لقد كان من الصعب في القرن الماضي التمييز بعمق بين برنامجيْ الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن حتماً في محصّلة السنوات الأخيرة، أصبحت الخلافات تتّسع بين رؤى الديمقراطيين والجمهوريين لأنفسهم ولمستقبل أميركا ولعلاقاتها الدولية. وسنجد هذه الفوارق واضحة أكثر مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في العام القادم.
فالمتغيّرات الجارية الآن في الحياة السياسية الأميركية ليست فقط وليدة فوز دونالد ترامب بانتخابات العام 2016، بل تعود إلى مطلع هذا القرن الجديد وإلى تداعيات 11 سبتمبر 2001، حينما ارتبط موضوع الأمن الأميركي بحروب كبيرة في العراق وأفغانستان، وبمسائل لها علاقة بالعرب وبالمسلمين وبالأقلّيات الدينية والعرقية في أميركا، إضافةً طبعاً للدور الخطير الذي قام به من عُرِفوا باسم "المحافظين الجدد" في صنع القرار الأميركي وفي تغذية مشاعر الخوف لدى عموم الأميركيين، ممّا دعم أيضاً الاتّجاه الديني المحافظ في عدّة ولاياتٍ أميركية، ثمّ ظهور "حزب الشاي" كحالة تمرّد سياسي وشعبي وسط الحزب الجمهوري ومؤيّديه.
وما شهدته الولايات المتحدة من "انتخابات نصفية" لأعضاء الكونغرس في نوفمبر الماضي، وفوز "الديمقراطيين" بغالبية مجلس النواب، هي كانت مؤشّرات على المتغيّرات الهامّة الحاصلة في المجتمع الأميركي. فقد اشترك الحزبان "الديمقراطي" والجمهوري" في خروج القاعدة الشعبية لدى كلٍّ منهما عن رغبات القيادات التقليدية، حيث أظهرت نتائج الانتخابات هيمنة تيّار يميني عند الجمهوريين يدعمون ما عليه ترامب من سياسات، مقابل تزايد قوة التيّار اليساري المتنوّر عند الديمقراطيين، وهو التيّار الذي ظهر في مؤتمر الحزب الديمقراطي في العام 2004، وتكرّس بفوز أوباما في العام 2008.
ولا يصحّ القول أنْ لا فرق بين إدارةٍ أميركية وأخرى، أو بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، كما كان خطأً كبيراً أيضاً التوهّم عام 2008 أنّ إدارة أوباما ستكون حركةً انقلابية على المصالح والسياسات العامّة الأميركية.
إنّ التحوّل الذي حدث فعلاً عام 2008 كان في مفاهيم اجتماعية وثقافية أميركية. فقد فشل القس جيسي جاكسون في القرن الماضي بالحصول على دعم الحزب الديمقراطي له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أميركي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي وجذور عائلته العميقة في أميركا. أيضاً، فشل المرشّح الديمقراطي للرئاسة عام 1988 مايكل دوكاكس أمام منافسه جورج بوش الأب، بسبب عدم ثقة قطاعٍ كبير من الأميركيين ب"وطنيته" الأميركية لأنّه ابن مهاجر يوناني حديث، وأنّ عائلته لم تتأصّل في التاريخ الأميركي، ولم تنحدر من "الأنجلوسكسون" الأبيض المسيحي البروتستانتي! وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأميركية (1961-1963)، ولم يأتِ بعده كاثوليكيٌّ آخر للرئاسة الأميركية.
إذن، ما حدث في العام 2008 كان تحولاً في "مفاهيم وتقاليد أميركية" لا تتوافق أصلاً مع نصوص الدستور الأميركي، ولم تعد لها قيمة لدى معظم الجيل الأميركي الجديد، في ظلّ مجتمعٍ تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير الأوروبيين، والذين سيشكّلون خلال عقودٍ قليلة قادمة غالبية عدد السكان. وهؤلاء المهاجرون الجدد والأقلّيات غير الأوروبية والجيل الأميركي الجديد كانوا أساس الحملة الانتخابية لباراك أوباما، والقوة الشعبية الفاعلة في انتصاره الكبير في العام 2008 ثمّ في التجديد له في العام 2012.
إنّ الوجه الجميل لأميركا ظهر في العام 2008 بانتخاب مرشّح للرئاسة هو ابن مهاجر إفريقي مسلم أسود اللون، ولا ينحدر من سلالة العائلات البيضاء اللون، الأوروبية الأصل، والتي تتوارث عادةً مواقع النفوذ والثروة، لكن خلف هذا الوجه لأميركا يوجد وجهٌ آخر، بشعٌ جداً، يقوم على العنصرية ضدّ كل المزيج الذي رمز له فوز أوباما في العام 2008. فهي عنصريةٌ عميقة ضدّ الأميركيين ذوي البشرة السوداء، وشاهدنا في السنوات الأخيرة ممارساتٍ عنصرية كثيرة حدثت من عناصر في الشرطة أو من أفراد مدنيين، وهي عنصرية متجدّدة ضدّ كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية والتي كان آخرها ما جرى من إرهاب مسلّح في ولاية تكساس، وهي عنصرية نامية ضدّ الأقليات ذات الأصول الدينية الإسلامية واليهودية.
إنّ انتخاب رشيدة طليب وإلهان عمر لعضوية مجلس النواب في العام الماضي، كأول مسلمتين من أصول عربية تصلان إلى الكونغرس الأميركي، كان دلالة على مظاهر التحوّل في القاعدة الشعبية للحزب الديمقراطي التي لم تتأثّر بالحملات السياسية والإعلامية المناهضة للعرب والمسلمين منذ أحداث 11 سبتمبر في العام 2001. أيضاً، حصل أمرٌ مشابه في عدّة ولاياتٍ أميركية في العام 2016 خلال الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي، حيث صوّت العديد من الأميركيين المسلمين والعرب لصالح المرشّح اليهودي بيرني ساندرز. وكان ذلك شهادةً للطرفين معاً: شهادة للأميركيين المسلمين والعرب بأنّهم لا ينطلقون من اعتبارات دينية أو عرقية في اختيارهم للمرشّحين، بل من معايير سياسية داخلية وخارجية لتحديد أين سيذهب صوتهم الانتخابي، وكانت شهادة أيضاً للمرشّح ساندرز لأنّه استطاع استقطاب هذه الفئة من المجتمع الأميركي بسبب مواقفه الرافضة للعنصرية وللتمييز ضدّ الأقليات الدينية والثقافية والعرقية، ولأنه أكّد على رفض الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة وعلى حقّ الفلسطينيين بدولةٍ لهم، وعلى إدانته للحرب التي حصلت على العراق، وأيضاً بسبب رفضه للدعم المالي من قوى الضغط – اللوبي- واعتماده على مصادر التبرّعات الفردية، إضافةً طبعاً لبرنامجه الاقتصادي والاجتماعي الذي لقي وما يزال يلقى استحساناً من قطاعاتٍ عديدة من جيل الشباب والطبقات الوسطى والفقيرة.
وما يزيد من أهمّية الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام القادم هو مصير ترامب نفسه حيث أنّ اعادة انتخابه ستعني مزيداً من الانقسامات الحادّة في المجتمع الأميركي، بينما هزيمته في هذه الانتخابات ستؤدّي إلى تحجيم دور وتأثير التيّار العنصري المستفيد الآن من وجود ترامب في "البيت الأبيض". لكن المشكلة حتّى الآن هي في عدم وجود المرشّح الديمقراطي القادر على استقطاب القوى الشعبية التي تحالفت لإنجاح باراك أوباما لفترتين رئاسيتين. ولا أرى أنّ جو بيدن هو المرشّح القادر على ذلك، ولا هو أصلاً يتمتّع بالمواصفات والمواقف التي تجعل الناخب الديمقراطي أو المستقل يندفع لتأييده.
ربّما المراهنة ستكون على جعل بيرني ساندرز هو المرشّح المقابل لترامب، وبأن تكون إليزابيت وارن هي المرشّحة لمنصب نائب الرئيس. ففي تحالف ساندرز ووارن يمكن إحداث تيّار شعبي كبير مؤيّد لهما ومدعوم من الأقلّيات العرقية والدينية والثقافية، إضافةً إلى قطاع كبير من الشباب الأميركي ومن الأصوات النسائية. وإذا حدث ذلك فعلاً، فإنّ وجه أميركا الجميل سيشرق مجدّداً، كما حدث في العام 2008 بعد سنواتٍ من سياسة الدم والدمار والانهيار الإقتصادي التي سادت في فترة "المحافظين الجدد" داخل الحزب الجمهوري.
هكذا هي الآن المعارك الانتخابية غير التقليدية التي تحدث في الولايات المتحدة، فهي ليست فقط حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي تطغى أحياناً على سطح الإعلام، بل هي الآن أيضاً حول المسائل المرتبطة بالدين والعرق والثقافات. إنّها معارك سياسية حول كيفيّة رؤية مستقبل أميركا وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأميركي.
0 comments:
إرسال تعليق