مقدمة
لا ينكر أحد ما لحرف الميم من جرس رخيم ووقع في النفوس جد مؤثر خاصة اذا كان جزءا من روي مكسور. ويزداد الأمر جلالا حين يكون موضوع القصيدة حزينا يمس نياط القلب ودواعي الأسى فيه كالرثاء مثلا. ثم الصدفة العجيبة التي جعلت من هذا الحرف ركنا اساسا يمثل نصف تركيب كلمة " أم " التي خاطب فيها هرون اخاه موسى (( قال يأبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي اني خشيت أن تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي )) (1) . وفي سورة الأعراف (( قال أبن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولاتجعلني مع القوم الظالمين )) (2) .
إذاً فهنالك أكثر من سبب حدا بالشعراء الثلاثة المتنبي والمعري ومن ثم محمد مهدي الجواهري في أن يختاروا في مراثيهم لأمهاتهم هذا الحرف قافية جميلة - حزينة وحزينة - جميلة في عين الوقت .
فحرف الميم إذاً هو القاسم المشترك الأعظم الذي وحد مشاعر وسيل عواطف هؤلاء الرجال الثلاثة - ولا اقول دموعهم - لحظة أن تناهى الى مسامعهم نبأ نعي عزيز وأي عزيز !! فلقد رثى الأول منهم جدته , وهي لا ريب في مقام والدته , بل هي والدته حقا وفعلا اذ لا يذكر تأريخ الرجل شيئا عن والدته : من هي وما أسمها وما هو نسبها وتأريخ عائلتها ؟ لقد قال الشاعر في جدته لأمه هذه :
والدٍ ولو لم تكوني بنت أكرم
لكان أباك الضخم كونك لي أمّا
هكذا يرتكز الرجل على صلب جدته لأمه . فإنْ لم تكن هذه الجدة أما له فإنَّ أباها كان يمكن أن يكون. وهو أمر مستحيل عقلا وفعلا, فضلا عن الصناعة المتكلفة في هذا البيت حتى لأراني استطيع القول إنه واحد من أثقل أبيات أبي الطيب المتنبي, بل ومن أشدها نبوّاً عن المألوف.
) أبو الطيب المتنبي ( 303 - 354 للهجرة
ولا قابلا إلا لخالقه حكما
هذا هوعنوان مرثية المتنبي لجدته التي فارقت الحياة في مدينة الكوفة مسقط رأس الشاعر حين كان هو في بغداد اذ ( لم يمكنه دخول الكوفة ) كما قال في مقدمة القصيدة دون أن يذكر السبب (3). القصيدة في أربعة وثلاثين بيتا ومطلعها :
ألا لا أري الأحداث مدحاً ولا ذمّا
فما بطشها جهلا ولا كفها حلما
وفي هذا البيت كما هو واضح استرسال مع طبيعة الشاعر الفنية الميالة نحو تقرير الحكمة وتثبيت مسلمات الحياة التي لا راد لقضائها. فحين تبطش الحياة فانها لا تبطش عن جهل بل هو الإصطفاف مع السياق العام لقانونية الحياة ونواميسها الأزلية. وإلا فهل من راد ٍ للموت ؟ والموت قائم ما قامت الحياة ، هو متمم الحياة ونهايتها المنطقية. ولقد قال الشاعر الصوفي ابن شبل البغدادي فأبدع :
صحة المرء للفناء طريقُ
وطريقُ الفناءِ هذا البقاءُ
اما المتنبي فلقد قال في رثائه لجدته :
أحنُّ الى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التراب وما ضمّا
وهنا يتمنى الشاعر أن يتقاسم الموت مع جدته , فانه لا يطيق فراقها ولا معنى للحياة بدونها . فأية انتكاسة يعيشها هذا الشاعر الرجل العملاق وأية هزيمة نفسية يستشعرها نتيجة فقده هذه المخلوقة العجوز التي تقوم مقام والدته. أجل, أية هزيمة أمام القدر الذي لا يرحم ولا يجامل بحيث قدانتقل جزعه تحت وطأة المصاب على موت جدته الى جزع مأساوي من حياته نفسها. هل نصدق أن هذا الجازع الكبير قد قال يوما :
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
انها طبيعة الإنسان المجبولة على التناقض. وهذا البدوي الأصيل - الذي ملأ الدنيا وشغل الناس - الذي لم تعرف عيناه الدموع نراه يتهاوى أمام مصرع من يقوم مقام والدته " أحن الى الكأس التي شربت بها " . ومن ذا الذي يحن الى كأس المنون سوى عاشق هيمان أو يائس قانط أو مهزوم مأزوم ؟ كان المتنبيء هؤلاء الثلاثة وهويتمثل مأساة رحيل جدته وأعز الناس طرا. اذا غالب الرجل دمعه فان النزعة الى البكاء لسوف تظهر من خلال المعاني ومن بين السطور, كما قال زهير بن أبي سلمى :
ومهما تكنْ عند أمريء من خليقة
وإنْ خالها تخفى على الناس تعلم ِ
فمجرد ذكر الدموع ووصفها انما ينم عن الرغبة في البكاء. ومن يدري ؟ فإنَّ الرجال تفعل ما تشاء اذ تخلو لنفسها وراء الأبواب المغلقة
رقا دمعها الجاري وجفت جفونها
وفارق حبي قلبها بعد ما أدمى
فأذا ما انقطعت دموع الراحلين عنا, واذا ما توقفت عن الأسترسال فان عيون الأحياء لا ريب قادرة على اتيانها إنْ سراً أو جهراً . يا لليتيم البائس !! يشفق على نفسه في نهاية الأمر اذ أن حبه قد مات بموت القلب الذي كان يخفق بهذا الحب. قلب أدمته مشاكل الحفيد ومغامراته وخصوماته وترحاله الدائم :
يقولون لي ما أنت في كل بلدةٍ
وما تبتغي ؟ ما أبتغي جلَّ أن يُسمى
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها
وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصمّا
مرة اخرى يتلمس الشاعر الحاجة الى ما يبلل الجفن والعيون , الحاجة لترطيب شيء ما, فاذا لم تكن الدموع فلا بأس من المطر. أيتها الكبرياء العنيدة ويا أيتها النفس الأبية الشامخة , من أية طينة جبلت ومن أيما ماء رويت ؟
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
تغرّبَ لا مستعظما غيرَ نفسه
ولا قابلا الا لخالقه حكما
هبيني أخذت الثأر فيك من العدى
فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمّى
لقد سبق وأن عانى هذا الشاعر نفسه من الحمّى أيام محنته مع كافور الأخشيدي في مصر, فصور حالاتها بأتم وصف (3) :
وزائرتي كأنَّ بها حياءً
فليس تزورُ إلا في الظلامِ
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
يقول لي الطبيب أكلت شيئا
وداؤك في شرابك والطعامِ
يعترف الشاعر هنا بعجزه عن مقارعة المرض واستسلامه له وهو لا يستطيع اصطناع المعجزات. وأخذ الثأر من الأعداء أمر ما أيسره على رجل مثل المتنبي ولكن " فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى ؟ " .
لقد وقع تحت تأثير هذه القصيدة بالذات كل من المعري ( 363 - 449 هجرية ) والجواهري ( 1900 – 1998 ميلادية ) فاخذا الوزن والقافية والروي لقصيدتيهما اللتين نظماهما في رثاء والدتيهما كما سنرى عما قريب .
طه حسين ومرثية المتنبي
يعد المرحوم الدكتور طه حسين هذه القصيدة قصيدة خالدة ( 4) ونراه يجري وراء ابياتها بصبر وجلد غريبين. لكن دهشتنا والغرابة سرعان ما تزولان اذ نكتشف أن هذا الرجل غير معني الا بتقصي هفوات الشاعر السلوكية, وإلا بجمع المثالب وتركيز العيوب التي رصدها خصوم الشاعر وسجلها عليه. ولقد أولى طه حسين مسألة نسب المتنبي ووضع أسرته في الكوفة أولاها الدرجة الأولى والدرجة الأخيرة من الأهمية. ولم يكن بهذا منصفا البتة اذ جعله الغلو في الأمر والسرف أن يجانب الدقة والصواب في تفسير حتى الواضح من شعر الشاعر تفسيرات جد بعيدة عن الواقع وعن الحقيقة وعن مرامي الشاعر نفسها. تفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان.
وتلك نتيجة حتمية للمنطق غير العادل والموقف غير الموضوعي من ظاهرات المجتمع والحياة. لقد أخطأ طه حسين اذ أعتقد أن المتنبي لم يتغرب الا لكي يعظم قدر نفسه. وبالتالي أسس أحكاما جائرة بل ومسرفة في الجور, الأمر الذي يجرد الباحث من الروح الموضوعية ويبعده عن المواقف العلمية التي تحصن المرء ضد الأراء الذاتية والأنانية وتطهره من مثالب الضغينة والتحامل والشماتة. فهل تغرب أبو الطيب خصيصا من أجل أن يكبر في نظر نفسه ؟ إذاً فلنسمع ما قال ولنحاول وضع الأمر كله في قالبه الصحيح وفي سياقه الأصوب. قال المتنبي في القصيدة التي رثى فيها جدته :
تغرّبَ لا مستعظماً غيرَ نفسه
ولا قابلا إلا لخالقهِ حكما
أراد المتنبي - وأصاب - أن يقول أنه بقي رافع الرأس موفور الكرامة رغم كونه غريبا, والغريب ضعيف أعزل ناء عن أهله ووطنه وذويه . وما أشد وطأة الغربة والتغرب على رجل يجوب الآفاق مضطرا . إنَّ المعنى من الوضوح بحيث لا يحتاج الى كل هذا الكلام لولا أن عميد الأدب العربي كان قد عكس المعنى الذي أراده الشاعر. فالشاعر لم يخترْ التغرب من أجل أن يعظم في نظر نفسه ، إنما بقيَ عظيما رغم أنف الغربة والتغرب وما تجرُّ الغربة عليه من مشاكل ومعضلات. أليس هو نفسه من قال :
أيَّ محلٍ أرتقي
أي عظيمٍ أتقي
دون الإشارة الى جغرافية مكانية محددة. ولكي يزيد المتنبي في غروره المعهود رفض قبول أي حكم عدا حكم الخالق. وهل يتبدل حكم
الخالق بتبدل المكان ؟ فاذا قبلنا منطق طه حسين المعكوس لتوجب علينا أن نفهم أن الشاعر لم يغادر الكوفة والعراق الا لكي يتقبل أحكام خالقه خارج حدود موطنه الأصل. وتشاء الصدف أن يموت غيلةً قرب مدينة واسط داخل حدود العراق. إنَّ نظرية طه حسين حول وضاعة أسرة المتنبي وأثر ذلك على سيرته وسلوكه ينبغي أن تؤخذ بالكثير من التحفظ والحذر. فإنْ لم يذكر الشاعر أباه أو أمه في الديوان فليس معنى ذلك أنْ لم يكن له أب أو أم , أو أن هذين الوالدين ينتميان الى أصل وضيع. الحجة هذه واهية جدا للأسباب الأتية :
1-
لم يذكر المتنبي زوجه أو حتى اسم ولده ( مُحسَّد) في شعره قط. فهل يعني هذا أن المتنبي عاش ومات عازبا ؟
2-
وهل ذكر أصحاب المعلقات وسواهم من فحول شعراء العربية أسماء ذويهم في قصائدهم؟ ولأضرب مثلا من زهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد.
3-
وهل يعيب الرجل أنه لا يتذكر أباه أو أنه لا يتخيل أمه في حال وفاتهما وهو لما يزل صغيرا؟ ولنا في هذا المقام من الرسول الكريم محمد أسوة ومثل.
4-
وكم من الأمهات من ماتت في ساعة الولادة ونجا مولودها من الموت؟
5-
وهل نستبعد فقدان أب في حادث غامض أو موت في مكان بعيد مفاجيء وعزَّ الشاهد والعارف , كما قد يحصل خلال السفر لأداء مناسك الحج في الزمن القديم حيث يطول السفر وتكثر مخاطر الطريق. ولا أستثني الإختطاف السياسي ومن ثم التصفية الجسدية غير المعلن عنها كما يحصل في أيامنا هذه.
إنَّ طه حسين يذكر بل ويروي قصص الرواة عن والد المتنبي , فلماذا يجزم أو يكاد أن هذا الأب وضيع؟ وهل حقا كان هذا الوالد سقاء؟ وهل يعقل أن يضع سقاء ولده في مدرسة خاصة ( أرستقراطية ) كما يخمِّن طه حسين, ومن ثم يصطحبه الى البادية كي يفصح لسانه ويقوى عوده ؟ ثم ألم تكن أسرة النبي محمد تمارس أعمال سقاية حجيج الكعبة قبل الأسلام؟ ثم أكان في وسع موسى أن يتزوج في ( مدين ) لولا ممارسته سقاية أغنام إبنتي ((الشيخ الكبير )) (5) ؟.
أفلم يكن محتملا أن والد المتنبي كان قد طلق زوجه والدة الشاعريوم أن كان المتنبي صغيرا ومن ثم تزوجت المطلقة رجلا آخر سواه ؟ وهوأمر كثير الوقوع خاصة اذا كانت المطلقة ثرية أو جميلة أو أنها سليلة أسرة عريقة الأنساب, أو كأن تجتمع فيها كل هذه المواصفات. وفي حالة كهذه لا يستبعد أن تترك المطلقة وليدها لدى أمها ترعاه وتتكفله لقاء توفير دار مناسبة لها وقدر ضروري من المال. فالوالد إذاً موجود , صحب ولده المتنبي أحمدَ الى البادية كي يشب قويا معافى وذا شكيمة, وذلك أمر لم يختلف فيه الرواة. إنْ لم يذكر المتنبي أباه في قصائده لاحقا ليست بمشكلة, فكثرة من الشعراء قد نهجوا هذا النهج. ثم من يستطيع الجزم أنه لم يذكر أباه أو أمه في شعره قط ؟ الشعراء تكتب وتمزق أو تحرق وتعدل بحسب الظروف. والشعراء تحتفظ عادة لنفسها بأشعار خاصة لا تنشرها على الناس . وان نشرت بعضها فلأخص الخاصة.
وكيف يتسنى لرجل كأبي الطيب دائم السفر والرحيل أن يحتفظ بكل شعره مخطوطا؟ وما يضيع منه قد لا يتذكره الشاعر. زد على ذلك حادثة مقتله بالقرب من واسط في أرض العراق ونهب كل ما كان معه وما قد حمل من مال ونفائس بلاد فارس, ولا أستبعد أن يكون بعض الشعر العائلي الخاص هو الآخر قد أنتهب ومن ثم ضاع أو أصابه التلف. الوالد موجود إذاً, أما الوالدة فإنها :
1-
تكون قد ماتت أثناء أو بُعيد الولادة.
2-
قتلت في حادث ما أو ماتت غرقا, والكوفة تقع على نهر الفرات حيث أنه يشكل- وما زال حتى اليوم- واسطة حيوية للنقل المائي واسعة الأنتشار.
3-
أو أنها طلقت في المراحل الأولى لحياة الشاعر ايام ما كان طفلا صغيرا حتى أنه لا يتذكر شيئا منها البتة. بل ترك مع جدته لهذه الأم.
فإغفال ذكر الوالدين في شعر الشاعر لا ينهض ولا يمكن أن ينهض دليلا على ضعة أصل هذه الأسرة ولا على شذوذ الشاعر, كما يميل الدكتور طه حسين بقوة متبنيا نظرية علم النفس حول مركب النقص وعلاقته بالغرور والنزعة الى الأستعلاء والمبالغة. لقد تبنى هذا الخط بدون تحفظ وأندفع فيه بحماس عز نظيره, الأمر الذي أفقده موضوعية الباحث وأتزان العلماء ومن ثم أفقد بحثه حول المتنبي أصالته وأساسياته وأهميته التي يتوقعها القاريء من كاتب باحث مرموق كالمرحوم طه حسين.
أعود ثانية لحكاية مهنة والد الشاعر.
لقد تبنى البحاثة القدماء فكرة
اصل مهنة الحسين الجعفي
الكوفي الكندي والد الشاعر احمد المتنبي من مصدر يتيم واحد يحمل صاحبه من الحقد والإغراض قدرا كبيرا. ذاك الدليل جاء عن طريق بيتين من الشعر قالهما شويعر حاسد حاقد نكرة بالنسبة للمتنبي(6) . فأذا صح هذان البيتان فإنَّ صاحبهما كان قد قالهما على الأرجح لا في صِبى المتنبي, حيث أنه لم يكن معروفا كشاعر مفلق يستحق شعره حسد الحساد وكيد الكائدين, بل قالهما بعد سطوع نجم الشاعر في حلب الشهباء واسرافه في تعظيم نفسه في تلك الفترة وما تلاها في أشعار من مثل :
أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خيرُ من تسعى به قدمُ
أو في مرثية جدته موضوعة هذا البحث حيث قال :
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جلَّ أنْ يُسمى
وإني لمن قومٍ كأنَّ نفوسَهم
بها أنف أنْ تسكنَ اللحم والعظما
ومثل هذا الشعر كثير في ديوان الشاعر.
ان السقاية- لو صحت - ليست عيبا للأسباب التالية :
1-
قد تكون لدوافع دينية من باب النذر أو سقاية عطشى زائري أئمة النجف وكربلاء. وما زال بعض الناس حتى اليوم يترك أواني وجرار الماء على قارعة الطريق ليشرب منها المارة وعابروا السبيل. وعلى هذا فأن مثل هذا الماء يسمى " ماء السبيل " وهو تعبير شائع ومعروف في وسط العراق عامة وفي مدينتي ومنطقتي كربلاء والنجف بشكل خاص.
ووالد الشاعر علوي شيعي
من الكوفة , والكوفة
. قريبة من مرقد الأمام علي في مدينة النجف.
2-
أما اذا كانت مهنة هذا الوالد السقاية فعلا كوسيلة للإرتزاق , فالأمر مشكوك فيه إذْ لا يمكن لسقاء فقير أن يضمن لولده ارتياد المكاتب أو المدارس الخاصة " الأرستقراطية " كما يسميها طه حسين, وأن يعهد بتربيته الشيعية لمرب أو معلم خاص وأن يصطحبه الى البادية ليزيد من الأصول العربية لثقافته وشعره ولسانه. فهذا شأن ذوي اليسار من البشر وليس من شأن فقرائهم.
يتبقى احتمال آخر : هو أن والد الشاعر مارس مهنة السقاية لقاء أجور. وهنا يغلبني الظن أن هذا الرجل, ولظروف خاصة نجهلها الآن,
كان قد انتحل هذه المهنة ستارا للتخفي ومن أجل دفع مكروه. وأعرف أناسا أضطروا لممارسة دور العميان أو أن يصطنعوا دور الشحاذين والكسيحين طلبا للنجاة من موت محقق أو هربا من سجن رهيب .
والتخفي فن قائم بذاته تجيده الحيوانات ببراعة يحسدها عليها بنوالأنسان . فالحرباء تغير لونها والأفاعي تحاكي بيئتها لونا وهكذا. أما الأنسان فقد يغير بعضا من علاماته الفارقة كأن يصطنع له شنبا أو يطلق لحية أو أن يضع شعرا مستعارا كما في عالم اليوم. كما أن بعض الهاربين من الموت أضطر للتخفي بزي النساء, كما فعل عم الخليفة المأمون ابراهيم بن المهدي كما يذكر المسعودي(7). ولعل هذا الأسلوب في التخفي كان الأول من نوعه في تأريخ التنكر والتمويه. ولقد أفاد منه أناس آخرون في حقب زمنية لاحقة.
لقد فات الدكتور الأستاذ طه حسين أمر آخر, اذ أنه يتصور أن هنالك مدارس أرستقراطية للشيعة من نمط المدارس الخاصة المعروفة اليوم في أغلب البلدان.
يعلم الجميع أن الدراسة في المؤسسات الدينية حتى يومنا هذا هي دراسة مجانية أولا. وأنها عامة لجميع طبقات الناس ثانيا, أي أنها لا يمكن أن تكون رفيعة المستوى قياسا الى سواها, ثم لا تمايز في أمور الدين. بل وإنها تدفع المدارس الدينية مخصصات لطالب العلم, الأمر الذي درجت عليه مدارس وجامعات في النجف الأشرف على سبيل المثال. ولا أظن أن الأزهر في القاهرة يشذ عن هذه القاعدة . فكيف وقع العلامة الدكتور في هذا التصور الخاطيء ؟
أجل ْ , لقد ذكر المتنبي أمه ثلاث مرات في شعره المدون والمعروف. ذكرها في موضع الفخرأومخاطبا نفسه في البيت الأتي :
إنْ لم أذركِ على الأرماح سائلةً
فلا دُعيتُ ابن أم المجدِ والكرمِ
كما ذكرها في البيت الأخر :
أو لأم لها اذا ذكرتني
دمُ قلبٍ بدمع عينٍ يذوبُ
التزم طه حسين جانب الصمت حيال البيت الأول, في حين إعتقد أن جدة الشاعر هي المقصودة بكلمة " الأم " التي وردت في البيت الثاني. فما الذي دعا طه حسين الى هذا الإعتقاد ولِمَ لمْ يعلق على البيت الأول؟ ثم ما الذي يمنع المتنبي من أن يذكر أمه - وقد فعل - ومن أن يقصدها هي بالذات ؟ وهوالأمر الأقرب لطبيعة الأشياء ونواميس الخلق والطبيعة وتسلسل الموجودات.
لقد فعل ذلك ( هرون ) اذ استعطف أخاه موسى بالأم " يابن أم " . فأذا كانت حجة طه حسين أن المتنبي لم يعرف أمه فما أيسر رد مثل هذه الحجة بالسؤال التالي : ومن قال إنَّ الشاعر لم يعرف له أمّاً ؟ فاذا كان الجواب لأنه لم يذكرها في ديوانه , نقول ها هو قد ذكرها في ديوانه مراتٍ ثلاث . فضلا عن أن اغفال ذكر الشيء لا يعني عدم وجوده , وتلك بديهة. كما أن عدم رؤيتي الشيء, لبعده أو لصغره المتناهي, لا تعني عدم وجوده. فأنا لا أرى بلاد اليابان أو الصين بملايينها البشرية لبعد المسافة أولا, وأنا لم أرها لأنني لم أزرها قط. وفي كلا الحالين كلا البلدين موجود على سطح الكرة الأرضية.
فالمتنبي إذاً قد ذكر أمه وكان في تقديري يقصد أمه فعلا وقولا وليس جدته. ذكر أمه في الموضع الثالث في قصيدته التي مدح فيها عليا بن ابراهيم التنوخي " فكيف علوت حتى لا رفيعا " في البيت التالي :
أمنسيَّ السكونَ وحضرموتا
ووالدتي وكِندةَ والسبيعا
وهل في الأمر بعد هذا من شك أو إلتباس أو غموض ؟ لا أرى ذلك.
هل المتنبي وضيع الأصل ؟
المتنبي والكندي
من المعروف جيدا أن المتنبي كان ينتسب الى حي " كندة " في مدينة الكوفة. اذ كان لكل قبيلة حيها وموقعها الجغرافي الخاص في كل مدينة. وعلى هذا الأساس كان يتم استنفار الجيوش والمقاتلين تاهبا للحروب. وكل قبيل يعد من المجندين ما يناسب تعداد أو حجم القبيلة. وعلى هذا الأساس أيضا كانت توزع الأرزاق على الجنود أي مرتباتهم . ولكل قبيلة , فضلا عن جنودها القادرين على حمل السلاح, فرسانها وقادتها وحاملوا راياتها. وما زالت منطقة في مدينة البصرة في جنوب العراق تسمى اليوم " التميمية " وهي من بقايا حي تميم الشهير في البصرة.
فأذا ما كان الأمر كذلك, فإنه لمن المحتمل كثيرا أن المتنبي قد يرجع في اصوله الى ذات أصول فيلسوف العرب يعقوب بن اسحق الكندي الذي ولد في الكوفة اصلا عام 185 الهجري في زمن خلافة الخليفة العباسي هرون الرشيد , وعاصر المامون والمعتصم والمتوكل. ومعروف أن هذا الفيلسوف الكندي هو سليل ملوك قحطان في اليمن زمن الجاهلية. ويذكر التأريخ ان أول ملوك العرب هو سبأ بن يعرب بن قحطان وهو أحد أجداد الكندي الفيلسوف. ولعلنا في هذا واجدين تفسيرا لغلو الشاعر في تمجيد نفسه أولا وقومه ثانيا :-
لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي
وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
وبهم فخرُ كل من نطق الضا
دَ وعوذُ الجاني وغوثُ الطريدِ
ففي البيت الأول تعالٍ على قومه وعلى جدوده ما بعده من تعال. ولقد كنا تعلمنا في مدارسنا الأولى :
إنَّ الفتى من يقولُ هأنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
وكان هذا ديدن المتنبي طوال مسيرة حياته. أما في البيت الثاني فلقد رفع الشاعر قومه الى أعلى الذرى. فهم فخر العرب وهم من يغيث المطرود والمطارد. لقد تربع الشاعر على قمة هرم ما أوسع قاعدته. والهرم بناء معماري متكامل الأجزاء بحيث لا يمكن عزل الرأس عن القاعدة.
وليس للقاعدة أي معنى بدون الرأس . صحيح إنه تعالى بنفسه أولا ولكن ليعلو ولكي يُعلي أهله وقبيله وقومه من بعد. فإذا لم يحدد المتنبي في شعره كله هوية قبيلته, وإذا ما افتخر بالقوم ففي هذا بادرة جديدة جديرة بالنظر والإهتمام. ذاك أن شاعرا طفق يتكلم بلسان قومي بدل اللسان القبلي.
فهل أن المتنبي - كفيلسوف العرب الكندي - هوسليل ملوك العرب القحطانيين ؟ اذا ملنا لهذا الإحتمال فلسوف نقع في مفارقة لا تحل الا بافتراض قد يبدو غريبا وبعيدا عن بعض ما عرف عن المتنبي. لكن ليس في تفسير التأريخ البعيد من غرائب. اني أفترض ما يلي :-
1-
إنَّ الشاعر ابو الطيب احمد المتنبي هو أحد أحفاد الأشعث بن قيس من جهة أبيه , وهذالأشعث بالذات كان قد لعب دورا بارزا في سياق الصراع الدامي إبّان معركة صفين (8) حيث
فرض على الإمام علي أبا موسى الأشعري رئيسا لفريق التحكيم مقابل داهية العرب عمرو بن العاص رئيس فريق معاوية. ثم كان ما كان من أمر الخديعة التي وقع فيها الأشعري وخذلانه للأمام علي. يروي المبرد (9) أن عبد الرحمن بن ملجم ، الرجل الذي إغتال الأمام علياً كان قد بات الليلة التي سبقت عملية الإغتيال في بيت الأشعث بن قيس.
فإذا كان الأمر كذلك فمن أين جاء التشيع لهذا الشاعر شديد الطموحات كثير الخيبة والأمر يفترض فيه أن لا يكون ميالا الى العلويين بشكل عام, بل الى الخوارج شأن جده المفترض الأشعث بن قيس ؟
العارف لتأريخ الكوفة بالذات قد لا يجد صعوبة في الإهتداء الى جواب هذا السؤال. إنَّ أغلب خصوم الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وخاذليه ومن أسهم في الحرب ضد إبنه الحسين من
بعده ... إنَّ أغلب هؤلاء أضحى من أشد الناس تشيعا وموالاة لآل البيت بعد مقتل الحسين المأساوي ومعظم ذويه ومن كان معه في واقعة كربلاء . فلقد تنكر له وخانه
رؤساء وشيوخ قبائل الكوفة بعد أن استدرجوه للمجيء من المدينة الى الكوفة لإشهار البيعة له لا ليزيد بن معاوية خليفة على المسلمين . إذاً فلا غرابة أن يكون الجد معارضا أو حتى عدوا, في حين يكون الحفيد
مواليا ومحبا .
ان في مجرى حياة المتنبي العام ملامح واضحة تدل على شدة تأثره بالخوارج الذين سبقوا القرامطة بزمن. بل والدارس لشعر شاعر الخوارج الشهير( قطري بن الفجاءة ) يجد أثر نهج وعقيدة الخوارج في شعر المتنبي ولا سيما في قصيدته الميمية والتي يفترض طه حسين
(4) أن الشاعر كان قد دخل السجن بعد أن قالها مباشرة آواخر عام 324 الهجري . يقول مطلع القصيدة :
ضيفٌ ألمَّ برأسي غير محتشمِ
السيف أحسن فعلا منه باللممِ
الى أن يقول :
لقد تصبّرتُ حتى لات مصطبرِ
فالآن أقحمُ حتى لاتَ مقتحمِ
وأترك الأمر هذا للمختصين في تأريخ وأدب الخوارج حيث أن الوشائج متينة ما بينهم وبين المتنبي إنْ نسبا كما افترضنا أو عقيدة ومنهجا. أعود لسؤالي السابق : من أين جاء التشيعُ الشاعرَ ؟ الإحتمال الثاني ...
2-
كما لا أستبعد أن يكون هذا التشيع قد أتاه من جهة أمه. فقد تكون علوية النسب ترجع في اصولها لسلالة الحسين أو أخيه الأكبر الحسن
وما أكثر المراقد التي يطلق عليها الناس في وسط وجنوب العراق إسم " بنات الحسن " . ويقال إنَّ الحسن كان مزواجا يهبه الآباء بناتهم
تبركا وتقربا من إبن بنت الرسول الكريم ومن آل بيته ( أنظر المسعودي- الجزء الثالث الصفحة 300 – المساجلة التي وقعت بين الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ).
وإذا لم تكن أمه علوية النسب فإنَّ إنتماءها الى (همدان ) عن طريق أمها, كما يذكر تأريخ الشاعر, يرشحها لأن تكون كثيرة الولاء لعلي وآله ( أنظر المسعودي - المصدر السابع , الصفحة 85 – الجزء الثالث )
ونساء (همدان ) كن قد أحبطن محاولة ترشيح عمرو بن سعد بن أبي وقاص أميرا على الكوفة عام 65 للهجرة بعد موت يزيد بن معاوية , بسبب كونه أسهم في مقتل الحسين بن علي في واقعة الطف في كربلاء ( المصدر السابق , الصفحة 85 ) .
وحادث مقتل حجر الكندي بأمر من معاوية هو الآخر حدث معروف. فهذه الشخصية الكوفية المرموقة كانت معروفة بولائها للخليفة الرابع علي بن أبي طالب ( أنظر المسعودي- الجزء الثالث , الصفحة الثالثة ) . أيكون المتنبي إذاً منتميا لهذا الفرع الكندي من جهة أبيه, ومن هنا أتى تشيعه وولاؤه لآل البيت ؟ فإذا كان الأمر كذلك لا غرو إذاً أنْ نجد شاعرا فحلا مفوَّها شديد المُكنة من لغته العربية يسرف في تعظيم قدره حد إغاظة الحسّاد من شعراء زمانه وعلماء اللغة فضلا عن الأمراء ممن كان يمدح كسيف الدولة الحمداني أمير حلب الشهباء مثلا.
. بقيت مسألة تلفت النظر : لم يذكر المتنبي الحسين أو أبيه عليا في أشعاره المعروفة والمنشورة في ديوانه المتداول المعروف - وقد فعل ذلك المعري مرارا - . ورثاء الفرزدق وكثير والسيد الحميري وآخرون معروف سواء في الحسين وآله أو ذويه. فكيف نفسر صمت المتنبي عن هذا الموضوع؟ خاصة وكان آل حمدان من العلويين . لقد مدح سيف الدولة مرة فذكر آل هاشم على وجه التعميم في البيت التالي :
جزى الله عني سيف دولة هاشمٍ
فإنَّ نداه الغمر سيفي ودولتي
كما إنه ذكر الفاطميين في مدحه لطاهر بن الحسين بن طاهر العلوي :
كذا الفاطميون الندى في بنانهم
أعزُّ أمّحاءً من خطوط الرواجبِ
ثم في مدحه في صباه لمحمد بن عبيد الله العلوي المشطب :
قد أجمعت هذه الخليقة لي
أنك يا أبن النبيِّ أوحدها
وكل هذه الإشارات لا تعني بالضرورة أنَّ في الشاعر ميلا لعلي وأبنائه كما تزعم بعض الروايات. أما البطن الآخر لكندة فأنه مغاير لفرع الأشعث . انه الفرع الذي ينتمي اليه أخوال بني العباس عم الرسول الكريم. فعندما أحاق الموت بعلي بن عبد الله بن العباس ( وهوجد خلفاء بني العباس السفاح والمنصور ) لم ينقذه من هذا الموت الا أخواله من كندة. فلقد أراد المسرف ( مسلم بن عقبة المرّي ) قتله عام 64 للهجرة بعد أن نهب المدينة وأعمل السيف في أهلها بامر من يزيد بن معاوية ( المسعودي - الجزء الثالث, الصفحة 71 ) في الوقعة المعروفة بوقعة ( الحرة ).
أيكون أبو الطيب المتنبي إذاً منتميا لهذا الفرع الحجازي من كندة ؟ وما هي العلاقة بين كندة المدينة وكندة الكوفة وكندة اليمن ؟ .
0 comments:
إرسال تعليق