الشعراء / أوغيت خير الله ، وليد عبد الصمد ، مشلين مبارك ، مردوك الشامي ، جومانا السليبي ) الفنانين / ليليان الخوري ، أوغيت خير الله، غادة ، ريتا الرزق ، هدير بارود ، كارول فؤاد ، اماندا فرج ، ) نموذجا
أقصد بحوار الصورة الأنوية ، الحوار الذي يقيمه الشاعر أو الفنان مع المتلقي من خلال الصورة التي ترسمها أناه سواء أكات شعرية ام تشكيلية وحسب رؤية الفنان أو الشاعر الذي يقوم بأخذ أفكاره والمفردات التي يودّ تشكيلها من جديد من الواقع او المحيط الذي يعيشه ، ويرى أرسطو وآخرون أن ما يميز الشاعر عن الفنان في رسم الصورة هو أدواته ، فالرّسام يستعمل الريشة والألوان في تنفيذ مفردات اللوحة التشكيلية، في حين يستعمل الشاعر المفردات ويصوغها في قالب فنّي مؤثّر وفق نهجه ورؤيته الخاصة وعبر تكنيك لغوي ... كلاهما يتركان أثرهما في المتلقي سواء أكان مستخدما المفردات والايقاع أو عناصر فن الرسم .
ويذهب الناقد حكمت مهدي عباس[1] في قوله ( يختلف الرسام عن الشاعر في عملية التنفيذ فالشاعر يضع علامات لغوية وعبارت أما الرسام فأنه يترك أثرا في التخطيط بقلم الرصاص أو بضع بقع من اللون بالفرشاة مراعيا موضوع الظل والضوء وموزانة الأشكال وتوزيعها ومعالجة الفراغات لخلق (الصورة) الفنية .
ربما يكونان النص الشعري واللوحة الفنية ( الرسم) من أقرب الفنون للتزاوج فيما بينهما رغم أختلافهما في لغة التعبير بين لفظية في الشعر وبصرية في الرسم ، لما بينهما من شجون ورؤى وتقاطعات ، كل منهما ( الفنان / الشاعر ) ينسج رؤيته وتجربته، الاول يستخدم لغة الالوان والخطوط والدوائر والثاني لغة الكلمات التي ينسج منها صوراً فنية وجملاً من ذوات موسيقى رقيقة تجعل الذات تطرب وتنصهر في بودقتها... فتتشابك وتتداخل هموم الشاعر والفنان لتكشف لناعلائق جديدة تعيد على ضوئها ترتيب الأشياء ثانية .
فالعلاقة الفنية والشكلية بين الشعر الرسم لم تكن علاقة معاصرة فمنذ عهد الاغريقي سيمونيدس ( ت 465 ق. م ) حددت هذه العلاقة حين عرف الشعر بـ ( رسم ناطق) والرسم بـ ( شعر صامت )[2]. ووصلت هذه العلاقة أوجّها في زمن الطباعة الحديثة فالقصيدة المعاصرة ، حققت تقارباً أكبر بين الشعر والرسم ، من خلال اعتمادها بنائياً وتداولياً، وتحليلياً وجمالياً على حاسة البصر فالاعتماد على التصوير والتشخيص والتشكيل ظاهرة مشتركة بين الشعر والرسم ، مما دفع كل طرف لأستخدام الثاني في أعماله ، حيث استثمرت الشعرية المعاصرة اللوحات الفنية في صفحة الغلاف ، وفي الصفحات الداخلية كي ينهض الشكل المرئي للقصيدة من خلال تأويل الصورة المجسمة لتقوم بدور حيوي وأساسي في تشخيص المعنى وتجسيده، وتجسيمه، ورفد الدلالة واستنفارها لتجسيد القصيدة لتسهيل مهمة القارئ في فهم وتذوق القصيدة لذا بات حضور الصورة التشكيلية أو الفوتوغرافية ، الملاصقة للنص الشعري ضرورة ملحة، مقابل ذلك يلجأ بعض الرسامين لتضمين لوحاتهم ببيت أو مقطع شعري ... حيث يفترض في الأيقونة ( الشعرية / الفنية ) أن تتكامل في سياقها فيتداخل فن الشعر وفن التشكيل ، جمالياً ودلالياً ، وفق رؤية مخطّطة وهادفة ، لعلاقة تناصية بين اللوحة والنص الشعري . وتصبح للدلالة رافدان، رافد اللغة ، ورافد الصورة ، حيث تتكامل الدلالة اللغوية والأيقونية الفنية . فيصبح الشعر رسماً بالكلمات والرسم قصائد باللون والأشكال .
لذا يمكن تعريف النص الادبي أو اللوحة الفنية ( الرسم) ، بأعتبارهما مخرجات لإحساس ومشاعر وفكر مبدعين يشتركون في رؤيتهم لقضايا إنسانية أو اجتماعية ، يتدفق من خلال شريان ما يخزنه الاديب / الرسام من هموم وتطلعات رؤوية نحو المستقبل ، ويرسل عبر كلماته / خطوطه وألوانه حركة جريان ما تنتجه مخيلته من تعابير وصور موحية يعلو وينخفض الإيقاع معها بحسب حجم العواطف ومحاكاته للحاضر والمستقبل فتنصهر الفكرة والخيال والكلمة / اللون محدثة أشبه ما يكون بدوائر تحدثها الحجرة التي تلامس سطح الماء لتكبر وتنتشر أفقيا وهي متجهة الى شاطئ الأمان أو لنقل حركة الدوائر الصوتية الناتجة من تزاوج السمفونية التي تترافد فيها آلات كثيرة عبر الفضاء لتقتحم طبلة الأذن وتخترقها باتجاه الذات فتارة تكون محملة بالآهات والشجون وفي الأخرى تكون مفعمة بالفرح .
كل منهما ( الشاعر / الرسام ) يسبحان في عالم ما بين الخيال ، يستمد قوته من الشعور بالحب او الحزن ومن هموم الواقع فيرسمان لناعالما جديدا ، كلاهما يتعانقان بلغة تصويرية تنبثق من صميم القلب لغة ترنو وراء الحلم في الدروب المعتمة من اجل ان يطلق شعلة الحرية .
ذلك هو حال العديد من الأدباء والفنانين اللبنانيين أسوة بزملائهم المنتشرين في أرجاء المعمورة فهم يحاورون أناهم التي تأن لحلمهم المفقود وحيث يترشح منه في الكثير من الأحيان كلمات جريحة وموسيقى مضطربة أو تبتهج لحلمهم المتحقق والذي يشدو بموسيقى هادئة جميلة . في كلا الحالتين يتمخض منها ( نصاً أدبياً / لوحة فنية ) معبراً عن أناهم والتي هي بحد ذاتها أنا لكل منا...
من خلال حضورنا لكثير من الأماسي الشعرية المقامة من قبل العديد من المنتديات الأدبية المنتشرة في بيروت أو مشاهدتنا لبعض المعارض التشكيلية المقامة هنا وهناك ( الجامعة اللبنانية الدولية – شارع سليم سلامة ، بلدية ذوق مكايل – السوق العتيق ، اللوحات التي ترسم في الأماسي ...) فلو وضعنا الشعر في سياقه الشعري واللوحة في سياقها الفني التشكيلي مع إبراز الدلالات الجمالية والبحث عن الأنساق المركبة لكل منهما. نستطيع ان نلخص تجاربهما من خلال توجه الكثير من الفنانين التشكيليين والأدباء للتعبير عن أناهم ان كانت في حالة انجذاب مع انا الاخر او تنافر .
فالقصيدة تفتح لنا فضاءً رحبا بالمفردات التي تنبثق منها الصورة الشعرية ، تلك اللوحة التي تهزنا بكلماتها ومضمونها وموسيقاها ...
وهكذا الحال لدى الرسامين نجد غالبيتهم يتوجهون نحو أستنطاق الطبيعة للفت أنتباهنا لما تتمتع الطبيعة بالجمال والهدوء بعيدا عن الصراع والفوضى وآخرون تراهم كما لدى اقرانهم من الشعراء يعبرون عن استياءهم من أنا الآخر ....
فالفنان يتعامل مع الالوان وما لها من طاقة وزخم وشحنات وايقاع يسكب فيها رؤاه التي يبوح بها للبحر والسماء والطبيعة والانسان كي يمجد الجمال وينقل رؤيته الى المتأمل بالصورة وكذلك الشاعر ولكن من خلال كلماته وموسيقاه .
كلاهما يرسمان لنا صورة معبرة عن الانا المكتضة والمثقلة باحاسيس تضطرب من أجل الأنفلات من سجنها لتكون حرة فتتجسد على شكل صورة تطبع على لوحة بيضاء كما نلاحظ في لوحة الفنانة التشكيلية ( ليليان خوري ) بألوانها الداكنة التي تتلمس منها الآضطراب التي تجعل الكلمة / الريشة فلقة وهي تحاول بقوة وأصرار للأنفلات من أناها ( أسرها ) والتحرر الى عالم رحب.
وقد تكون هذه الصورة سمعية غير ملموسة حين تكون شعرا كونها تستخدم في أدواتها الفكر واللغة وفي فضائها الخيال ، وربما تحوي القصيدة على سيل من الصور فينتقل الشاعر من لوحة إلى لوحة أخرى في تناسق وسبك وحبك يزيد الشكل جمالاً.
وتكون مرئية ملموسة حين تكون لوحة تشكيلية كالتي شاهدناها وسنشاهدها لاحقا كونها تستخدم في ادواتها موادا ملموسة كالورق او القماش او الخشب واللون فتبدو اللوحة كنصّ صامت حاملة لمعاني عميقة وتأويلات لانهائية تدغدغ مشاعر المتلقي وهو يحاول إدراك الوعي الجمالي والفني من خلال قراءة ألوان وتقاطعات الخطوط لإدراك معانيها ومضامينها التي هي جوهر الرؤية الفنية.
لذا فقراءة العمل الأدبي أو الفني يتطلب معرفة خصائص ومعايير لغة الشعر أو الفنّ... هذا يعني أن قراءة اللوحة كقراءة القصيدة تقتضي المعرفة والعقل والعاطفة والإحساس.
وخير دليل على ذلك التزاوج ما تقوم به الشاعرة والفنانة اوغيت خيرالله فعندما تتزاوج القصيدة واللوحة لديها تعزز الصورة الفنية والتعبير اللفظي كل منها الآخر ...هذا التزاوج محكوم بما يسمى بالتناص ، بين ماهو فني وما هو شعري ، أي تبادل نصي بين (القصيدة / اللوحة ) وتتصف بتأثر كبير بين الاثنين ، فتخلق عند ذاك تناص نوعي وكمي بينهما .
وسنحاول في دراستنا لبعض من قصائدها ولوحاتها ان نجسد منجزها التشكيلي لمجموعة من قصائدها المختارة والتي جسدتها رؤيتها في لوحات تشكيلية .
ففي قصيدتها (ربيعُ عُمْري ) ترسم لنا الشاعرة في نصها الشعري تدفق خلجات أناها وهي تعانق انا الآخر لترسم لنا صورة يفوح منها رائحة الخصب والربيع كما تقول :
خُطُواتي ...
حَدائِقٌ تُراقِصُ نَبضي
أنا لَنْ أكونَ وَحيدَةً
أنْتَ مَعي ...
رَبيعُ أنْغامي
نَسيمُ ... أنْفاسي
.....
انا أخْضَرّ ...
حينَ أرى ابْتِسامَةَ ثَغْرِك
يَعْجَزُ ... على الزَهْرِ
احْتِباسَ الفَوْحِ
وهذا ما تعكسه لوحتها التشكيلية ايضا بألوانها الخفيفة ( الأزرق والوردي والاخضر ولمسة بسيطة بالابيض ) كلها ترمز الى التفاءل والهدوء والأنسجام بين أناها والآخر لذا جاءت حواراتها في أغلب قصائدها ولوحاتها منسجمة ومتفائلة .... فأستخدامها للون الأحمر الخفيف (الوردي) تريد به أن تعكس من خلاله عاطفتها الجياشة للقاء الآخر لتقول لا تزال أناي والاخر في انسجام واستخدامها للون الأزرق دلالة على ثقتها بنفسها وعلاقتها بالاخر وثقتها بالنجاح وهذا يتطلب منها استخدامها للون الأخضر لتدلنا على النمو والتجديد ولكون معالم اللوحة يشوبها الهدوء والصفاء جعلت أوراق أزهارها تتلون بالأبيض لتعكس لنا نقاء العلاقة وصفاءها كل هذا ينسجم مع مفرداتها ( الرقص ، النبض ، الربيع ، الانغام ، الازهار ، الاشواق، ...)
في هذه التجربة وغيرها من التجارب سنجد تقاربا بين خطابها التشكيلي المجسد لما تمنحه القصيدة من رؤى وتصورات ...
وفي قصيدتها "( رقصة حروف ) تتحلق فضاء الخيال والحنين لتجعل البعيد قريب . لذا تراها ترَقص لغد جميل تلتقي فيه الحبيب فترى قاموسها اللغوي يكتض بالمفردات التي تفوح منها رؤية الجمال ( اراقص ، أحتضن ، الحنين ، موسيقى حركة الخصر والخلخال ، صدى همساتك ...) وكما تتحاور في نصها هذا :
أراقِصُ
وَجَعَ غِيابِكَ
دونَ حِبْرِ الغَرامِ
أحْتَضِنُ .... الهَواءَ
أدورُ
حَوْلَ نَفْسي
وَتَدورُ بي الأرْضُ
كل هذا جاء منسجما مع الوانها (الاحمر الذي يدل على قوتها وعاطفتها الجياشة تجاه حبيبها ، واللون البني الخفيف والغامق يدلنا على متانة الحب الذي رصعته بالابيض لتقول لنا لا زالت علاقتها بالاخر علاقة براءة ونقاء.
الفنانة اوغيت جسدت قصيدتها بصورة ذات ملامح شرقية ، كصورة الراقصة برقصتها وفستانها وحركة يداها واللون الحمر القاتم .. مثلما استخدامها لعبارة موسيقى حركة الخصر والخلخال وطريقة الرقص و..التي تتصف بها الرافصة الشرقية ... مما جعلت قصيدتها و لوحتها في تناص ...
قصائدها ترسم لنا لوحات لغوية،أساسها الصوت الذي يتجسد لنا مما فيه من سحر البيان، وفرط الجمال إلى لوحات شعرية تتسم بكل سمات الجمال الفني الذي يرسمه لنا خيالها ان كان شعرا أو لوحة رسم ، كل منهما يجعل المتلقي حين يقرأ أو يسمع أو يرى، ينبهر ويندهش لهذا الجمال الطافح الذي تفرزه أصوات اللغة أو ألوانها...كل هذا يعتبر عاملا من عوامل نجاح العملية الإبداعية لديها .
في لوحتيها اعلاه قدمت الفنانة ليس رؤيتها لقراة القصيدة فحسب ، وانما قوة قلمها التخطيطي في انجاز لوحة تشكيلية معبرة مستخدمة فيها عدد من الوان ، التي تحمل مضامين شعرها لتكون لوحتها تجسيداً للقصيدة التي تناصت معها لما في اللوحة والقصيدة من فكر خلاق ، وكنوز تخيلية .
وهكذا في بقية قصائدها ( عطر الورد ، صمتك ، غرام بين السطور ، دموع الحلم ، البحر، عباءة الليلل ، أغنية الجداول ، من أين تأتي الكلمات ،....) نجد أن عناوينها كلها توحي على الأنسجام والتفاءل ...
القصيدة المعاصر بدأت تعبر عن جانب من شعريتها ودلالتها من خلال الفراغ الذي تتركه في السطر الواحد معبرا عنه بنقاط (... ) كي تجسد للمعنى الذي يريد الشاعر أن يقوله ولم يقله ، وهذا ما نلاحظه لدى الكثير من الشعراء الذين يريدون من بياض الصفحة كي تكون تشكيلاً للإيحاءات البصرية والمعاني الإشارية.. معززين بذلك أهمية الشكل البصري في الشعر المعاصر.
فلو ألقينا نظرة سريعة على الحوارات التي يقيمها الشاعر وليد عبد الصمد في نصوصه (فنجان قهوتي ، لم تعد كبيرا يا وطني ، ليس بعدك حبيبة ، اوراقي المتناثرة ، وطن الزعماء هذا انا ، ) لوجدنا حواراته هي ردة فعل لانعكاسات الواقع المرير الذي يعيشه وهو يرى وطته يتلاشى بفعل زعماءه وكما يقول في قصيدته ( لم تعد كبيرا يا وطني ) :
لا لَمْ تَعُدْ كَبيراً يا وَطَني,
فَالوَطَنُ
أَرْضٌ .. وشَعْبٌ .. وإنْتِمَاءٌ ..
وأَنْتَ
أَرْضُكَ دُنِّسَتْ,
وشَعْبُكَ مُسْتَعْبَدٌ,
والإنْتِماءُ بَقِيَ مِنْها الكَلِمَةُ.
إسْتَفِقْ قَبْلَ أَنْ تُسْرَقَ أَحْلامُنا.
تأتي خصوصية هذا النموذح الشعري بما يكتنزه من مفردات قليلة يفصلها بياضات (...) وهي تتخلق من ذاتها صورا بسيطة مألوفة لدى القارئ يكون فيها الدال والمدلول في حركة بؤرية متوترة ودائمة ضمن العلاقات المرمزة والتي تمكننا من الولوج في النص مثلما هي الصور الحديثة وكما سنجد في لوحات الفنانة غادة ... والتي هي على شكل أشكال لخيوط رفيعة تعكس معانيها من خلال ألوانها .
وهكذا في قصيدته (وطن الزعماء هذا انا):
مُواطِنٌ .. ..
يَتَسَوَّلُ رَغيفَ خُبْزٍ
مِنْ فُتاتِ جُبْنَةٍ تَقاسَمَها حُكّامي
في مَجْلِسِ إدارَةِ الوُزَرَاءِ والنُّوَابِ,
وأَرْكُضُ لِتَجْديدِ البَيْعَةِ والوَلاءِ والخُنوعِ
عِنْدَ كُلِّ تَظَاهُرَةٍ وإنْتِخَابٍ.
إنْسانٌ ..
يَبْحَثُ عَنْ هُوِّيَتِهِ
في مُجْتَمَعٍ قائِمٍ على
التَزَلُّفِ والتَمْييزِ والكَذِبِ والدَّعَارَةِ.
فالصورة التي ر يرسمها للمواطن والوطن تشبه الصورة التي ترسمها الفنانة (الرسامةغادة...) بحواراتها وحيث تجد شخوصها يكتنفها الغموض في مستقبلها فتحولت الى أشباح لذا تراها تشدد كثيرا على اللون الاسود القاتم بتلوين شخوصها او فضاء الصورة كونه يرمز إلى التعاسة، والحزن، فهو لون سلبي يدل على الفناء. واستخدمت معه اللون البني المائل الى الاصفر للدلالة على رغبة الانسان في البقاء والمقاومة والاصرار رغم قوة الاخر الذي جعل المواطن في حالة غضب من امره فأرادت بهذا المزج ( البني بالاصفر) لتحفيز مشاعر الوحدة والحزن لدى المنلقي .
كل هذا ينسجم مع حوارات ورؤية الشاعر وليد عبد الصمد في قصيدته فنجان قهوتي
الذي يستخدم جمل كـ :
أرْمُقُهُ بِنَظْرَةٍ غاضِبَةٍ ..
ألاطِفُهُ بِرْقَّةٍ وتِحْنانٍ
أَنْهَلُ مِنْهُ عَسَلَ أَحْزاني ..
يُنْسيني تَعَبَ أيّامي.
مَعَهُ أَبْدَأُ نَهاري .. وبِرِفْقَتِهِ أُوَدِّعُ اللَيالي
و في قصيدنه (لَمْ تَعُدْ كَبيراً يا وَطَني )
لَمْ نُبْقِ مِنْكَ شَيْئاً إلا الأسْمَ
كَبُرْنا بِالزُّعَماءِ وصَغَّرْنَاكَ
ضَخَّمْنا ثَرواتِ مُسْتَغلّينا وأَفْقَرْنَاكَ
أَكْثَرْنا مِنَ الغُرَباءِ بَيْنَنا وقَلَّلْنَاكَ
هَمَّشْنا عُلَماءَنا فَهاجَرْنَاكَ
وثمة تناغم بين مشاعر ( الفنانة / الشاعر ) ومعالجتهم للأمور حيث يستخدمان في تجربتهما الشعرية / الفنية من خلال التشكيل بالالفاظ او الالوان ، بنية يختلط فيها العنصر المعرفي بالقيمة الجمالية .
وهكذا في لوحتها الثانية ، ففضلا عن استخدامها اللون الاسود الطاغي أستخدمت ( اللون الاحمر الذي يرتبط في بعض الأحيان بالمأساة والقوة والعنف والإثارة ) ومعه اللون الازرق الذي أرادت يه الترميز الى مشاعر البرود والعزلة والحزن لدى الانسان فضلا عن الابيض الذي يرمز الى الصفاء، والهدوء، والأمل .
وهذا ما توحي به صور الشاعر وليد عبد الصمد في قصيدته (أَوْراقِيَ المُتَناثِرَةُ ) :
كَلِماتٍ مَجْنونَةً تَكْتُبُ ذاتَها
كَما تَرْسُمُ الأيّامُ خُيوطاً سَوْداءَ
على اصْفِرارِ أَوْراقِ تِشْرينْ ....
فلو تأملنا ما مطروح لوجدنا بين الشعر والتشكيل خصائص مشتركة للغتين مختلفتين.. ما يعني أن كلاًّ من الشعر والتشكيل قادر على فهم الآخر أكثر من غيره من الفنون.
فكما هي الكلمات لدى الشاعر من أهمية عظمى هكذا هو اللون بالنسبة للفنانة في إضفاء روحها وما تكنه نفسها لإعطاء المضمون الفني الرائع في اللوحة، لما للون من قيمة رمزية معبرة عند الفنان في أعماله الفنية ، فالذوق الادبي أو الفني يستدل يما يشيعه النص / اللوحة من دلالات وصور وايحاءات.
كلاهما يستخدمان مفردات / خطوط تتقمطان برموز تهز الوجدان بإنسيابية تمليها المشاعر والأحاسيس والإنفعالات، متشابكة في لوحة تعبيرية واضحة المعالم رغم كثافة ظلالها فتتحرك هواجسهما بالنيابة عن الرعب المتأصل في ذات كل منا والمصابة بخوف مستديم طفوليا من أن تبلع السمكة الكبيرة الصفيرة منها ..هذه الرؤية تمكننا من الولوج إلى الباطن لتتحرك هذه الهواجس مشكلة القسم الغنائي في القصيدة أو اللوحة وبأشكال مثيرة تتراءى بقدر التخيلات المتحفزة في أعماق الذات كما هي رؤى الأحلام والكوابيس والمرئيات التي يتحسسها المعني بحالته .
إن بنية الاستعارة القائمة على التشخيص وبث الحياة والحركة في الكلمات / الخطوط والألوان ، تسهم في نقل هذه الأشياء من طابعها المجرد الى المحسوس بعد إضفاء الصفات الإنسانية عليها لتجعلها تولد دلالاتها الموحية ,..
يمثل الشعر والرسم تصاهر وامتزاج الرؤية والفكر وترتبط مع بعضهما بالإحساس رغم اختلاف اللغة التعبيرية بينهما وتخرج في نهاية المطاف بصورة ذهنية واحدة لدی المتلقی وترتقي بالذائقة الفنية والجمالية لديه عن طريق الأذن شعراً والعين رسماً، لتكشف للذائقة لوحة فنية في قالب شعري أو قصيدة شعرية في قالب فني تشكيلي..
فالشاعرة مشلين مبارك من خلال قصائدها ( موسم القطاف ، حبك ، كيف تخلق القصيدة، ناداني البكاء ، ... ) تحاور أناها من خلال صورها البسيطة الموحية الى مدى تفاعل أناها مع أنا الآخر لذا تراها حين تنزوي في مكان هادئ لتتأمل الاخر ، تنساب كلماتها رقيقة من تحت وطأة مخيلتها لترسم لنا صورة الآخر وكما تقول في قصيدتها ( كيف تخلق القصيدة ):
يتنافس الفكر مع القلب
في سرعة الخفقات وفيض البوح
فتتناثر كل الأسماء والأفعال
تتراكم الجمل
تختلف المقاطع
يتسابق الكل مع الكل
وتعم الفوضى
عندها أترك كلماتي تمارس الحب
من جديد
بهدوء وخفر
الشاعرة وكما الفنانة ريتا رزق كلاهما يبحثان عن خلوة الاولى تكتب القصيدة والثانية ترسم اللوحة ، الاولى تستخدم مفردات خفقات القلب ، فيض البوح ، الحب ، الهدوء ... ) والثانية تستخدم الالوان التي توحي لذلك كاللون الاخضر الذي يوحي الى الولادة والتجدد والابيض الذي يرمز الى النقاوة .... فرسمت لنا لوحة تشكلية تفوح بعطر الشوق للاخر الذي تتخيله وهو في عناق مستمر فعبرت عنه بالالوان .
ومن أهم خصائص التعبير الشعري أنه تعبير بالصورة، ويتميز بدقة تحديده للتجارب ومفرداتها، فالقصيدة الجيدة بدورها صورة، والصورة هي التي تكسب الشعر قدرته على التأثير والتجاوز .
الشاعرة مشلين مبارك لا يوجد ما يقلقها مع الآخر فأناها منسجمة مع الآخر لذا تراها تقول في قصيدتها ( موسم القطاف ) :
يحدثني اليراع عن حبك
تخبرني ريح الخريف حكايات وقصصا
ترنم أغصان الشجر
صلوات الفجر
تبشر قطرات المطر بولادة جديدة
وهي تختلط بصوت الناقوس وصوت قطرات المطر وهي ترتطم الارض .... صورة تنقلك الى حنين القرية مثلما تحن هي الى لقاء الحبيب ...هذه الصورة تشبه الصورة التي رسمتهاالفنانة هدير بارود، والتي تنقلك من خلالها الى الريف بحياتها الجميلة لذا تجدها أستخدمت الالوان (الاحمر كي تعبّر عن حاجتها للدفء والحب، فمزجته باللون البني لتعبر عن شعورها بالقوة والأصرار ) لتقول لنا هي الأخرى الريف يعطي للانسان الهدوء والجمال والقوة والتجدد ... فلو أمعنا النظر في الصورتين لوجدنا هناك تناص بين لوحة الفنانة مع موضوع هذه القصيدة .
رغم ان الحركة والموسيقى في القصيدة هي أكثر مرئية ومسموعة لما في الصورة . الا انهما كلاهما يؤكدان في القرية هناك الكثير مما يدفعان الانسان ليحب بصدق واخلاص. وهكذافي قصيدتها ( حبك ) والتي تقول فيها :
حبك دهشة
يسافر فيه جنوني
أقف على رصيف الذكريات
أحتسي وجع الانتظار
ألملم دموع لقاءاتنا
أتجاهل نظرات مطارحنا
حين تسألني عنك
عن حبك الذي يعانق كل حواسي
يشعل وجداني
الصورة التي رسمتها الشاعرة مشلين تشبه لوحة الفنانة التشكيلية أماندا فرج ، فالاولى تستخدم المفردات ( جنوني ، رصيف
الذكريات، وجع الأنتظار ، دموع اللقاءات (الفرح) ، ... ) والثانية تشدد على اللون البني الغامق الذي يرمز الى المتانة والتحدي لقهر الظروف من أجل تحقيق الهدف ، فضلا عن مزاوجته بالاخضر للدلالة على التجدد ، واللون الازرق الذي يتراءى خلف الغابة لترمز به الى الثقة بالأمان والإستقرار والنجاح في نهاية المطاف ... كلاهما يرسمان لنا صورة المغامرة والبحث عن أنا الآخر ...
الذكريات، وجع الأنتظار ، دموع اللقاءات (الفرح) ، ... ) والثانية تشدد على اللون البني الغامق الذي يرمز الى المتانة والتحدي لقهر الظروف من أجل تحقيق الهدف ، فضلا عن مزاوجته بالاخضر للدلالة على التجدد ، واللون الازرق الذي يتراءى خلف الغابة لترمز به الى الثقة بالأمان والإستقرار والنجاح في نهاية المطاف ... كلاهما يرسمان لنا صورة المغامرة والبحث عن أنا الآخر ...
كما أن المحسنات الشعرية والعلاقات بين الكلمات والجمل الشعرية تقابلها علاقات فنية وجمالية ولونية في الرسم فهي جميعها مخرجات لإحاسيس اتفقت في الإبداع واختلفت في لغة التعبير بدلالتها الحقيقية البعيدة عن المجاز لدى الكثير من الشعراء والفنانين اللذين نحن بصددهم .
فالشاعر مردوك الشامي ( السوري الاصل ) يستخدم دائما العديد من الصور الشعرية التي تمتاز بالوضوح والبعيدة عن المجازات اللغوية ، كما الحال لدى أغلب الشعراء في لبنان . صور يسعى الشاعر من خلالها في تشكيل عمارة نصية من خلال تثمير الصور الشعرية من طبقة الى اخرى تتلاصق حتى تغدو عمارة شعرية متماسكة . مستفيدا من التقنيات الحديثة كفن المونتاج والسرد و...
ان الخاصية التصويرية في الشعر لديه تجعله قريبا من فن الرسم، ومشابها له في التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي، وان اختلف عنه في المادة التي يصاغ بها ويصور بواسطتها فهو لا يستخدم الفرشة والألوان بل المفردات والأيقاع و..
ففي قصيدته مقاطع من أسئلة ساذجة والتي تتكون من مجموعة صور على شكل قصائد قصيرة كل منها ترسم لنا لوحة فنية متكاملة والتي جاءت كنتيجة لارهاصات الشاعر وهذه الصور تربطها مع بعضها البعض خيط فكري كقوله :
هو عمرٌ واحدٌ
وأرضٌ واحدةٌ
وشمسٌ ستنطفىءُ ذاتَ يوم
فكيفَ ينامُ إنسانٌ جائعاً
وكلُّ هذهِ السنابل
من يتأمل هذا المشهد الفلسفي سيوحي له الرغبة في العيش بمحبة وسعادة دون الألتفات الى الوراء طالما الحياة زائلة ، كما ان الشاعر حرص في رسمه للصورة الشعرية بدلا من استقصاء تفاصيل المشهد بشكل سردي ، وجعل الصورة هي التي تنطق ...
هذه القصيدة تشبه اللوحة الفنية للفنانة التشكيلية كارول فؤاد بشارة ، ففي لوحاتها نتلمس ايضا رؤية الفنانة ضرورة التمتع بالحياة كما في صورتها أعلاه لذا أعطت لعصفورتها الحرية كي تطير لترقص هي الاخرى فرحا.
فمثلما هي مفردات الشاعر مردوك الشامي ( الأسماء / ارض ، شمس ، سنابل تقابلها أفعال / ستنطفئ ، ينام ، ترتفع بشموخ ) .
فحين نزاوج بينها ستتجلى لنا رؤية الشاعر المستقبلية والدليل على ذلك السنابل الشامخة. وهكذا الحال هي الألوان المستخدمة في لوحة الفنانة كارول ( فالازرق / توحي به الى الإستقرار والنجاح والهدوء أما البني يوحي هو الآخر الى قوة الأصرار مع مزيج من الاصفر لتؤكد لنا تفاؤلها والدفء التي تعطيها الشمس لنا ، فضلا عن الأخضر للدلالة على التجدد .
ويتجلى التركيز أو التكثيف في صوره على قدرة الصورة في استيعاب طاقة من الدلالات والعواطف القابلة للاتساع والعطاء الغزير وإنشاء الترابط الموضوعي بين عناصر الصورة (القصيدة القصيرة ) للحصول على الوحدات الذاتية التي تربط بين الشاعر وعالمه أوثق الارتباط .
وهكذا في الصورة الشعرية الثانية ( القصيدةالقصيرة ) من النص نفسه:
أيّـتها الصباحات المنتظرةُ
على شرفةِ الليلِ
أنا الشاعرُ الضئيلُ
آمُركِ بالنزولِ إلى الساحات.
من قصيدته هذه نتأمل رغبة الشاعر بالولادة والتجدد من خلال الأنتفاضة رغم الضعف... علينا أن نواجه القدر ( الليل) فها هو الصبح قادم .... انها لوحة فنية توحي لنا بالشروق وحيث الهدوء يلف المدينة كون أهلها لا يزالوا في سباتهم العميق .. لذا يدعوهم للنهوض والأنتفاضة ...
هذه اللوحة تشبه اللوحة التي رسمتها الفنانة كارول وحيث الشمس فجرت بيضتها بقوة لتشرق ولا يزال الجميع نائمين والقارب ينتظرهم ...
فألوانها ( الأبيض ، البرتقالي ، الأخضر الممزوج بالبني، الاشعة الصفراء .. جميعها توحي للنهوض من أجل أستفبال ولادة جديدة وشروق شمس جديدة ...ويدل هذا التكثيف على قدرة الفنانة على انتقاء عناصر الصورة وموضوعها انتقاءً موفقا وتشكيلها تشكيلا موحيا.
في القصيدة لجأ الشاعر مردوك الى رسم صوره بلغة شعرية من خلال رصف مفرداته عبر أيقاع موسيقى لينسج لنا صورة متخيلة يستقيها من الواقع تقوم على الأستعارة والوحدة العضوية والنسيج والشكل فضلا عن مهارة الشاعر كفنان في رسم صوره .
وفي اللوحة شرعت الفنانة كارول بوضع (العلامات والألوان) على سطح اللوحة لترسم لنا الصورة . الا انهاأختلفت عن الشاعر مردوك في عملية التنفيذ.
فالشاعر وضع على ورقته علامات لغوية وعبارت أما هي فتركت أثرها في التخطيط بقلم الرصاص أو بضع بقع لون بالفرشاة على الورقة أو القماشة أو الخشبة أو أي
سطح آخر .. مع مراعاتها لموضوع الظل والضوء وموزانة الأشكال وتوزيعها
ومعالجة الفراغات لخلق (الصورة) الفنية ...
وهكذا في قصيدته ( لست وحيدا ) الذي يقول فيها :
أيها الناس
عندما تقضمونَ تفاحةً
تنزفُ الشجرة
عندما تلبسون الصوفَ
يعرى خروفٌ طيّبُ القلب
عندما تحثـّـون الخطى إلى قصوركم
تتركونَ الشمسَ مرميةٍ على الطرقات !..
القصيدة عبارة عن مجموعة صور شعرية تبدو متنافرة ولكنها جميعها معلقة بخيط رفيع ما يجمعها هو تصرفاتنا تجاه الآخر فرؤية الشاعر تشبه رؤية الفنانة كارول في لوحتها هذه والتي أستخدمت فيها الألوان الغامقة والمائلة الى السواد ، فبسبب قساوة الطبيعة جعلت الشجرة عارية والشمس في طريقها الى الغروب مثلما هي مرمية عند الشاعر....
كلاهما ( الشاعر والفنانة ) يريدان أن يستبدلا الصراع الذي يدور بين الأنسان وأناه أو بين أناه والآخر بصور مشرقة تدعوا الأنسان للآنتفاضة على واقعه المرير وحيث الشمس تنتظره في نهاية الطريق...
فلعب المونولوج دوراً هاماً في صوره الشعرية البانورامية للتعرف على مدوناته الشعرية الجميلة في ملفوظات مشحونة بالدلالة الشعائرية والمشاكسة الحسيّة معتمداً فيها على الملامح الشخصية وأفكاره ومشاعره الداخلية لتحديد الشكل الذي جاء على هيئة خط عام أو سيناريو يشمل القصيدة كلها بسردها المباشر.
فاذا كان الشعر والفن كلاهما يشتركان بوظيفة اجتماعية يغرفان موادهما من الواقع ليحولهما الخيال الى اللوحة الشعرية أو التشكيلية المستخدمة لدى الشاعر / الفنان ليعبر من خلالها عن نشاط إنساني فنّي يفتح مجالاً واسعاً فيما تتضمنه الصورة من محتوى معرفي وخبرة جمالية ولا بد أن تكون تربية الخيال التي يشترك فيها الشعر والفنون التشكيلية هو الآخر ضرورة حيوية فالفنان أسوة بالشاعر يجنح إلى الخيال والحرية بعيداً عن قيود الواقع للتعبير عن الانفعالات الإنسانية... لأن تربية الخيال كمايرى المفكر Gérard Guillot هي إثراء وتخصيب القدرة على المعرفة .
ففي القصائد القصيرة التي ضمتها قصيدة الشاعرة جومانة السبليني ( لقاء) نرى الشاعرة تستخدم عدة لوحات جزئية بمجموعها تتكون لوحتها الكبيرة والجميلة لتوحي لنا كل ما موجود من حولنا يدعونا الى التفائل ، فلما لا نتفاءل ونتصالح مع ذواتنا اولا ومن ثم مع الآخر ..ان كان لا يزال هناك ما يدعونا الى التفائل ؟؟؟ وهذا ما تجسده لنا قصيدتها :
ضَوءٌ خافِتٌ
شِعرٌ، موسيقى، وعُيونٌ حالِمَةٌ،
ونبضُهُ الجَميل ...
رائحةُ عِطرِهِ ، رِقَّةُ كلماتِه ،
حنانُهُ ، نوارِسُ روحِهِ ،
إشاراتٌ جعَلَتِ المكان يَغُصُّ بي ...
اساس البناء عند الشاعرة جومانة ليس الدعامة ولا الايقاع الموسيقي بل مجموعة صور شعرية جزئية متعاقبة ومتداخلة تقوم الشاعرة بنسج قصيدتها من هذه الصور بشكل يقترب الى الزخرفة .
انها لوحة جميلة تشبه لوحة الفنانة هدير بارود التي تنقلنا هي الاخرى الى عالم جميل ... فالأولى (الشاعرة) تستخدم المفردات (الضوء الخافت ، موسيقى ، عيون حالمة ، نبضة الحبيب ، رائحة عطرة ، كلمات رقيقة ، نوارس ) هذه جميعها توحي لنا الى عالم جميل يفوح منه رائحة الحب والخصوبة والثانية (الفنانة ) هي الاخرى تستخدم الألوان الجميلة (الاخضر ، الوردي ، البني ) وهي تجسد الطبيعة في أوج ربيعها بأزهارها وأشجارها الخضراء وبلمسة هادئة لتقول لنا هي الاخرى كل شئ يوحي الى اللقاء والولادة والتجدد ....
الا أنها في قصيدتها (وكان أجمل لقاء ...) غيرت نظرتها الى الحياة لتقول فيها :
هَل ما عُدتُ أعنيه؟
كأنَّ حُدودَهُ تخَطَّت حُدودي ؟
وكأنَّ الأرضَ زادت دورانها
وتركَتني للمغيب؟
في كأسٍ مكسور القافية
لا الشَّمس شمسي
ولا القمر قمَري
وكأنَّ الرّيحَ
قد صَمَّت آذانها
فلا رَجعَ صدىً ولا
مِن مُجيب؟
هذه القصيدة تقف على عكس الاولى فان كانت في الأولى تقول ان الحياة مشرقة ومبتسمة في وجهي الا انها في الثانية تريد أن تقول يبدو ان ذلك كان وهما ، كان ظل سحابة عبرت مسرعة من غير ان تروي ظمأي .. فالحياة أخطأت بحقها ولم تنصفنها.
وهي تشبه اللوحة هذه للفنانة ليليان الخوري التي هي الاخرى ترسم لنا لوحة مضطربة كل ما فيها مخيف ...
الشاعرة أستخدمت المفردات ( سحابة ، الشمس ، القمر ، الريح ) كعلامة للحياة يقابها (المغيب ، كأس مكسور ، صدى ) كعلامة للانتكاسة ، لذا الشاعرة حلمت أولا بعالم جميل الا انه سرعان ما تراءى لها وكأنه سراب ... وبنفس المفهوم نجد الفنانة أستخدمت الالوان ( الأزرق ، الآبيض ، البني ...) التي توحي بمعانيها الى الحياة الجميلة مما يدعوها الى المغامرة لعيشها ... ولكنها سرعان ما تيقنت ان الامواج القوية والمتلاطمة جعلت شراعها تميل الى السقوط مما دعاها ان تجعل من ألوانها قاتمة وفي الافق ينتشر الليل والرعد والابيض كان سرابا لان البحر لم تكن هادئة ...
فالنصُّ الأدبي أسوة باللوحة التشكيلية عبارة عن كلام متعدّد المستويات ، متعدّد الخصائص الفنّيّة كلاهما ينتميان إلى الشعور والحدس وإلى العاطفة ، كلاهما يؤدّيان فضلا عن وظيفتهما الدلالية وظيفة نفسيّة ، يقومان بتحريك انفعالات المتلقي وتحفيز مخيّلته وزيادة عنصر التعجيب لديه، وإنّ الصورة الفنية هي التي تضفي على النصّ شعريّته وتمنحه القدرة على التأثير، وتعدُّ مظهرا من مظاهر الفنّ والجمال في النصّ الشعري، ومؤشّرا قويّا على عبقريّة وإبداع الشاعر .
وهذا ما سنتلمسه من قصيدتها ( إنتِظار ") والتي تقوم بدغدغة مشاعر المتلقي وتدعوه الى القلق والأضطراب حين يعلم ان ما يراه ليس الا سراباً أو ظلاً لا يمكننا القبض عليه فتقول :
ولكنَّني هنا، ما زِلتُ أنتظر
وسِراجي نائم ...
يَحدُثُ أن أُكلِّمَ الرّيحَ
عِندَ جُنونِ الصَّمت ...
وأن أُناغي البحرَ،
أُناجيه، عِندَ أُفولِ مَوجِه....
ومن ثم تقول :
زخّات مطر ، رذاذَ شُجون
كُلَّما لاحَ لِلنّورِ ظِلّ...
ويَحدُثُ أن أَمَلَّ الحَديثَ
في أبجدِيّاتٍ مهزومةٍ ...
وختاما نقول :
كل هذا يكشف لنا عن فضاء أشتغالاتهم الأدبية والفنية ورؤاهم التي تكونت لديهم من خلال أنعكاسات الواقع عليهم وردة فعل الذات المبدعة لديهم تجاه سطوة واندفاع الاخر، أنها تجربة النضج الابداعية في الشعر والقصة والرسم والموسيقى و...عبر تكنيك لغوي وشاعرية الشاعر التي تلتقي مع عناصر فن الرسم وتنفيذ مفردات اللوحة التشكيلية.
ان مايميز التصوير الشعري عن التصوير التشكيلي يكمن في ابراز الشاعر الفاعلية والنشاط الحركي الذي ينساب على سلسلة من لحظات متعاقبة بدلا من قيام الرسام في تجميد لحظة معينة في مكان ثابت .
فالرسم لا يتمكن من تقديم الحركة إلا في الصور البانورامية عكس الشعر الذي يقوم يعرض الحركة من خلال السردية التي تمتاز بها القصيدة القصصية والدراما ويعجز عن ذلك في القصيدة الغنائية والتي تكون الحركة فيها بطيئة جدا وربما معدومة عندما يتحد الزمكان فيها في نقطة واحدة أسوة باللوحة .
ــــ
[1]حكمت مهدي جبار / مصطلح الصورة بين القصيدة والرسم– من الأنترنيت
[2] ) بين الفن التشكيلي .. والشعر / صادق القاضي – من الاننرنيت )
0 comments:
إرسال تعليق