إذا كان المتصوّف يرجو الكمال في اختباره العلائقيّ مع الله، فهو لا بدّ من أن يمرّ بحالات ومراحل فكريّة ونفسيّة وروحيّة متعدّدة ريثما يكتشف الجمال الإلهيّ السّاكن فيه. فيستشفّ بعضه ويتفاعل معه بقوّة ليبلغ أقصى ما يمكن أن يصله إنسان يخضع للضعف والنّقص.
وإذا كانت الحالة الصّوفيّة تعبّر عن حالة العشق بين الله والإنسان، فنحن أمام طبيعتين مختلفتين، إلهيّة من جهة وإنسانيّة من جهة أخرى. فكيف يمكن أن نفسّر هذا العشق بين المنظور واللّامنظور، والمحدود واللّامحدود، بين العطش إلى الحبّ وفيض الحبّ. المسألة ليست سهلة كما يعتقد البعض، كما أنّها تحتاج حياة تتدرّج مراحلها من الإيمان المستند إلى الموروث، إلى استيقاظ السّمع الدّاخليّ العميق ليصغي إلى الصّوت الإلهيّ، إلى دهشة البصيرة لمعاينة بعض النّور الإلهيّ، إلى الانسحاق أمام هذا النّور والانسلاخ عن العالم.
إن بقي الإنسان عند حدود الإيمان الموروث والتّديّن الظّاهري، عسر عليه سلوك الطّريق الصّوفيّ. فقد يقيّد الموروث انطلاق الرّوح بشكل أو بآخر. والتّحرّر من الموروث لا يعني قطعاً التّخلّي عن العقيدة أو الخروج عن المنظومة العقائديّة الّتي تؤمن بها كلّ جماعة. وإنّما الموروث المقيّد هو ذاك الّذي يتبنّاه الإنسان لا إراديّاً ويحفظه دون البحث والتّأمّل والتّيقّن من المعاني الإلهيّة الحاضرة فيه.
لا بدّ من أنّ المتصوّفين يتحرّرون من الموروث أوّلاً، ثمّ يتّجهون نحو تعزيز العلاقة الإنسانيّة الإلهيّة مرتكزين على الفكر المطواع للفكر الإلهيّ. فأولئك المتصوّفون غاصوا في الموروث حدّ تلمّس المعاني الإلهيّة. فتحرّروا من القشور ليَلِجوا العمق. وكلّما غرقوا في عمق المعاني الإلهيّة ارتفعوا نحو العلا. وبين العمق والارتفاع يحيا المتصوّف لحظات صراع بين الأنا المتخلّية عن الأرضيّات والأنا الحقيقيّة الحاملة الجمال الأوّل. وصراع آخر بين الفكر العالميّ المنجذب إلى الأيديولوجيّات والمكوّن لنفسه منطقاً خاصّاً، والفكر الخام الّذي كان عليه الإنسان قبل أن يدرك تشوّه الأنا. وكلّما اقترب المتصوّف من النّور الإلهيّ عاين التّشوّه أكثر فأكثر فانسحق واتّضع أكثر.
يقول المغبوط أغسطينس: "على قدر ضخامة البناء الّذي يُشيّد، ينبغي أن يكون عمق الأساس الّذي يُحفر إلى أسفل. وكلّما ارتفع البناء، انخفض الأساس. فإذا كانت القمّة عالية جدّاً، وهي رؤية الله وملكوته وسمائه، يجب إذن تعميق الأساس. ننزل إلى أسفل بالاتّضاع. وهكذا ترى البناء أوّلًا في أسفله قبل أن يكون فوق. والقمّة لا ترتفع إلّا بعد الاتّضاع." والتّركيبة الإنسانيّة الصّوفيّة تشبه إلى حدّ بعيد البناء المشيَّد. بقدر ما يحفر المتصوّف داخله ويؤسّس لعلاقة متينة حميميّة مع الله، يرتفع ويبلغ القمّة.
يتّضح لنا إذن أنّ الاتّضاع أهم ميزة ينبغي للمتصوّف أن يتطبّع بها، وينغمس بها لينسحق تماماً أمام الحبّ الإلهيّ. لذا نرى المتصوّفون يحقّرون ذواتهم بالمعنى الإيجابيّ للكلمة، وليس بالمعنى الّذي نفهمه بالتّحقير. تحقير الذّات المقابل للاتّضاع رباط بين المنظور واللّا منظور، والمحدود واللّا محدود. إنّه الأساس الّذي يتحدّث عنه المغبوط أغسطينس مقابل القمّة الّتي هي الجمال الإلهيّ. والاتّضاع مرحلة تحرّريّة يمرّ بها المتصوّف وتمتلكه لأنّه على يقين بأنّها تقرّبه من الانصهار بالله. وإذا كان الاتّضاع مرحلة تحرّرّيّة فلا شكّ أنّها تقود إلى إخلاء الذّات والتّجرّد. وهي أشبه بالتّنقيب عن الأنا في حالتها الأصليّة الّتي هي على صورة الجمال الإلهيّ.
يتكوّن في الفكر الصّوفيّ فلسفة الاتّضاع فيحوّلها إلى حالة إنسانيّة ممتزجة بطبيعته الإنسانيّة. وهي الفلسفة المرتبطة بفلسفة الحبّ كعلاقة حرّة بين العلو والعمق.
هذه الفلسفة كوسيلة تفكير تقود إلى تدريب العقل على معرفة حدوده وحجمه، وتقود النّفس إلى التّحرّر من التعقيدات والصّراعات. إذا إنّها تفكّكها وتعرّف الإنسان انتماءه الحقيقيّ إلى الحبّ الإلهيّ الّذي يسحق هذه الصّراعات لتمتلئ النّفس من الحبّ فقط. ومتى امتلأ الإنسان حبّاً إلهيّاً يكون قد بلغ ذروة إنسانيّته، فلا يعود يستطيع العودة إلى ما كان عليه بل يصبو إلى التّحرّر الكامل الّذي يلقاه في الموت نقطة التقاء بين الله والإنسان.
ان الشعور والضمير والنفس والعقل والروح كذلك اشياء غير منظورة لكنها فاعلة متفاعلة
ردحذفوان جوهر العلاقة بين المتصوف وبين الله ليس جسديا منظورا .وقد تظهر آثار التصّوف في المتصوف ذاته
لانه الطالب لتلك الفيوضات.
شكرا لحضورك أ. اسماعيل
حذفمحبتي وتقديري