في تعليق للكاتب ماجد عاطف على مقالة "واقعيّة حضور المرأة في رواية أوراق خريفية"، وكنتُ تناولتُ فيها جانبا من أفكار الكاتب محمد عبد الله البيتاوي، يقول في تعليقه: "كنت في حديث مع كاتبة مغتربة، وتطرقنا لكتاب محمد البيتاوي الذي لم أقرأه، فإذا بها تخبرني أن المجتمع الفلسطيني فاسد، على ما يبدو بناءً على قراءتها لهذا الكتاب. لم أفهم ما قصدته حتى طالعت هذه المقالة".
إن هذا التعليق يثير عدة تساؤلات حول علاقة الأدب، وخاصة الرواية، بالواقع، لاسيما إن كانت الرواية واقعية، وتستند في بعض أحداثها إلى أحداث حقيقية. وهل يجوز مثلا اعتبار الشعب الفلسطيني شعبا فاسدا؛ لأن مجتمع الرواية كان فاسدا، كأن هذا المجتمع الذي تدور حوله الأحداث هو كل ما في هذا المجتمع؟ لقد قيل عن رواية محمد شكري "الخبز الحافي" إن الكاتب قد جعل المغرب ماخورا كبيرا، فهل هي فعلا، وعلى أرض الواقع، ماخور كبير؟ وكما ورد في رواية "الجنس والمدينة" للكاتبة الأمريكية كانديس بوشنيل على لسان سيكبر: "الناس فاسدون جدا هذه الأيام". فهل يمكن للقارئ أن يسلّم بهذه الجملة التي بدت كأنها حقيقة مطلقة لا تقبل النقد أو النقض.
ثمة تعميم لا موضوعي من جهة حتمية ربط الأدب في دلالته على صورة الواقع الحقيقية، لعل في ذلك اجتزاء مبضعي وعزل لمجتمع الرواية عن المجتمع بشكل عام، كأن يقول أحدهم أن فلانا المريض لا خير فيه وهو يرى فقط جزءا من جسده مريضا. لكن الطبيب يعزل هذه المنطقة من ذلك الجسد، ليحاصرها وتكون شغله ومحل علاجه، وكذلك الكاتب، يفصل مجتمع الرواية، لأنه معني بمرض هذا المجتمع الذي عزله عن محيطه ليتأمله ويضعه تحت عدسات الكتابة والقراءة ليلتفت الآخرون إليه. وليلاحظوا ما فيه من مرض، فعمل الكاتب ولاسيما الواقعي كعمل الطبيب سواء بسواء، وموقف القراء من هذا المجتمع المحصور بين دفتي الرواية هو كرأي ذلك الشخص الذي أطلق حكما عاما على مريض بسبب مرض جزء من جسده.
إن ما دار بين الكاتب الفلسطيني ماجد عاطف والكاتبة المغتربة التي لم يسمها يجعلهما يحكمان بالتعميم على المجتمع الفلسطيني بأنه مجتمع فاسد، كأنهما ليسا كاتبين، وتعاملا مع الرواية بهذه الطريقة السطحية. ونسيا مهمة الكاتب، وطريقة عمله، كما أنهما تجاهلا طبيعة المجتمعات البشرية التي لا يمكن أن تكون مجتمعات خير بالمطلق أو شر بالمطلق حتى أكثر المجتمعات طوباوية أو ديستوبية، فالمجتمعات بشكل عام مجتمعات فيها الكثير من المشاكل والفساد والأمراض في كل الدوائر من الأسرة وحتى الدولة، ومن الفرد حتى المجتمع، وفي الثقافة وفي غير الثقافة.
إن الحكم على المجتمعات لا يكون بقراءة الروايات فقط، ربما كانت الروايات إحدى وسائل الحكم على المجتمع، ولكنها ليست هي الوسيلة الوحيدة، فثمة مصادر أخرى لمعرفة أحوال المجتمع بتفاصيله، فمثلا المجتمع الموصوف بالجاهلي قبل الإسلام كان ثمة خير فيه، من مكارم الأخلاق بجانب ما فيه من عصبية قبلية ووأد بنات وغزو وحروب طاحنة، والمجتمع الإسلامي في ذروته الطوباوية في عهد الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، كان ثمة منافقون كثيرون ينخرون ذاك المجتمع، وهذا ينطبق بلا شك على كل مجتمع، الفلسطيني والعربي برمته، والأمريكي والياباني، وسمّ ما شئت، فتتجاور العدالة والتقدم العلمي والرفاهية مع العنصرية وعالم الجريمة والمافيات والاستعمار ونهب الثروات والحروب.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الدارس للأدب، يتمحور حول فكرة العمل الأدبي ليكشف عن فنيات عرض الفكرة، ويعرّف بفكرته للقارئ الذي لم تتح له قراءة العمل الأدبي المدروس، ليكون الدارس في خدمة فكرة النص وجمالياته، ولا بد من ذلك، ليدفع القارئ إلى قراءة النص، فيكوّن وجهة نظره عنه بعيدا عن رأي ذلك الدارس، فيتفق معه أو يختلف. فثمة خطابان في أي نص أدبي أحدهما ظاهر والآخر مضمر، فلا يصح أن نأخذ أحدهما ونترك الآخر، بل لا بد من أن ندرك أن الأدب يقول أشياء أخرى بصمت، معتمدا على ذكاء القارئ الحصيف.
0 comments:
إرسال تعليق