رحلــة لآخــــر العمــر
مساء رحب تفتحت فيه ورود حديقتها التي طالما رعتها ،ورود على عتبة البيت وعلى الشرفات اشرأبت أعناقها الرقيقة الملتوية نحو الشمس في زهو، وكأنه معرض للألوان الساحرة التي تتجاوب في معزوفة متناغمة وغير منتهية مع حديث الجدة الهامس، هنا ينادونها الحاجة فاطمة والكل يعرف حبها لبيتها ولأسرتها وتفانيها في الاهتمام بعالمها من كل جوانبه، في هذا المساء انقلبت عليها الدنيا بين يوم وليلة حين انتهت من جمع أشيائها الصغيرة لموعد في صباح الغد. لم تكد تنتهي من وجبة الفطور حتى دوى نداء ابنها جمال يخبرها أن سيارة الأجرة تنتظرها، تأهبت لمغادرة البيت كل دقة من قلبها تعلن تمردها ورفضها مغادرته لكنه اختيار ابنها، جالت بنظرها في كل أرجاء المنزل مودعة كل ركن فيه، مالت بنظرها المتعب نحو حفيدها لتطبع على خده قبلة رقيقة طويلة، اعتدلت وتأملته برهة، مسحت دمعة فرت من عينها، وأخذت نفسا عميقا، اتجهت إلى حيث السيارة بخطى متثاقلة، لم تكن الحاجة فاطمة بحاجة لتذكير السائق بوجهتها، نظرت ثانية إلى البيت الذي تركت فيه بصمتها في كل شيء لأكثر من نصف عمرها، أخذ الهواء يصافح تجاعيد وجهها ويشاكس الشعيرات البيضاء على جانبي رأسها فجفف دموعها. استغرقت في دوامة من التساؤلات التي ملأت رأسها، إنه ابنها الوحيد التي ربته حتى صار ذا مكانة اجتماعية رفيعة يطلب منها أن تغادر البيت حتى لا تظل تخيف حفيدها بسبب فقدانها أحد عينيها لأنها تصيبه بالكوابيس ليلا.. "يا خسارة" رددتها كثيرا حتى توقفت السيارة، الحاجة فاطمة لا تجيد القراءة ولا الكتابة ولا تعلم أين هي الآن؟ نزلت وما هي إلا خطوات حتى شعرت بالعطش يلهب جوفها وأصابها الدوار، أفاقت الحاجة فاطمة إلى نفسها مستلقية على إحدى المستشفيات وقطرات المحلول المغذي ينساب في عروق جسدها ببطء، اقتربت منها الطبيبة مبتسمة، ربتت على يديها بحنان وطمأنتها أنه بإمكانها غدا العودة إلى منزلها، ترجتها الحاجة فاطمة أن يعيدوها من حيث وجدوها بالضبط.
بدا المنظر جديد عليها ولكنها أحست أنه عالم طيب وجد لأمثالها، في حديقة المكان جلس بعض المسنين تحت ظلال الأشجار يضحكون ملء قلوبهم وكأن كل منهم قد وجد عالمه بعد رحلة عمر طويلة، أما البعض الآخر فلاذ بالصمت وسافر بخياله إلى عالم آخر، إنها دار العجزة والمسنين التي أرسلها إليها ابنها، تساءلت إن كانت ستروقها الحياة في هذا المكان، ولكن ما لبثت أن تداركت أمرها،ليس لها مكان آخر، المهم أنها لن تخيف حفيدها بعينها الواحدة بعد الآن، مرت عليها الشهور سريعا تعرفت خلالها على جوانب أخرى من الحياة فقصتها تبدو هينة بالنسبة لقصص رفيقات الدار، ولكنها مع ذلك تشفق على نفسها من هذا المصير، فهي لديها ابن وحفيد يشغل أمرهما بالها كثيرا وتدور الأسئلة الحائرة في رأسها عن حديقتها وأزهارها، هل ستهتم زوجة ابنها بها.. وبحفيدها، هل تجيد إعداد الفطائر كل صباح أم أنها لا تزال تطيل النوم حتى العاشرة صباحا؟ ألفت الحاجة فاطمة الدار وأهلها، كانت تحزن لحزنهم وتفرح لفرحهم، وما كان يمزق قلبها فراق أحدهم بعد أن يخطفه الموت، كان الموت بالنسبة لها هاجسا مخيفا فهي لا تتصور أن تموت هكذا بعيدة عن أحبائها أولئك الذين لم يكلفوا أنفسهم مجرد السؤال عنها وكأنما كانت عبئا ثقيلا وتخلصوا منه، وجاء صباح ذلك اليوم الذي لم تنهض الحاجة فاطمة كعادتها، لقد فارقت الحياة في هدوء.. ودفنت في صمت ، ولم يعلم بوفاتها أحد من أسرتها، مرت الأيام والشهور تعبئ رصيد الانتقام من العقوق، فقد عاود جمال التهاب شديد في عينه بعد فترة ظن أنه تعافى منه ،وراجع الطبيب لكون الآلام هذه المرة لا تحتمل، طمأنه الطبيب بأن هذا عادي لمن في حالته، فالعين المنقولة تبقى دائما حساسة خصوصا في وقت الربيع، لم يكد جمال يفيق من صدمة كلام طبيبه حتى جاءته الصدمة الكبرى فعلم أنه أصيب في صغره بمرض خطير في إحدى عينيه وكان مهددا بفقدانها تماما، فتبرعت له أمه بعينها مضحية من أجله ليبصر هو وقد أوصت بكتمان الأمر حتى تموت وفقط عند اللزوم، هز الدوار رأس جمال كأنه في قلب عاصفة هوجاء خرج متعثر الخطوات، اتجه مباشرة إلى دار العجزة والمسنين حيث أرسلها، نظر إليه الجميع نظرة عتاب ولوم ، أما هو فتمنى أن يرتمي في حضنها مثلما كان صغيرا، ولكنه الآن يواجه الحقيقة ، فات الأوان .
موعـــــد مـع الماضــي
كان الوقت غروبا عندما أحست بنسمات بحرية باردة تمر على المدينة وتلفح وجهها ببعض الملوحة جعلتها تعود إلى غرفتها وتتمدد على سريرها الذي لم تغادره هذا اليوم إلا لبعض اللحظات، شعور بالضيق ووخزات بقلبها دفعتها للنهوض مجددا والاقتراب مرة أخرى من النافذة حيث جلست في مكانها المفضل تتأمل آفاق البحر من على كرسيها الهزاز فمنه تعودت أن تتزود بجرعة من الإحساس بالأمل وبالرغبة في مواصلة في الحياة والتجدد ،إنها مجرد لحظات استغراق ولكنها فرصة لمراجعة النفس .. عاودتها الوخزات وكانت قوية هذه المرة ، لا تستطيع التنفس فحملت هاتفها وطلبت ابنتها "ليديا" ، أخبرتها إحدى الممرضات أنها في غرفة العمليات تجري جراحة لطفل في حالة خطيرة ، أغلقت الهاتف وشعرت أن الموت يتسرب سريعا إلى كل كيانها وتخشى أن يحرمها من نظرتها الأخيرة على أولادها ، أرادت الاتصال بابنها البكر في أمريكا لكي تسمع صوته على الأقل وترتاح ، لكنها ترددت إذ سيزيد اتصالها قلقه ، فاتصلت بزوجها الذي كان في غمرة التحضير لسفرهما معا إلى تلك المدينة الأوروبية التي تختزن ذاكرتهما فيها أحلى أيامهما وأجمل ذكرياتهما ، جاءها صوته عذبا شجيا كما تعودته عندما يحدثها عن أحلامهما، أحس بضعف نبراتها وخفوت صوتها فعلم أن زوجته "نجلاء" قد عاودها ألم قلبها،عاد مسرعا إلى المنزل، إنها حبيبة قلبه التي خطفته يوما إلى أجمل العوالم فسطرا معا تاريخهما ، لم يكد يراها حتى ابتلع حروفه إلى جوفه بدت ملامحها أكثر ارتخاء وحمم العرق تكسو وجهها، أحس برعشة يديها فانتفض وحملها ، ومن ضياء عينيه نحوها وصلتها رسالته أن لا تخافي يازنبقتي.. بل يا ترنيمة من نور وتسبيحة من عبق . .ونهر من عسل وأغنيته التي يتلوها ليل نهار، ابتسمت ابتسامة من تحاول طمأنته أركبها السيارة وانطلق مسرعا ، حاول خلال ذلك تجاذب أطراف الحديث معها فوجدها تفقد وعيها تدريجيا غير أنها انتبهت على وقع أنامله تتحسسها ثم تمسح دمعة انزلقت على خدها لاحظت قمة ذعره وهو يطبع قبلته على كفها ،وسألته إن كان سيؤنسها في هذا المساء الموحش.. كبر إحساسه بالندم عندما تركها وحيدة بالمنزل ، فور وصوله المستشفى أسرع الفريق الطبي بنقلها إلى الاستعجالات وبعد إجراءات الفحص قرروا أن تبقى بالمستشفى فحالتها لا تسمح لها بالمغادرة ، سأل أحمد عن ابنته "ليديا" فعلم أنها غادرت لتوها غرفة العمليات ، نبه الممرضة أن تنقل إليها خبر وجود والدتها بالمستشفى بهدوء حتى لا تتوتر، وما هي إلا لحظات حتى حضرت ورأت والدتها في حالة لم ترها من قبل ، بكت على حافة سريرها، نظرت إليها طويلا واسترجعت الماضي إذ بفضلها أشرقت كل أحلامها الدافئة وأضاءت عمرها بكل جميل وجديد ، جاءها صوت والدها يخبرها بما كان من أمرها منذ الصباح ، انتفضت مسرعة تطلب البروفيسور" أمين " ولم تعد إلا معه وما أن وقع نظره عليها حتى تفاجأ وسبح الله تسبيحا كثيرا فاستغربت ليديا وأرادت الاستفسار لكنه أجل الحديث لما بعد التشخيص ، وبعد فحص مدقق وطويل قرر أمين أن تجرى لها عملية جراحية بسرعة قبل أن تتفاقم الحالة أكثر وصمم على أنه هو بالذات من سيجري العملية لهذه السيدة "العظيمة" نظر إليه أحمد مستغربا إن كان سبق له معرفتها أكد أمين ذلك واكتفى بأن أوضح أنه لها هي كل الفضل في ما هو فيه الآن ثم صمت وابتعد قليلا عنهم ونفسه تحدثه لماذا لا يلتقيها إلا في تقلب الفصول ومع سيمفونية الألم ، كسر شروده إلحاح أحمد لمعرفة احتمالات نجاح العملية ، أكد له أن صوت الحياة عندها سيغلب صوت الألم، وأن لديها القدرة على تحمل المرض زائر البدن الذي أصبح جسدها له سكن ينتشر فيه كالهشيم في الحطب ويضع مؤشر حالتها في حدود الخطر، الأنفاس تتسارع من أجل البقاء تلهث لكي يبقى هذا القلب الطيب ينبض ، ابتسم الطبيب والأمل يشع من عينيه إن الغد سيكون أجمل وأن قدرة الله فوق حدود اليأس ، سبح أحمد وحمد الله وردد الدعاء لها أن يعجل الله لها بالشفاء ، تجاوب معه أمين بأنها هكذا هي المستشفيات، الراقدون فيها أجساد أعتمرها المرض وسكنها وتستحق منا الدعاء بالشفاء والصحة والعافية ، تفجرت دموع ليديا وهي تحقن أمها مع مجيء ممرضة تخبر الطبيب أن غرفة العمليات أصبحت جاهزة ، أصرت ليديا على حضور العملية الجراحية وصممت أن ترافق أمها ، مرت ساعة ثم ساعتين .. وأخيرا خرجت ليديا أولا وقلبها يتدثر بدثار الأمل والضمير يتوشح بوشاح الرضا ، اتجهت إلى أبيها وقد تهلل قلبها تطمئنه ، ثم انزوى بها يسألها حائرا عن أصل علاقة هذا الطبيب بزوجته ، لم تتمكن من الإجابة لحظة خروج الطبيب أمين بأعصاب هادئة يطمئنه بأنها ستفيق تدريجيا من أثر المخدر ، بقي أحمد إلى جانبها لا يفارقها ، انقضت الساعات تمكنت ليديا خلالها من إحضار ما يلزم أمها من ملابس وحاجيات.. لحق بهم الطبيب ثم اتجه مع أحمد خارج الغرفة يتداولان أطراف الحديث حول الحالة الصحية لزوجته نجلاء ، ثم بادره بالسؤال الذي ظل يشغله عن أصل معرفته بها ، ابتسم أمين ونظر إلى الآفاق وقد طاب له أن يسترجع ذكرى تعود إلى آخر سنوات دراسته بالمرحلة الثانوية عندما اعتاد أن يرى في طريقه كل صباح آنسة جميلة ، أنيقة ، سرعان ما أعجب بها ومع الأيام صار يسبح في فضاء حبها ، ومع أنها كانت تكبره في السن إلا أنه كان يرتاح لرؤيتها ، أسرته سحر ابتسامتها و دفء نظراتها ، كان من أجلها ينهض باكرا لينتظرها بالمحطة ويراقبها إلى أن تغادرها ، كانت بالنسبة له حلما جميلا ليس له تفسير،، صار مدمنا على رؤيتها حتى قرر يوما أن يكلمها ، ولكنه وجد نفسه يسألها مباشرة إن كانت مرتبطة فأجابته بما يريحه وأنها تعمل مدرسة، لم ينس ابتسامتها الرقيقة وهي تستفسر منه عن سر سؤاله هذا ، صارحها بكل شجاعة أنه أحبها فهل بإمكانها أن تقبل حبه لها .. وأخبرها أنه لا يزال يدرس، وهنا يتذكر كم كانت فرحته عندما تأملته طويلا واشترطت قبولها به بحصوله على الشهادة الثانوية وبأعلى معدل يمكنه من دخول كلية الطب، لم يجد أمين حرجا في الاعتراف بأنه تعلق بها كثيرا وكان يخبرها بكل يحصل عليه من نتائج دراسية وأنها كانت تشجعه ومعها عرف تفسيرا لحلمه وأدرك معانيه ، لقد أصبحت له الشخص الأكثر أهمية في حياته سواء في حضورها أو غيابها ، لقد أنسته كل المحيطين به وخاصة أصدقاء السوء الطامعين في أموال والده وأصحاب المطالب الكثيرة ، كان والده لا يهمه سوى مصنعه وحسابات الربح و الخسارة ،ولكنه معها أصبح سعيدا بنفسه ويسكنه شعور عميق بالاستقرار النفسي كلما فكر فيها، وكانت هي تسعد بنتائجه الدراسية ومن أجل هذا واصل حصد النتائج الجيدة إلى أن تمكن من التسجيل بكلية الطب . لم يشأ أمين الاكتفاء بهذا القدر فقد شجعه حسن استماع أحمد على مواصلة حديث الذكريات ودون حرج كبير، بعد انقضاء العطلة الصيفية كان متلهفا لمقابلتها بالمحطة المعتادة لكنها لم تأت وفي اليوم الثاني والثالث كذلك وتواصل غيابها طويلا حتى يأس من رؤيتها، وانقطع للدراسة بجد حتى يفي بوعده لها كاملا ، عادت الابتسامة إلى وجه أمين وهو يستطرد كيف أنه كان برفقة زميلة له حين التقى بها صدفة في محطة القطار واقترب منها ملقيا السلام ، رآها كما عهدها بشوشة ، مرحة ، عفوية، تحب دائما كل من حولها ، وكيف أنها ابتسمت ورحبت بهما دون تردد قبل أن تهمس له أن اختياره جيد وأن ذوقه رفيع وأنها تتمنى إن تكون زميلته هذه هي رفيقة دربه ، ولكنه عندما أعاد عليها ما سبق من وعدها له وقد كان قلبه لا يزال متعلق بها ، علم أن وعدها كان يتعلق بحرصها على استقرار حياته ،وأدرك حينها حكمتها عندما احتوته بتصرفها ، وانه منذ ذلك الوقت لم يرها حتى هذا اليوم ، ولكن عندما التحقت " ليديا" بكلية الطب رأى فيها الكثير مما يذكره بنجلاء وقد تعرف عليها شقيقه الطبيب أيضا بقسم أمراض القلب الذي يبدو أنه متيم بها ، تدخلت "ليديا" في الحديث مذكرة أبيها بما حدثته عن الطبيب الذي يريد التقدم لخطبتها ، علم أحمد إن الطبيب أمين قد تزوج من نفس الفتاة التي رأتها السيدة نجلاء عند محطة القطار وله منها ولدين . انصرف الجميع إلى غرفة نجلاء يتقاسمون إدراكا عميقا بأن هذه هي الحياة برغم ما فيها من تقارب وتباعد ، وبرغم كل المتشابهات التي تقترب في أحيان كثيرة من التطابق إلا أن هناك مفارقات عديدة بين الواقع والأحلام ليس للإنسان فيها إرادة أو قرار سوى أنه يستطيع برغباته أن يحسن من ملامح صورته وأن يزيل الغموض من حوله .
وانتقــم القــدر
على سطح النافذة تساقطت حبات المطر متعجلة مضطربة تصارع حظها بعدما قضت نحبها ، اعتدلت جالسة على حافة سريرها تراقب المشهد حيث تتشكل الكلمات على حواف النافذة فينضج فعل العمل والرمز المكتنز بالدلالة ليشكل لوحة حروفية لا حرف فيها، المشهد يكاد يخنقها فلا فرق كبير بين ما تراه وبين مدامعها، كانت حامل في شهرها التاسع وهذا حملها الخامس ، وداد أم لأربع بنات ، زوجها يريد طفلا ذكرا يحمل العبء معه ويشاركه مسؤولية البنات الأربعة ، لكن أبلغها الطبيب أن الجنين هذه المرة أيضا أنثى، كان زوجها قد توعدها بالانفصال والزواج من أخرى، أفكار كثيرة تشوش ذاكرتها ، صورتها في المرآة تبدو كمسمار، شاحبة ، لقد تخضب شعرها بالبياض، وأثقل الهم كاهلها، تترقب باب غرفتها الموارب بعين دامعة منكسرة ولسانها يلهج بالذكر الحكيم و التسبيح والدعاء ، تخشى عودة اللوعة وفهرسة العذابات وكشف حساب المهانة الجاهلية، تشعر بالضيق وبالمرارة تخنق أنفاسها وهي تقاسي ثنائية المواجهة والصمت، دخلت عليها بناتها الأربعة متأهبات للخروج إلى مدارسهن ، ربتت على كتفها ابنتها مريم وهمست لها أن الله لطيف كريم ، بهذه الكلمات هدأت وخف قلقها وضيقها ، تسعدها نتائج بناتها وتفوقهن في الدراسة ، لم تبخل عليهن بما استطاعت أنهن كل شيء في حياتها ، بهن تتلمس الطريق نحو بصيص من ضوء أمل تراه فيهن من أجل حياة آمنة مطمئنة ،كان جو الغرفة محاطا بهالة مظلمة ، اتجهت نحو النافذة وسحبت ببطء الستارة إلي آخرها لتحظى بمجال رؤية أوسع لمشاهدة بناتها في الطريق ، جالت ببصرها في السماء ووجدت السحب تتأهب بأثوابها الرمادية لتتلبد مرة ثانية بعد هدنة لم تدم طويلا ، هو بالنسبة لها فصل الحفلات المبكية، بدأت كل غيمة تضع حملها ، وما إلا ثواني حتى صارت تلك الشذرات المائية الساقطة من رحمها خيوطا تنهمر دون هوادة لترتطم بقوة على أجساد الطرقات و أسطح المباني ، دفعها هذا المنظر المدهش للتفكير في الاتصال بزوجها الذي منذ سماعه خبر حملها بأنثى لم يدخل البيت منذ أسبوع مضى ولم يسأل عنها ولا عن بناته، قطيعة هي الأولى بينهما التي تدوم طويلا منذ زواجهما ، نعم وجوده معها لا يغير شيئا كثيرا في الواقع، أنه يتلذذ بعنفه وهي في قمة انهيارها ، اتصلت على هاتفه النقال ، أنها رنة .. رنتان، انتظرت ونبضها يتسارع ، أخيرا جاءها صوت ناعم مخملي فيه كل دفء الأنوثة المغرية ، سألتها بتلطف لا يخفي شيء من القلق من تكون هي .. وكيف وصلها هاتف زوجها ؟ أبلغتها المتحدثة بدلال مفرط أنها زوجته ، ولا تريد إزعاجا من أحد في الأيام الأولي من شهر عسلها ، كما أنها لا تريد ... أغلقت وداد الهاتف وأنهت المكالمة كأنها تضع نقطة النهاية وتطوي تاريخا حين شعرت أن القدر غير مجرى حياتها وأن الأحلام التي تعلقت بها ضائعة لا محالة ، لقد تعمد أن يقتل قلبها ويحرق الذكريات ، هذا تيه جديد عليها ولد مع الكراهية ، انه كابوس مطبق على وشك أن يدمر كيانها ويضيع حياتها ، لكنها استجمعت قوة إرادتها من وجودها لأجل بناتها الأربعة ، قررت أن تركل الماضي بقوة وتمضي كالسندباد في رحلة الحياة حتى وان كانت نحو المجهول قد يكون في ذلك انعتاقها إلى موطن آخر وأخير ، فبعد أن أصبحت أوطانها لغير شعوبها فلا أسف .
امتلكها التردد في تحديد البداية والاتجاه، تشعر بدوار كأنها في دوامة تجذبها بعنف إلى الأعماق المظلمة أنها تعاني ثنائية التذكر والنسيان، ستنطلق من أن منطق الأشياء واحد منذ بداية التكوين هي لا تريد أن تصوغه صياغة أخرى ، يكفيها فقط أن الحرية بعد الاستبداد تمنحها عمرا وتلهمها عمقا جديدين ، هي في النهاية بصيغة مطلقة ، وهذا يمنحها بداية أخرى بعيدة عنه ، ابتسمت وهي تعاود النظر من وراء النافذة ، كان المنظر مثيرا، نسجت أشعة الشمس قوس قزح فتشكلت مع ما تبقى من السحب لوحة طبيعية ذات مسحة مغرية بالتأمل فيها الألوان بعينيها مسحورة ، كان المشهد منجما للرموز والمفردات وملهما لها حقا أنعشها ومنحها أملا جميلا ومتجددا في الحياة ، سحبت الستارة من طرفها فعادت الغرفة إلى ظلامها مرة ثانية ، أنارت ضوءا كستنائيا هادئا شجعها على الاسترخاء فوق سريرها ومنه استسلمت لنوم عميق أبعدها عن فزاعة كوابيس اليقظة ، لم تدر كم من الوقت نامت ، أفاقت على صوت بناتها العائدات من المدرسة ، استبقتهن الكبرى في الدخول عليها والسؤال عنها و .. عن والدها ، طلبت أمها أن تجمع أخواتها لتسمعهن ما قد أصبح من الضروري سماعه، أبيهم يعيش الآن حياة ثانية ، وهي قررت أن تبيع هذا المنزل الذي ورثته عن أهلها والابتعاد عن أعين الجيران وفضولهم ونظرات الإشفاق، قرأت ألف سؤال حائر في نظرات عيونهن البريئة فبادرتهن بكل شجاعة أنهن معا سيتغلبن على كل المشاكل بالتعاون والصبر ، بعد تناول عشاءا دافئا أمضت ليلتها تتأمل بناتها وهن يراجعن دروسهن حتى لجأن جميعا للفراش ، ذرفت دمعتين ساخنتين مسحت إحداهن بأطراف أصابعها البيضاء بينما تسللت أخرى إلى وسادتها التي شاركتها كل اللحظات، باب غرفتها لا يزال مواربا ومنه يتسلل نورا خافتا يبين لها بوضوح انقباضات بطنها على وقع حركة الجنين ،أحست بركلات داخلية رقيقة قابلتها بابتسامة خفيفة وبملامسة حانية من يديها دون أن تصرف نظرها عن صورتها معه، تتأملها لتحفظ ملامحه.. توالت الأيام وابتعدت عن أناس تعرفهم و لم يعد زوجها يعرف إليها طريقا أو مكان ، حان وقت الولادة رافقتها ابنتها الكبرى إلى المستشفى وأنجبت مولودة أسمتها "بشرى " لعلها تكون بشرة خير ، ومنها مضت السنون ، ونالت بناتها الشهادات الجامعية واشتغلن في أفضل الوظائف.. ثم تزوجن.. لم تبق معها إلا ابنتها الصغرى بشرى ذات الإحساس الرهيف التي يحلو لها في الأمسيات الجميلة حين يتوسط القمر قلب السماء الفسيحة مشكلا بلورة فضية شفافة وفي وسط السكون الشامل أن تسحب من تحت وسادتها دفتر مذكراتها اليومية تسجل فيه أحداثا كلها كانت بنكهة الذكريات الجميلة.
نهضت بشرى كعادتها صباح كل يوم مسرعة لتحق بالمستشفى حيث تزاول دروسها التطبيقية بالسنة الأخيرة في كلية الطب ، ولم تنس مثلما تعودت مؤخرا أن تمر على هذا الشيخ الهرم لتعطيه نصيبا من فطور الصباح ،كان قابعا على ناصية إحدى الطرقات حيث يبقى في مكانه ليل نهار بقميصه الأبيض الرث وسرواله الذي لم تعرف المكواة له طريقا ، عيناه الضيقتان تكاد تختفي خلف عدسات نظارة سميكة يحرك شفتاه في تمتمات ألم بكلمات غير مفهومة وهو يهز رأسه يمينا و شمالا في أسى وعيناه تمتلئان حسرة، يبدو لكل من يراه أنه كسير الفؤاد ، متهالك الجسد شارد الذهن مصفرا يبدو وقد انطفأت فيه روح الحياة ، ومع ذلك صارت ملامحه عندها مألوفة وهو كلما رآها يتأملها فيستأنس بها أكثر ، يعلم أنها كمن في سنها تتلمس لنفسها السبل عبر الدهاليز في وسط العتمة والضباب نحو الممر المشع نورا ليقودها إلى المستقبل الأفضل اقتياد الملاك الأمين فيسمعها أفضل الدعوات بالستر والخير والنجاح.
اقترب موعد تخرجها لتحقق أمنية أمها في أن تصبح طبيبة تقوم بعلاجها بنفسها ، أفكارها المتزاحمة لا تزال تدونها كل ليلة في دفتر مناجاتها فهي تلقي كل ما بداخلها على الورق ، تترجمه إلى إحساس معلن عله يكون شيئا مختلفا فيه من اللذة ما يفتن القلب مثل البركان الذي يلقي حمما ملتهبة تميت الأرض حينا ولكنها تزرع في أحشائها خصوبة ماكثة ، أو مثل الحريق الذي يعقب سواده اخضرار وحياة و وجود .. ذلك أفضل لها من أن تظل تبني وتهدم أسوارا من الأسئلة المملة التائهة، خرجت في اليوم التالي إلى المستشفى فوجدت هذا الشيخ في حالة مرضية حرجة تكاد تفتك به ، أدخلته المستشفى وقامت بإجراء الفحص الطبي عليه وحرصت طوال وجوده على الاعتناء الكامل به حتى تحسنت حالته ، استفسرت منه عن عائلته لتبليغهم بأمره ، أخبرها أن له ولدان عاقاه وطرداه من المنزل بعدما سلباه ماله وصحته ، أشفقت عليه وطلبت أن يعتبرها ابنة له ، طأطأ رأسه وذبلت عيناه في غفوة أرادها ملاذا من أسئلتها الحرجة.
أتمت بشرى دراستها وقررت أن نقيم حفلة في بيتها بهذه المناسبة يحضرها جمع من صديقاتها وزميلات الدراسة ولم تنس أن تتوجه قبلها إلى الشيخ الذي اعتادت على دعواته لها كل صباح ، أرادت أن تأخذه معها إلى المنزل ليشاركها فرحتها بالتخرج ، أركبته سيارتها إلى منزلها ، وما إن دخلا البيت حتى نادت أمها التي كانت قد أعدت نفسها جيدا وبدت في حلة باهية تليق بفرحة ابنتها وبفرحتها بها ، بدت أصغر وأجمل مما كانت عليه من قبل، لم تمح السنين بعد ملامح من حسنها، ولكن ما إن رأته قادم خلفها حتى شعرت برعشة كاسحة تعتري جسدها وبانتفاضة شديدة تهز كيانها وتزلزل ثباتها وكأنها تحضر لأول مرة ظروف ولادة بشرى وأيقنت أخيرا أن شيئا ما يفكها من سلاسل الوحدة و يحررها من قيود التيه مسحت على وجهها والتقطت أنفاسها وهدأت ، عرفته وعرفها ، وعرفا معا أن العالم صغير جدا ، ابتسمت بشرى وقدمته لأمها على أنه "العم" الذي كانت تخبرها عنه ، نظرت إليه مرة ثانية وتأملها هو جيدا التقت عيونهما في نظرة طويلة تريد أن تختصر سنين الفراق ، لم يكن الأمر يحتاج منه إلى ذكاء كبير أو إلى أدنى جهد من التفكير ليدرك أن بشرى ابنته التي ترك أسرته وترك البيت بسببها ، وبدون تردد باحت وداد لابنتها قبل أن يدنو منها ، أنه هو والدها ، تسمرت بشرى في مكانها وهي تتأرجح بين ثنائية الفرحة واللوعة ، التفتت إليه وداد مستطلعة تأثير الخبر عليه ، لقد قلبت عليه مواجع الذكرى وآلامها.. لم يغادر الحزن نظراته بل امتلأت أكثر بما لم يسبق لها أن رأته من قبل في عينيه، بعدما عاش ثنائية الحياة والموت، والآن يطارده الحنين إلى زمن الألفة.. إنها هزيمته أمام انتقام القدر.
إمبراطـــــورية " نــــــون"
لم تكن يوما في عينيه مثل كل النساء، كان يراها دائما غير باقي النساء، يشعر دوما أنه بحاجة إلى وجهها الباسم كأنه هالة قمر انبثق منها شعاع يبعث الأمل ويتلهف قلبه إلى رؤيتها لتستأنس عينه مع مداومة النظر إليها فتمنح باله التائه جرعة الرجاء تدب في شرايينه ألوانا من الفرح فهي حب العمر كله ، وما كان يخشى أن تتدلل عليه يوما بجمالها ،الاستئناس بينهما هو طريقهما للحب، لم تفارقه وهو في ذات المساء الربيعي يقف في شرفته يطل على الطرقات الممتدة ويشاهد شرفات القصور أمامه، وعتبات المنازل على جانبي الطريق حيث تفتحت فيها ورود كثيرة اشرأبت أعناقها الرقيقة الملتوية نحو الشمس في زهو وكأنه معرض للألوان الساحرة البيضاء والحمراء والبنفسجية تتحاور في معزوفة متناغمة ، إنها "زهور" زوجته التي أحبها وأحبته ،أحبها منذ عرفها وعشقها لما تزوجها وأخلص في حبه لها، امرأة حاذقة في إدارة شؤون منزلها ، يراها أحسن تدبيرا من وزير للمالية أو الاقتصاد ، تحصي بذكاء مداخيل مؤسستها العائلية وتحدد بدهاء حميد مصروفاتها ، الحذر في جيناتها، تعرف وتجيد الاحتياط لنفسها ولأسرتها من تقلبات الزمن، وتدرك جيدا أن عليها توقع حالات الطوارئ حتى لا تجد نفسها وأسرتها يوما مثار تشفي عزول أو محل سخرية حاقد أوغل حسود ، ترفع شعارا في حياتها وهو الحكمة الخالدة " ادخر القرش الأبيض لليوم الأسود" فتجدها كالنملة في دبيبها على الأرض تدخر حبات القمح ، زوجها إسماعيل موظف إداري مخلص لمهنته منضبط في عمله ملتزم في مواعيده، ولكنه يرفض الاسترزاق من أي عمل موازي آخر إضافي يلهيه عن عمله الحكومي مهما كانت مميزاته ، يرفض ذلك في كرامة برغم حاجته لمواجهة تكاليف العيش المتزايدة ومقارعة متطلبات الحياة المتنامية، يرفض مظاهر التمارض ، والإجازات المرضية ، يعاند حتى لو وهن منه العظم ، يكابر حتى لو أضطر إلى مغالبة المرض، يؤمن بأن مواصلة العمل عنده سبيلا لدخول حيز الحياة كي لا يتوقف نموه الاجتماعي، انه أب لطفلين وثلاث بنات جميعهم نجوم علم في سماء شمسها "زهور" كلما اجتمعوا حوله تأمل وجوههم في طيبة وأمان وبكل راحة ضمير ، لساعة الجد عنده حدها ووقتها وبين فترة وأخرى تراه يتحول إلى صاحب نكتة وفي طرائفه عبر ودروس.
في حديث متواصل عميق مع " زهور" بعدما بسط الدرب أمامها مدت أولى خطواتها نحوه بكل أمان وبكلام عذب مس شغاف قلبها استظلت بظل دفئه وكأنه إكليل جبلي عبق سريعا مكانها وأضفى على الجو معنى رومانسي رقيق ، انه يعيدها بكلماته إلى زمن كانت فيه مثل فراشة مرحة معه في الشروق والغروب، لقد أوقظ فيها ذلك الشعور الذي فيه تحلم المرأة بذاتها في بحثها عن الآخر ، دعمها وسندها في الحياة ، ربتت بيديها الناعمتين على كتفيه وكأنها تكلمه بلغة جديدة لم تعرفها من قبل، لغة تجعل الكون يتسع أكثر والشمس تقترب من الأرض ،تراه زوجها الذي لم يتغير منه شيء ، شفافا معطاء ، نظرت إليه وفي صمت باحت ابتسامتها بأسرار حلوة أسرار امرأة جعلت نفسها لزوجها كالماء للسمكة ، ففاتحها وهو يمسك يدها أنه يدرك طريقة إدارتها لشؤون المنزل وفق منطق "اقتصاد الحرب" ومع ذلك اجتهد لإسعادها بما اقتطعه من راتبه لاقتناء بعض الصحون الجميلة والكؤوس المذهبة والأواني الفضية والزرابي الشامية والتحف المختلفة كان يقتنيها خلال الأسبوع الأول من كل شهر لأنه بعد ذلك سيكون لكل دينار في اقتصادها مكانه ولن يكون متاحا له أي سبيل لتحويل وجهته التي تحددت أو مراجعتها فيما أصبح عندها أمرا مقضيا، لذلك فهو يتذكر بحنين متميز كل واجهة محل أشترى منها كأسا أو صحنا أو أفرشة، قالها ثم نأى بجانبه عنها يتمتم متأسفا أنه لم يحصل له خلال كل هذا الوقت شرف التمتع باستعمالها حتى شارف على التقاعد، قالها وكأنه يريد أن يضع حدا لأمر لا يريد تأجيله لأنه سيكون مدعاة لاستمرار الرضا بالوضع .
في صباح يوم ليس مثله صباح من قبل استيقظ مستبشرا بعد أن رأى في منامه أنه يسبح في البر ثم انقلب ماشيا فوق ماء البحر، لذلك استقبل يومه مزهوا بنفسه فما ناله من ضيق سيصح من بعده يقينه في أمر كان منه في شك لأنه توصل إلى قرار اتخذه بليل وهو أن يقتحم إمبراطورية السيدة زوجته يقتحمها غازيا متحديا أبجديات " اقتصاد الحرب" الذي تطبقه منذ زمن، قرر أن يواجه بشجاعة علوم الاقتصاديات الحرجة والأزمات ولا يبقى أسير الأحلام التي وحدها توزع بالمجان وسيكون من المضحك أن يطارد خيط دخان، حلم لم يصل إلى الحقيقة مات في الرحم قبل الولادة ، لا شيء يمنعه عن السعادة سوى عدم غرس بشرى في القلب تثمر بسمة، بقي بين مد العاطفة وجذر العقل إلى أن اغتنم مناسبة أول الشهر وبعدما اكتمل لديه الراتب الشهري والحوافز ومختلف العلاوات فاشترى في طريقه عودته إلى المنزل الكثير مما لذ وطاب له من المأكولات والمشروبات على غير عادته، وأوصى زوجته أن أشخاصا "مهمين" سيكونون ضيوفا عليهم اليوم وعددهم ستة أشخاص ، فتفننت "زهور" في إعداد أشهى المأكولات، وأعدت المائدة بكل ما تملك من الأواني الفاخرة المذهبة والفضيات وفرشت الأرض بالزرابي الجميلة، وفتحت أكياس الزبيب والجوز المخبأة منذ أهدتها لها أختها في الأيام البيضاء، وزينت الأركان بالنباتات المنزلية الخضراء وأصبح كل شيء معد لاستقبال الضيوف بشكل أرادته أن يشرف زوجها الحبيب إسماعيل أمام ضيوفه . في الغرفة الخاصة باستقبال الضيوف التي يطل بابها على بهو فسيح استلقى إسماعيل على أريكة كان فراشها من حرير يتملى بعينيه في نشوة غابت عنه كثيرا حسن المكان وجمال بريق الأواني المذهبة فوق المائدة التي غطتها "زهور" بأفخر ما لديها من المفارش المطرزة، بدا راضيا عن مداومته في اقتناص الأفكار لتجسيد الأحلام العابرة ، لقد صدق حدسه أن التغيير سر من أسرار الوجود يجعلنا في نشاط دائم ، قام بتشغيل إحدى أغنيات الراحلة أم كلثوم وهي من مجموعة أغاني دافئة أحتفظ بها لخرق صمت الليالي الباردة ليصنع البهجة ،استغرق مع كلمات الأغنية حتى راح يرددها بسعادة ويتجاوب مع ألحانها بإحساس مرهف ، فهي تحيله إلى حكاية حبه التي تحتويها الموسيقى الممزوجة بالغناء ، استحلى أكثر مواصلة التمعن في كل قطعة في المنزل، تأمل براعة زوجته في رسم اللوحات الناطقة بسحر البيئة وأصالتها ، لوحات تلمس منها حديث الرموز بلغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى حركية تلتقي فيها الأشكال بسحر الألوان فيترجمها كل ناظر إليها على طريقته ولكنه يرفض الاعتقاد بأن تكون زوجته من أولئك الذين يستعملون الألوان لتفريغ الهم الاجتماعي لقد تشكل ارتباط وجداني في نفسه مع كل قطعة في منزله لأنها تذكره بكل شهر انقضى من عمره وبكل واجهة كلفته وقفته أمامها آلاف الدنانير، تمدد أكثر على أريكته كأنه يتمتع متعة الملوك أو السلاطين وربما تخيل نعيم مكانة شاه بندر التجار، لكن متعته كانت من نوع آخر أكثر وأروع فهو ليس سعيدا بخيانته أن يشم رائحة الورود في بساتين الغير لأن متعته الحقيقية عندما يحس في أعماق نفسه بأنه قد أدى واجبه كاملا وأنه لا يوجد على وجه المعمورة من يدين له بقرض أو جميل، ثم تذكر من همسات العشاق أن أجمل ما في الحب الصراحة مهما كانت قاسية فهي التي تزين الذكريات ، كانت زهور لم تزل قابعة بمطبخها تترقب وصول ضيوف زوجها " المهمين" وتجتهد في وضع آخر اللمسات على الأطعمة المتنوعة ، حتى إذا جاءت لحظة الحقيقة وأحس إسماعيل بقرب الموعد أتاها صوته العالي على غير المعتاد يناديها بكل ما تعود أن يطلقه عليها من تسميات طريفة من باب التدليل أن تأتي وتحضر معها الأولاد كلهم،بدأ يتهيأ للموقف ويسترجع مفردات اللغة الأنيقة في مواجهة تحديات العولمة والواقع والذهنيات، تقدمت وسألته من وراء الباب في حياء عما يريد أطلق قهقهة عالية لا عهد لزوجته بها ، أعاد طلبه لها أن تدخل ولا تخجل .. فلا يوجد غريب في المنزل، تعجبت وتساءلت، وأين الضيوف..؟ كسر غموض الموقف وانتصب كالزعيم معلنا أنه هو.. الضيف، هرولت نحوه وخلفها أبنائها ، لقد رأته وسمعته يعلن تمرده على "اقتصاد الحرب" قبل إحالته على التقاعد، وأن نفسه اشتاقت إلى الجلوس مع أسرته على هذه الأفرشة الفخمة وأن يستعملوا تلك الأواني الغالية، تقبلت زهور نتيجة حيلته أمام سياستها فقد كان كريما عوض أن يكون لئيما وهي برغم كل شيء كانت دائما محل استحسانه خاصة في الظروف الطارئة وهذا يكفيها ، يكفيها أن يضحكا معا على ذكرى واحدة وحاضر مشترك.
لا يزال إسماعيل يفكر بجد في حيلة أخرى ليواصل من خلالها اختراق سياسة اقتصاد الحرب حيث تتربع عليها زهور في مملكتها الزوجية والتي لا يبدو أنها على استعداد للتخلي عنها، وهو لا يخشى فشل محاولاته القادمة لأنه راضي عن النتيجة ، والأهم أنه راضي عن حكمة ورشادة من اختارها شريكة عمره على درب حياته البسيطة والهادئة ..
0 comments:
إرسال تعليق