في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها راضي بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (رتسون بن بنياميم بن شلح تسدكه هصفري، ١٩٢٢-١٩٩٠، أبرز حكيم في الطائفة السامرية في القرن العشرين، مُحيي الثقافة والأدب السامري الحديثين، مُتقن لتلاوة التوراة، متمكّن من العبرية الحديثة، العربية، العبرية القديمة والآرامية السامرية، جامع لتقاليد قديمة، مرتّل، شيخ صلاة، شمّاس، قاصّ بارع، أديب أصدر قرابة الثلاثين كتابًا وهي بمثابة مصادر لكتّاب ونسّاخ معاصرين، شاعر نظم حوالي ٨٠٠ قصيدة وأنشودة، وباحثون كثيرون تعلّموا منه عن التقليد الإسرائيلي السامري. كان السامري الوحيد الذي سمّاه سيّد الباحثين في الدراسات السامرية، زئيڤ بن حاييم ١٩٠٧-٢٠١٣ باسم: معلّمي ومرشدي) بالعبرية على مسامع ابنه الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٦-١٢٤٧، ١٥ آب ٢٠١٧، ص. ٥٨-٦١. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة نسمة، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”في مدح إبراهيم الصباحي
لن أكِلّ أبدًا عن مدح إبراهيم بن فرج (مرحيب) صدقة الصباحي (هصفري) وهذه السنة ١٩٨٨ هي ذكرى الستين لوفاته (ولد ١٨٥٢ ومات ١٩٢٨)، لنضوب ينبوع فيّاض من الإنتاج والشعر الغزيرين. أنعم الله عليّ بأنّني لم أفقد شيئًا من آثاره التي أحفظها عن ظهر قلب، وأراجعها في كلّ مناسبة، فالرجل كان فخرًا لطائفتنا، وسيأتي آلاف الباحثين لسبر كنوز شعره وانتاجه. كلّ ألفاظ الثناء والإطراء والتحميد والتمجيد التي أضعها أمام مذبح كتاباته لن تكفي إلا لإيضاح القليل لمن يتوخّى التعرّف على انتاجه وسبر أعماقه. أستميحكم عذرًا لأنّني أعود وأبالغ في التقريظ، وهذا أقلّ القليل الذي باستطاعة خيالي أن يصف مدى مساهمة إبراهيم بن فرج الصباحي للأدب السامري.
لم يكن إبراهيم بن فرج الصباحي شاعرًا وأديبًا ومفسّرًا للتوراة وواعظًا فحسب، بل كان أبًا لعائلة كبيرة بجّلته وحاولت الاقتداء به في تصرّفاته آخذة القليل من بهاء انتاجه لنقله لهذه الأجيال، لينهلوا قليلًا من بئر ماء الحياة. ولكن عُرف إبراهيم بن فرج، الذي سأسّميه من الآن فصاعدًا بالكُنية الشائعة ”أبو فارس“، أكثر من أيّ شيء آخر بإيمانه الراسخ وتمسّكه بالله تبارك وتعالى وبموسى نبيّه عليه السلام، بتوراته المقدّسة وبجبل جريزيم مكان سكينته.
أيّ شيء تمّ تنفيذه وكان فيه خوف أو شكّ في إلحاق أذىً بديانة إسرائيل أو بالتوراة كان يجعله يرتعش ويرتجف بشدّة. وقد عمل جاهدًا لتوريث إيمانه وتمسّكه بالتوراة لأبنائه مُبديًا قلقه الشديد إزاء ديانة موسى وتخوّفه من عدم الحفاظ عليها كما يجب. في كلّ مراحل انتاجه حاول توضيح الحاجة لإيمان كامل بالخالق وبسائر أركان العقيدة. لم يتوان عن دحض كلّ ريب من جانب الغرباء بخصوص صحّة وصدق دين الحقّ، وسخر من عقائدهم المختلفة والغريبة. كما عارض بحزم إمكانية الإشارة إلى أماكن مقدسة أخرى للباري، وكان ينتظر عاقبة الأيّام وعندها تنجلي حقيقة الديانة الإسرائيلية الأصلية، التي يتشبث بها بنو إسرائيل المحافظون على الحقّ.
زاوية سامرية في يافا
سكن إبراهيم الصباحي في بداية القرن العشرين في يافا. وآونتها لم تكن المدينة كما نعرِفها اليوم، كانت عبارة عن سوق صغير، بعض الأزقّة، شوارع مهملة تحيطها البيّارات والبحر الأزرق الخلّاب غربا. عندما انتقل أبو فارس مع عائلته من نابلس إلى يافا، وجد مسكنًا في إحدى البيارات.
رافق إبراهيمَ بنوه وبناته، فارس، صدقة، مصباح، حسني، بديع، جمال، رفيقة وزينب (پيرتس/مرحيب، تسدكه، نور، يفت، چوئيل، چمليئيل، نسيئه وفوعه). تدور أحداث القصّة التالية حول ما جرى بين الأب والأبناء. كانوا يكرّسون معظم الوقت في يوم السبت للصلاة ولقراءة التوراة. هكذا ربّاهم الأب أبو فارس وعلّمهم. وقبل الانتهاء من تناول وجبة الفطور في يوم السبت كان أبو فارس يستعدّ لصلاة الظهر. لم يتوفّر للأولاد أيّ وقت تقريبًا لتفريغ القليل من الطاقة الكامنة فيهم بالألعاب.
الكنز
بعد تناول الفُطور في أحد أيّام السبت، خرج حسني وشقيقاه الصغيران للعب في البيّارة المحيطة ببيتهم. وبينما كانوا يركضون فرحين مرحين وصلوا كنيسة مهجورة أصبحت أثرًا بعد عين، لم يبق شيء يدلّ عليها. وعنها عُرف في الماضي أنّّها كانت تعِج ّ بالحيوية والنشاط.
دخلوا باحة الكنيسة وأخذوا يركضون بين حجراتها المهجورة، يلعبون الغُمّيْضة. وفجأة أطلق حسني صوت فرح وحُبور. ارتطمت رِجله بعُلبة حديد ثقيلة، مقفلة وصدئة. أزال حسني وأخواه التراب عن العلبة وأخذوها. وعند هزّ العلبة ظنّ الإخوة أنّ فيها قطع معدنية صغيرة، أو ربّما عُمْلات من النقود، ففرحوا فرحًا لا حدّ له. ها قد جاء الخلاص من وضع أبيهم الاقتصادي السيّء، إذا كان الرنين الصادر من عُلبة الحديد الصدئة هو رنين نقود.
حمل حسني وأخواه بفرحة كبيرة العُلبة وأحضروها إلى البيت، إلى أبيهم وقال حسني : يا أبي، لقد عثرنا على هذه العلبة الصدئة، افتحها ففيها مال كثير. ضحك حسني فرحًا إلا أنّه توقّف عنه عندما لاحظ تجهّم وجه أبيه. لم يفرح أبوه ولكنّه قال: اليوم يوم سبت. لا يجوز لنا لمسُ المال. ضعوا العلبة في زاوية الحجرة وفي المساء بعد الصلاة نفتحها ونرى ما بداخلها وعندها سنقرّر ما العمل.
لم يكن صبر حسني وإخوته جميعًا قصيرًا لهذا الحدّ قط. رغبوا جدًّا في معرفة ما في العلبة، إلا أنّ الوقت وكأنّه توقّف وعقارب الساعة أبت التحرّك. وكانوا مقتنعين بأنّّهم سيحظون بهدية، بضعة قروش، مكافأة على اللقْية. مرّت الدقائق زاحفة ببطىء ببطىء.
أخيرًا حلّت ساعة المساء، بدأوا بالصلاة ثمّ بأنشودة ”راح سلام“ وختموا بالنشيد ”أيّها الفاضل الذي لا راجيَ...“. وإذا ظنّ أحدهم أنّ أبا فارس سيغيّر شيئًا ما من عادته من جرّاء اللقية فقد أخطأ. وكعادته في كلّ مساء سبت وبينما كانت زوجته قمر (يرحه) تضع غلاية القهوة على بريموس فتلة الكاز، أقعد أبو فارس أولاده ورتّلوا بصوت جهوري نشيد ”السلام على موسى“، وبعده بوقت طويل أكثروا من الإنشاد بمدح مزايا موسى النبي الكبير بقلم أبي فارس.
في أمسيات السبت العادية كان الأبناء يقومون بكلّ هذا باشتياق كبير ولكن في هذا السبت قاموا بذلك ”بدون نِفِس“. أخذ صبرهم ينفَد، كانوا يتوقون لتلك اللحظة التي فيها يوجّه أبو فارس نظره إلى علبة الحديد التي عثروا عليها في الكنيسة المهجورة.
وأخيرًا انتهى أبو فارس من الإنشاد وأشار لأبنائه بالتوقّف عن ذلك أيضًا ففعلوا بدون تأخير. توجّه أبو فارس نحو زاوية الغرفة وأبناؤه متوتّرون يتابعونه. طلب أبو فارس من حسني أن يفتح شنكل العلبة ولكنه لم يستطع. تناول أبو فارس العلبة وبضربة خفيفة على ظهرها انفتح الشنكل الصدىء. كانت العلبة مملوءة بقطع معدنية نقدية، وكم كانت عارمة فرحة الأبناء.
أبو فارس لم يشاطرهم هذه الفرحةَ هذه المرة أيضا، بقي وجهه صارمًا ولم ترتسم عليه أيّة بسمة. ولم يدع فرحتهم تلك لما رأت عيونهم تطول فقال لأبنائه ”حُكم المال الذي عُثر عليه يوم السبت كحُكم مال مسروق، لا نستطيع استغلاله“. إسودّت الدنيا في عيون الأبناء عند سماعهم هذا الكلام، ولم يصدّقوا ما سمعت آذانهم. ”ولكن يابا …!“ صاحوا إلى أبيهم طالبين إقناعه بخطأه.
بعرق جبينك تأكل خبزا
بدون ”ولكن!“ أوقفهم أبو فارس رأسًا رافعًا يده ”يا حسني اذهب أنت وإخوتك إلى الدكّان القريب واشتروا بكلّ هذا المبلغ كلّ ما تقدِرون على حمله من التبغ وعودوا به إليّ. حرام علينا استعمال هذا المال، به نشتري التبغ ونحرِقه ولا يكون لنا دخل في هذه الفِعلة.
كلّ محاولات الإقناع، مثل وضعهم الاقتصادي ذهبت هَباءً. أبو فارس كان حازمًا برأيه. قام حسني بتلبية طلب أبيه على مضض. كظم بكاءه وذرف الدموع وذهب لشراء التبغ بكلّ ما كان في العلبة من نقود. وعند عودته وإخوته معه حاملين أكياس التبغ، تجمّع الوالد والأبناء لحرقه في البيارة. واسى أبو فارس أولاده قائلًا ”ليكن معلومًا لكم أنّ ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة؛ قالت التوراة: بعرق جبينك تأكل خبزك. لا تهتمّوا، سيُرسل الله لنا أضعافًا مضاعفة لأنّنا لم ننتهك حُرمة السبت“.
ماذا كنتم أنتم ستفعلون لو عثرتم في يوم السبت على علبة مملوءة بقطع من النقود؟“
0 comments:
إرسال تعليق