراد الكاتب ان يتوقف عند اسداء من كانوا وراء هذه العملية حقهم وحسب، من دون أن يتناول تداعيات العملية في المستقبل وتأثيرها على مكانة القضية الفلسطينية، او مناقشة ما لها حتى لحظة "العبور" وما عليها بعده؛
ومن الطبيعي والبديهي طبعا استحضار جميع ممارسات الاحتلال الاجرامية في حق الفلسطينيين، وما عاناه اهل غزة خاصة خلال سني الحصار والتجويع وتحويلها الى سجن كبير؛ فجميع هذه المعطيات هي حقائق صحيحة ولا يمكن لأي سياسي ولا لفقهاء الحق والقانون في العالم ان يغفلوها، كما فعلوا وما زالوا يفعلون خلال العقود الماضية؛ ومع ذلك ومن باب مناقشة ما حصل بشكل أولي، من المفيد ان نقارن تفاصيل المواجهات السابقة، التي ذكرتها، بمجريات عملية "طوفان الاقصى" لعلنا نهتدي الى اين سيأخذنا هذا "الطوفان"، نحن عرب الداخل الاسرائيلي، وليس الى اين سياخذ اهل غزة وحسب.
لن يكون صعبًا تمييز الفوارق القائمة بين الاهداف الاسرائيلية السياسية الحقيقية التي كانت وراء جميع الاعتداءات الاسرائيلية على القطاع منذ عام 2008 وبين الهوامش التي اتيحت للمقاومة من غزة لممارسة ردود فعل"مقبولة"، نسبيًا وسياسيًا، وما تلاها من مواقف المجتمع الدولي، وبين ما جرى ويجري في أعقاب عملية "طوفان الاقصى". وبداية، لم يأت الاعلان الاسرائيلي المدعوم من امريكا واوروبا وغيرها من الدول، والقاضي بضرورة القضاء على حركة حماس وبتغيير خارطة القطاع جذريا، مهما سيكلف ذلك من جهد ووقت وعتاد، لم يأت كتصريح تكتيكي لتبرير عملية محدودة الاهداف والنتائج، كما كان يحصل في جميع المواجهات السابقة، بل انه يأتي كتعبير عن موقف فعلي؛ اذ شرعت اسرائيل بتنفيذه من خلال عدوان دموي غير مسبوق جار في هذه الايام على غزة، وقد يكون مقدمة لتغيير الوضع السياسي في الشرق الاوسط.
لن يستطيع احد ان يمحو أثار انجاز المقاومة الغزية في السابع من اكتوبر، ولا ان يقلل من اهمية نجاح مباغتة الاسرائيليين في هذا التوقيت بالذات وفي حالة النكوص العربي والاسلامي المتفشي في منطقتنا وفي العالم، بيد اننا وبسبب هذا الانجاز لا يجوز لنا عدم التطرق لبعض تجاوزات بعض العناصر الغائرة على العمق الاسرائيلي؛ خاصة بعد ان جند نتنياهو المعلومات الواردة حول عمليات قتل مئات المدنيين التي نفذتها عناصر المقاومة داخل الاراضي الاسرائيلية، ومنهم الشيوخ النساء والاطفال، وكذلك بأسر المئات بمن فيهم المسنات والنساء والاطفال، لصالح حكومته وحولها، بعد هندستها اعلاميا، الى موقف اضطر جميع الاسرائيليين تقريبا الى تبنيه علاوة على معظم رؤساء الدول الغربية.
لا يمكن لمن يحب المصلحة الفلسطينية ان يبرر هذه الممارسات، واقصد قتل المدنيين، ويجب رفضها بشكل واضح وحازم؛ ولا يمكن قبول أية محاولات لفحصها وفق قوانين اخلاقيات الحرب، او تحت طائل الضرورات السياسية او غيرها من الاعتبارات، كما ولا يجوز تسويغها من خلال مقارنتها بوحشية الممارسات الاسرائيلية وعمليات قتلهم للاطفال وللشيوخ وللنساء الحوامل وللمرضى الفلسطينيين.
اعرف ان كلامي هذا سيغضب البعض، او ربما الكثيرين، خاصة اولئك المنتشين بحلاوة النصر والمتشفّين بهزيمة الغطرسة الاسرائيلية، التي أوغلت خناجرها في خواصر فلسطين والفلسطينيين منذ عقود طويله، وتفننت باساليب اذلالها للذات الفلسطينية؛ اعرف ذلك تمامًا، لانني للحظات شعرت مثل الجميع، بغمرة "فرح المقهورين" وتحطيم المستحيل ، وتمنيت ان تبقى سكرات ذلك الفجر وسادة لحلمي الندي، لكنها سرعان ما تبددت وتبدلت مع تواتر اخبار القتل العشوائي ومع قصص من نجوا من حلبة رقص عابرة، او من حضن ام دامٍ او من عصا تفتش عن شيخها.
اكتب بوجع، واعرف من هي الضحية ومن جلادها ؛ ولكن اخبار القتل، كما رسختها، بمبالغات مقصودة، الرواية الاسرائيلية، قد خدشت صفحة تلك المغامرة ، التي كان من المفروض ان يحرص مخططوها، وقد تنبهوا لكل تفاصيلها التقنية الدقيقة،كما شاهدنا، ان تبقى وأن تتقيد بمعايير العمليات العسكرية والنضالية عند شعب يعرف معنى وحشية عدوه ويقاتل باصرار الضحية الصابرة، ولكن بعدالة انسانية مطلقة من اجل تحرره. وكأن من خطط للعملية حتى لحظة العبور هو ليس من خطط لما بعدها ولكيفية انهائها.
اكتب بوجع، لان ما شاع وانتشر اعاد قضية فلسطين، ولو مؤقتًا، الى الوراء سنوات من تعب، وزود المحتل بجرعات من "حليب الضحايا" التي سوف تزيد غطرسته وحشية وعنفوانا.
اكتب بوجع، لان استغلال قصص القتلى والسبي قد اعادت اسرائيل الى حضن سيوفها وصار غمدها واحد بعد ان كانوا متفرقين معسكرات عند منحدرات التلال، وخيولهم تستعد لخوض حروب الدولة اليهودية او انقاذها من يهوديتها.
اكتب بوجع، لانهم سيحاولون تغمية عيون "العالم" مجددا بقصص الهتك والبطولة وحرق غزة مرة اخرى، فهم يقتلون ويبكون. أما "العالم" ذلك الكائن الخرافي، فقد بدأت عيونه مؤخرا تقشع غير اللونين الابيض والازرق، ويحب نشيد "موطني" وصار ناسه يدقون اسم فلسطين اوشامًا على زنود التاريخ والحق . فهل سيعود الى سباته؟
واكتب بحذر، لانني اعرف ان لغزة سيبقى نصرها وطوفانها، ولها البحر يحميها وبر يعرف اهلها شعابه؛ اما نحن، الباقين على أهداب الفجر، فامامنا الطوفان هادر، ووراءنا عواء الذئاب وخيال نكبة؛ فلا يجوز ان نغمض عيوننا كيلا نسقط في مهاوي الردى، ولا ان تنام قلوبنا ؛ وسنبقى نحن عشاق الحرية والأمل اخوة.
0 comments:
إرسال تعليق