لا يوجد فى السياسة ما يسمى بمبادرات إنسانية؛ وذلك لأن الدول ليست مؤسسات خيرية بل هى مؤسسات سياسية تخدم مصالحها العليا، وحتى مبادرات الإغاثة للمناطق التى تتعرض لكوارث طبيعية كالزلازل والفيضانات والأعاصير فهى مبادرات ذات طابع سياسى دعائى أو ترويجي يخدم فى النهاية موقف سياسى، وبالتالي حينما يتحدث أى رجل دول عن مبادرة إنسانية فإنه ببساطة يوجه هذا الخطاب لشريحة معينة من الرأى العام الأقل ثقافة وإدراك؛ وغالبا ما تكون تلك الشريحة المستهدفة فى دولة من العالم الثالث. ويجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن أن يوجه خطاب المبادرات الإنسانية لدولة ضمن دول الاتحاد الأوروبى؛ ولنا العديد من الأمثلة بدءً من انهيار الكتلة الشرقية وصولا لقضية الأزمة الاقتصادية اليونانية قبل عدة أعوام عندما أوشكت اليونان على الإفلاس؛ فلم يتجرأ أى سياسى دولى أو أوروبى على عنونة أى مبادراته بكلمة إنسانية؛ وذلك على الرغم من أن العديد من الدول الأوروبية قد عانت فى تلك الحقبة من انهيارات كاملة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أيضا.
ومصطلح المبادرات الانسانية قد يكون مقبولا بالحد الأدنى فى منطقة تعرضت لكارثة طبيعية؛ أما عندما يكون الحديث عن كارثة إنسانية ناتجة عن عمل سياسى موجه فى صراع سياسى مرير وطويل الأمد كالصراع الفلسطينى الاسرائيلى؛ فإننا فى حقيقة الأمر أمام حالة تظليل سياسى عميق ومدروس بعناية في هدفه الرئيسى.
وهنا إطلاق تعبير المبادرة الانسانية عن تحسين وضع قطاع غزة إنما هو تظليل من الولايات المتحدة وإسرائيل وكل من يشارك فيها؛ وأولئك الذين يعتقدون أن الدول جمعيات خيرية هم لا يخدعون أنفسهم فحسب بل يخدعون شعبهم وجمهورهم؛ ويعتقدون كما تعتقد الولايات المتحدة وإسرائيل أن ثمة شريحة كبيرة من الفلسطينيين من السذاجة بمكان لتمر عليه مبادرة سياسية بغلاف إنسانى دون أن ينتبه أحد.
وكذلك من يروج إلى ما يسمى بالمبادرة الانسانية الأمريكية الاسرائيلة على أنها مبادرة دون أى تنازلات سياسية؛ إنما هى اعتراف منه بأن قتلة الأطفال فى غزة هم أكثر إنسانية من الأطفال المقتولين؛ وإلا كيف نفسر أن إسرائيل التى كانت السبب الرئيسى فيما حل بكوارث على قطاع غزة تسعى اليوم إلى انتشال غزة من الواقع الذى تسببت هى فيه؛ فإما أن إسرائيل قد ندمت وتسعى اليوم لتصحيح خطأها مع غزة وهذا أمر مستبعد وخاصة أنها ما زالت مستمرة بقتل الأطفال وآخرهم الطفل ياسر أبو النجا؛ وإما إسرائيل كما هى وتسعى للحصول على ثمن سياسى بعدما نجح مخططها فى إيصال غزة لما هى عليه وهذا هو هدفها الغير معلن.
وحقيقية الأمر أن تمرير الصفقة السياسية ذات الغلاف الانسانى على غزة هو لتمرير صفقة القرن لأنها وبكل بساطة تكريس وشرعنة لواقع سيادة أحد طرفى الانقسام على ما بحوزته؛ وهى شرعنة للانقسام الفلسطينى خاصة وأنها تستلزم موافقة حركة حماس منفردة عليها لتمر وتصبح واقعا على الأرض دون الرجوع للمرجعية السياسية الرسمية الفلسطينية؛ وهو ما يفسر إطلاق تعبير الانسانى عليها رغم طابعها السياسى الصرف؛ وإلا فهل يعقل أن إنشاء ميناء عائم يمثل المنفذ البحرى الوحيد لأى كيان فلسطينى مستقبلى موحد فى الضفة والقطاع هو عمل إنسانى وليس سياسى؛ فى حين أن إسرائيل رفضت أن تسمح بهذا الميناء حتى بصورته المنقوصة المقترحة طيلة الفترة الانتقالية من أوسلو؛ والتساؤل هل انتهت الفترة الانتقالية ونحن اليوم أمام الحل الدائم وهل سيخدم هذا المنفذ البحرى الوحيد لنا كفلسطينيين الضفة وغزه أم أنه سيكون حكرا على أحد شطرى الوطن المنقسم .
إن الاستسلام والاعتراف بالهزيمة ليس بالأمر الخطير على مستقبل الأمم فالهزيمة ذات رائحة نفاذه، ولا يمكن لأى كان إخفاءها، ولكن الخطر الحقيقى على مستقبل الأمم أن لا يعترف المهزوم بهزيمته؛ ويحاول عبثا تظليل الشعب بانتصارات وهمية لا مكان لها إلا فى مخيلته؛ ليبقى هو فى مكانه فى سدة القيادة يدير دفتها ويوهم الشعب أنه يدير الصراع بينما فى الحقيقة هو يدير هزيمته نحو النهاية الحتمية.
إننا أمام مبادرة مشبوهة تزكم رائحتها الأنوف؛ وستكون غزة إذا ما تم تمريرها كيانا سياسيا منفصل ذو سيادة على السكان وليس الأرض؛ وكما تفردت إسرائيل بغزة عقدا من الزمن سيأتى الدور على الضفة الغربية والله وحده يعلم ما ينتظرها لتصل إلى ما وصلت له غزة، ولنا العبرة فى قصة المثل العربى أكلت يوم أكل الثور الأسود... وهى ملخص مأساتنا.
0 comments:
إرسال تعليق