التجلّيات الأبداعية في القصيدة السرديّة التعبيريّة
ممالاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعرتطويرها واستثمارها أقصى إستثمارعن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخيرالخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض .
يقول سركون بولص : ( ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبيرخاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعرالأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت وأودن و كما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غيرمقطّعة ). من هنابدأنا نحن وأستلهمنا فكرةالقصيدة / السرديّةالتعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدةالنثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غيرقصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعدعن قصيدة النثر .
اذا كان السرد النثري هو سرد قصصي – حكائي يقصد الحكاية اوتوصيلي بشكل خطاب ورسالة أو الوصف , فأنّ السرد في الشعرهوسرد لابقصد السرد , هوالسرد الذي يمانع ويقاوم السرد , أنّه السرد بقصد الأيحاء والرمز ونقل الأحساس وتعمّد الأبهار وتجلّي لعوالم الشعور والأحساس وتعظيم طاقات اللغة , فأنّما نقصده بالتعبيريّة أواللغة التعبيريّة فهي اللغة التي تتحدث عن المشاعر والعواطف والحالات الذهنيّة عن طريق تكثيف اللغة وأنزياحاتها العظيمة والدهشة المبهرة , أنّها التعبير عن مشاعر الذات الأنسانيّة وعمّا يدور في داخلها وأعماقها , وما يستغور في عوالم الذات الأبداعيّة الخلاّبة والغامضة , وعن طريقها يمكننا أن نتلمّس ونشاهد العوالم الداخلية للشاعر ., أنّها التجربة الداخليّة للذات الشاعرة والتي لابدّ لها من أن تظهر على السطح وتستفزّ المتلقي .
ويخطىء مَنْ يظنّ ويعتقد بأنّ التعبيريّة هي الكلام المعبّر عنه بالحكي والقصة والأنشاء العادي والسطحي , لهذا فأنّ الكتابة المباشرة والسطحية تجعل العقل تابعا لمايقرأ , وحينها يكون العقل أعمى وبليد يعيش في رتابة وخمول , عكس الكتابة باللغة التعبيريّة التي تحتاج الى قارىء يمتلك حدسا يقظا نشيطا مبدعا , حدس قويّ يمكّنه من أكتشاف العوالم الداخلية البعيدة عند الشاعر, أنّ اللغة التعبيريّة هي التعبيرعن القيم المعنوية لدى الشاعر بدلا عن محاكاة الواقع , أنّها التعبير عن مشاعر الذات , أنّها الذاتية الأبداعية التي تغور في العوالم الدفينة والغامضة لهذه الذات , أنّها التعبير عمّا يدور ويتجلّى في داخل الأنسان . أنّها الأشراقات عن الحالات الذهنية والنفسية دون اللجوء الى الخيال والرومانسية , هي أنعكاس لمايحدث في هذا العالم من الخراب ومدى تأثيره في نفس الشاعر , أنّها الرؤية العميقة والتأمّل في أعماق الذات.أنّ الكتابة عن الشاعرة : رحمة عناب تتطلب جهداً وصبراً كي نتمكن من الأمساك بجمال المفردة الممزوجة بدهشة الفقرة النصّية وعظمة اللغة المبهرة , فهي الشاعرة المخلصة لقصائدها والتي تأتي دائماً من أعماق الذات البعيدة مشحونة بزخم شعوري عنيف , وأختيار ذكيّ وموفّق في رسم الصورة الشعرية التعبيريّة من خلال المفردة الأكثر تأثيراً في المتلقي والنفاذ الى ذاكرته . أنّ أغلب نصوص الشاعرة تأتي دائماً على شكل كتلة واحدة وبفقرة نصّية واحدة وهذا مايستدعي الى وجود قارىء مجتهد ومبدع كي يتمكن من فكّ شيفرات هذه النصوص ومعرفة الدلالات التي توحي بها .
وهنا سنتحدّث عن ((التجلّيات الأبداعية في القصيدة السرديّة التعبيريّة )) لدى الشاعرة : رحمة عناب وعن ديوانها البكر هذا ( وراءَ هذا الغموض تتكوّرُ قناديلي راشعةً ) . وراء هذا الديوان سنقرأ هذه اللغة المرمزة بعناية فائقة وابداع فذّ , سنجد بأنّ قصائد لبشاعرة تتجمّع بطريقة ملفتتة للنظر , وتفتح ابوابها مشرعة امام المتلقي للأبحار في ينابيعها السرّية , قصائد ترتعش خشية وقلقا كونها قصائد اولى للشاعرة , وكون التجربة الأولى للشاعرة هي الأولى , لذا لن يهدأ لها بال ولن تشعر بالأرتياحوالأطمئنان والسكينة , لطوح الشاعرة في ان تكون هذه التجربة ( الأولى ) تجربة حقيقية تستحق الأهتماموالألتفات إليها , وقد كانت فعلا هذه التجربة الأولى مثيرة بما فيها من عظمة لغة وخيال ديكتاوري جامح ورهافة إحساس ورقّة مشاعر ورساليّة فنية وإجتماعية وبوح أقصى وتجلّيات مبهرة للسرديّة التعبيريّة , من اللغة المتموجة , إلى البوليفونية والفسيفسائيّة واللغة التجريدية واللغة التعبيرية واللغة الهامسة والمستقبلية واللغة القاموسيةووقعنة الخيال .
سننتطرق الآن عن جماليات هذا الديوان ونفتح أبواب كنوزه أمام المتلقي ليجد ويتلمّس النواحي الأبداعية فيه , وستكون محاور القراءة كما يلي :
اولاً : اللغة الشعريّة : اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيدا وتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلها والاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هي الشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّ هذاالضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارها ناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذات تسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة به يحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدة مترهّلة ويضيف اليها ما يوهّجها اكثر ويفتح للمتلقي أفقاً شاسعا للتاويل , يغامرالشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لاتمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها من نهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتبا ليوم باسم قصيدة النثروهي براءة من هذه التهمة .
ويمكننا تقسيمها الى :
1- اللغة التعبيريّة : أنّ اللغة في القصيدة التعبيرية عبارة عن كتل من المشاعر الدفينة المتأججة والباحثة عن الأنطلاق من داخل الذات الى الواقع الحقيقي , وفيها نجد كمّاً هائلاً من هذه المشاعر والأحاسيس المرهفة والعميقة. أّنّ اللغة التعبيريّة دائما تسعى الى خلق فضاءات واسعة عن طريق تسخيرالخيال الخصب ورسم هذه المشاعر والأحاسيس بطرق ابداعية خلاّقة . أنّ اللغة التعبيريّة تحاول ان تبثّ النشاط والحيوية في عقل الأنسان , فلا تنقل صور الواقع كما هو , فهي تبتعد كثيرا عن هذا الواقع , أّنّها غرابة اللغة وانزياحاتها العظيمة بطريقةابداعية محببة تجعل الألفة مابين المتلقي والذات الشاعرة المأزومة نفسيا وعاطفيا , الذات المملوءة بالقلق واليأس والغربة , الذات التي ترى القادم مجهولا مظلما يعجّ بالضياع والغربة والتشاؤم ,. كلّما تزداد الأزمات تظهر القصيدة التعبيريّة عند شاعرها بعدما ينصهر الوجود في خياله وأعماقه , فمن خلال قصيدته ( التعبيريّة ) يحاول الشاعرأن يفرغ الشحنات العاطفية الهائلة في أعماقه , فنراه كأنّه يقدّم جزء منذاته , أويقتطع أجزاء من قلبه الرهيف المفعم بصدق المشاعر وكتلة من الأحاسيس والعواطف العاصفة , فمن خلال كتابات الشاعر يمكننا ان نرى بوضوح عوالمه الدفينة ومشاعره الرقيقة. أنّ اللغة التعبيريّة هي اللغة البلّوريّة الت ينكتشف من خلالها العوالم الداخلية والدفينة لروح الذات الشاعرة , فهي بمقدورها أن تقدّم لنا قدراً كبيراً من العالم الباطني مقابل قدراً قليلاً من العالم الخارجي ,.لقدأستطاعت اللغة التعبيريّة أن تمنح الشاعرة الحرّية في ان تعبّرعن أعماقها البعيدة . أنّها لغة الأعماق التي تجعل روح الذات الشاعرة برّاقة ومن خلالها نتمكن من رؤية تلك الأعماق كيف تتجلّى اشراقاتها بوضوح , تلك الروح التي تكون كالبلّور شفّافة رقيقة ناعمة الملمس من خلالها تنفذ اشعة الشمس . ففي قصيدتها / وجهي .. صبحٌ مدلهم الشروق / نرى بوضوح عظمة اللغة التعبيرية وسحرها من خلال هذه المقاطع / مفجوعٌ فؤادي غيماته تمطر سيول جمرات تكوي أيام البهجة / , وكذلك / يبصرني ليل تنازعت خيباته تغفو على شغاف دفاتري ترتدي / , وأيضا نقرا لها / آلآن وقد أثكلتنا فصول أستدام جدب أقدارها من يدرأ متاريس الضياء عن أفقنا البعيد ويعصم أبوابنا من صرير يغلف زفير خوفنا الشاهد موت ضحكاتنا / .. ونترك هذه القصيدة للمتلقي ليستمتع في قراءتها وتلمظّ عذوبتها . لقدأستطاعت الشاعرة عنطريق لغتها التعبيريّة هذه التعبيرعن الجانب الشعوري المتمثّل عن حالات الفرح والحزن ومن الحالات النفسيّة التي بقيت تتأجّج في أعماقها , واستطاعت الألفاظ على نقل المشاعر الدفينة والعميقة بصدق وشفافيّة , وجعلت المتلقي يتفاعل معها عن طريق التأثير الحسّي والأيحاء والتأويل , وأستطاعت أن تفرز تعبيرات أنسانيّة – وجدانيّة – تخاطب الأنسان في كلّ مكان وزمان .
2- اللغة الهامسة : الهمس هوالصوت الخفيّ والذي لانكاد نسمعه , والشعر الهامس هوالشعرالحيّ الذي يتدفق صافيا كالينبوع من الذات الشاعرة ليستقبلها لمتلقي دون عناء اومشقة , تتميّزاللغة بشفافيتها وعذوبتها الجميلة . كثيرة هي اللغة الهامسة في هذا الديون , ونجد الكثير من هذه اللغة الهامسة مبثوثة ومتداخلة مع تجلّيات أخرى , وسنختار مقاطع نصّية من بعض هذه القصائد , فمثلا في قصيدة / عاهدتكَ ألاّ اشرك بملائكتك بشراً / , فمن خلال هذا العنوان نستشعر بهذه اللغة وهي تهمس همساً رقيقاً عذباً , في ترفّ ةتحلّقةقد صوّرت لنا الذات الشاعرة وخلجاتها أصدق تصوير وأعمق , فمثلاً تقول في مقطع نصّي / تحرسني إنّما استحضرتك دعواتي ترجّلت هرولةً تُخلّفُ سماواتك العاليات تهفهف على جدران وحدتي / هنا نتلمس بوضوح نبرات صافية منغّمة تمتلك من الأيحاء والعذوبة والرقّة مما تنقل المتلقي الى عوالم بعيدة داخل الذات الشاعرة , وفي قصيدة أخرى بعنوان / بالأمس / نقرأ هذه اللغة الهامسة / تمشي على الماء بغير بلل وتسير الجبال بترنيمة سحر تمسك عصب الدهشة فتستيقظ الآمال منتشية / هنا نجد بأنّ اللغة الهامسة توحي لنا بانّه أثيرية نابعة من وجدان الذات الشاعرة , هادئة حرّة غير مقيّدة بأي زمن او مكان .
اللغة الصوفية : هي لغة الأشراقات المنبعثة من أعماق القلب نتيجة للصراعات النفسية والمكابدات والأزمات والمرارات , عباراتها ترانيم تخرج من الأعماق مكتوبة فوق سطح الروح البهيّة , لغة حبّ عظيم وتجلّي وسلام , لغة ترتعش كالأغصان الطرية كلّما داعبتها الريح , غضّة متفتحة كالأزهار تفوح بالعطر إذا ما أحسّت بالهناء والهدوء والسكينة , فمثلا نقرا للشاعرة في قصيدة / سيّد الشبق / جنّاتنا الآهلات بفيض الشغف سنهرول إليها آيبون نقوّم ملامح إغتراب الأيام الآفلة نبلّل غصّة الدروب الظامئة .../ لقد كانت هذه اللغة الجسر الذي تعبر عليه الروح في محاولة للكشف والبحث عن الأطمئنان والخلاص , كونها نابعة عن تجربة صادقة , لغة شفيفة طفح بها القلب المبتلى عشاً ووجداً وهياماً , لغة جوّانية حوارية ملامحها تنمّ عن تجربة روحية نقيّة . متى ما أُبتلي القلب بنيران الحبّ وعصفت به مواجيد البُعد والحرمان , حدثت في أعماق النفس صراعات نفسية ومكابدة تستدعي منها الاحتماء خلف جدار الصمت والرمزية وعدم التصريح او تعلن التمرّد والافصاح عمّا يعتريها من مرارات واخفاقات وعثرات في محاولة للتخلّص من ضغوطات قد تؤدي الى حدّ الانفجار, فكيف اذا كان هذا القلب قلب شاعر .. وكيف لو كان قلب شاعرة ..؟؟ !.
أنّ الذات الشاعرة المبتلية دائما تبحث عن النجاة وتشرئب كلماتها نحو الضياء , وقد ترتفع وتسمو عن الارض وما فيها من المحن واللجوء الى السماء والتقرّب من الذات المقدّسة والاحتماء تحت انوارها القدسية , فتكون حينذاك اللغة عبارة عن مفردات مكتوبة فوق سطح الروح بهيّة , انها عبارة عن ترانيم منتزعة من أعماق هذه الذات , لغة حبّ عظيم وتجلّي وسلام لغة راعشة كالغصن الطريّ حين تداعبه الريح , غضّة متفتحة كالازهار تفوح بالعطر اذا ما أحسّت بالهناء والهدوء والسكينة , وضامرة تتوشّح بالسواد اذا ما انتابها الهجر والبُعد عن الحبيب . ونجد ذلك متمثّلاً في قصيدة / كما يهبُّ الحبق عبيرهُ للوادي / وهبتك ايام الشوق الجزيل عطاءً لا يهتدي الا لمدائنك الظامئة بذاراً انثره ينبت في روحي ازهارا أنعش بيات أرضك أحييه اشجاراً ثمارها تتفاخر جسارةً تنضج كروما عرائشها تذكاراتنا الناعمة جدير انتَ بفورة ملاحم القصيد غائر في دسائس الاحلام الشاهقة تتجرد كلما عرتها يقظة الغياب اتنفس فصولك رحيقا محمولا على اثير الشغف يا موسما من مواسم الغناء ../ .
لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي : هي لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي وهي احدى مظاهر السردية التعبيرية , انّ المتعارف عليه في اللغة لكل نقطة معنوية تعبيرا لفظيا واحدا الذي يعبّر عنها , لكن ماتفعله لغة المرآيا هو الانطلاق من معنى واحد وبوحدات لفظية متعددة , وبمعنى آخر يعني وحدة المعنى وتعدد الالفاظ , فيكون لدينا تناصات متكررة , أي تناص بين وحدات النصّ نفسه وليس تناص مع نصوص أخرى . ان تناول الفكرة والاشتغال عليها عن طريق تراكيب لفظيّة مختلفة يمكّننا من النظر الى النصّ من زوايا مختلفة , وهذا يعني بأنّ هذا لنصّ متعدد الزوايا , وفيما نظرنا الى هذه التركيب اللغوية فيما بينها سنراها تراكيب فسيفسائية , أي انّ كل تركيب فيه يكون بشكل مرآة , فيمكننا حينها انّ نصف هذه اللغة بلغة المرآيا بينما نستطيع ان نصف النصّ بالفسيفسائي .
انّ لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي تحقق لنا تجلّي كبير للفكرة والمعنى وترسّخ هذا المعنى لدى المتلقي هذا من جهة , ومن جهة أخرى انّ تعدد صور الفكرة داخل النسيج الشعري يحقق لنا الحركة فيه .
في ديوان الشاعرة هناك أكثر من نصّ لغته هي لغة المرايا , وكلّ نصّ منها يتكون من ثلاث فقرات نصّية كل فقرة كُتبت ببناء جملي متواصل ولغة مكثّفة وببوح توصيلي شديد مصحوبا بهذا الكمّ من العاطفة .
فمثلاً نصّ / عصفور سومري...يعشعش في رحم احلامي / جاء على شكل ثلاث فقران نصّية محكمة البناء ادرامي والهندسي واللفظي والشعوري والحسّي , يمتاز بوحدات تركيبة فقراتية في تعبير واحد , حاولت الشاعرة في أن ترسم لنا ملامح الذات الأخرى بدقّة وبشكل تعبيري غير معهود وبشخوص نصّية ملوّنة ومتعددة تشترك جميعها في مهمة واحدة وهي الوصف ورسم ملامح هذه الذات الأخرى . وهذا ما نجده أيضا في نصّ / مَنْ يأخذني إليك يطوي صحائف الرحيل الأشعث ..؟! ./ الذي كُتب بلغة تجردية مدهشة جداً, وكذلك في نصّ / ابنة الجبل / حيث نجد كيف تتفتّق الذات الشاعرة في طريقة كتابة النصّ العظيم بلغته المبهرة وجماليته الفذّة , وكذلك نجد لغة المرايا في نصّ / على ضوئه النائي ... ارتقيه وطناً / . فمثلا في نصّ / من ياخذني اليك يطوي صحائف الرحيل الاشعث ؟ / نرى بأنّه يتكون من ثلاثة مقاطع نصّية مختلفة التعبيرات والمفردات ولكنها تتحدّث عن موضوع واحد , وهذا هو المقطع الأول / نستجير اياما خفافا نتمم فرائض عشقنا تدفأت في اروقتها مشاعرا ملغومة نجني ثمارها في فلاة سماواتنا تتوهج نتشمس ربيعها الناضج تعتقها امالنا محتشدة هناك../ وهذا هو المقطع الثاني / وراء معجزة التوله معابد الشغف اللدود اكتظت سفن هذيان جامحة هيجت اسرّةً الاشتياق على زند الصمت ترتعش و رغوة الرغبة تدغدغ حدود المساس سوية نقزّم شواهق الظلام معا نزهد عن كاهل الدنيا نلفظ كل خيالات راقصت اوهام الاماني مفعمان بميلاد قمريّ نرتل للسحر سمفونية الضوء ننسج الصبر اردية فرودس ترتق جيوب المسافات نشعل هتاف النوافذ لقاء فراشات برتقالية فمتى يا سيد الشفق يأزف عطرك يلفني يقتلع كبرياء اسواري! . / وهذا هو المقطع الثالث / نتابع مسيرة احلامنا لا تذعرها مداءات الأسى نبخر شهقاتنا النامية تمائما عرجونية في اعماقنا تتوقدوكيف الملم صراخ الطرقات احط رحال الغربة و ظلك الفاره يتبعني./ ونترك البقيّة للمتلقي في أن يكون مبدعاً يرتقي الى مستوى الابداع الحقيقي في هذا الديوان .
الكُتل التعبيريّة : في هذا الديوان نحن لانجد كلمات وأنما نجد مشاعراً أنسانيّة حقيقية تتجلّى من خلال هذه الكلمات , نجد هنا كُتل هائلة منها مبثوثة بين دفتي هذا الديوان , وعوالم شعورية وتأثيرية عميقة عذبة ورقيقة جيّاشة , أنّ هذا الديوان هو عبارة عن عالم فسيح من الجمال , وأنّ هذه الكُتل الكتابية – التعبرية أنّما هي تنبع من الأعماق البعيدة لتطفو اكثر عمقا و ابهارا ففيها نرى الشعور الانساني و تجسيده و تجلّي الأثر الجمالي ، أي رؤية الكيانات و الانظمة الماوراء نصية العميقة في الوعي المنتجة لكم كبير من المعاني الجمالية و التأثيرية اللانصية و تجليها بقوة في الكتابة . ونجد هذه الكُتل التعبيرية في قصيدة / فتنة القلب / حيث يتجلّى ذلك من خلال هذا المقطع النصّي المبهر / أتقلَّدُك حباً لازوردياً كل صباح يُبْحِر في مدن فان كوخ العائمة بطيش الألوان يُزْهرُ أنغاماً ماسيةً في حنجرة الفيروز يَسكبُها فيضَ ضياء يسافرُ في جزر الروح يصحو فوق جفوني لأتلاشى في لهيب حلمي كفراشةٍ هاجَتْها أطيافك توهجاً تَنسَرِبُ حناناً يُدْمِنُه أُفق عيوني و ها أنا أجلس على دَكّةِ الشوقِ أُجاري أشواط الغياب والحنين يقضُم شِباك الصبر./ , وكذلك في / سهولُك الصاخبة تَتَرنَّح بِخمْرةِ عِطْري / من خلال هذا المقطع النصّي العظيم / أعِنّي بقوةٍ أُذيبُ صفيح الأزمنة القاحلةأَفْرِغْ قِطْرَ الصبر في رُملةِ العيون
وأمسح رزايا عفّنَت أورِدَة الطُّهْرأجْبُر حُزن نايات بكت صراخَ الضلوع
رَمِّم أطلال مدنٍ شيّختها أناقة وهن الحكمةفي شَذراتك يَعبِقُ طوفان الشّبَق / .
اللغة القاموسيّة : حينما يكون الظرف قاسياً والزمن كئياً ممتلىء بالمحن والخراب والأزمات والفتن والضياع والقبح , تظهر مفردات قاموسيّة تتناسب وحجم المحنة التي يعيشها الشاعر وتتجلّى غربته وتشظّيه من خلالها , فلا أناقة في المفردة ولا عذوبة , ويظهر تاثير ذلك في النسيج الشعري وفي مزاج الجو العام الذي يكتبه الشاعر , وتظهر القصدية المتعمّدة في شحن أجواء النصّ بكل هذا الشعور العنيف من الألم والخوف والقلق والموت والخذلان والتصدّع والأسى واللوعة , زاخر هذا الديوان بالمفردات التي ترسم لنا مزاج الشاعرة لحظة التوهج الكتابي لديها , مفردات تنمّ عن الخوف والدمار والموت والتشظّي .. الخ , مفرادات كـ / المحن / الظلام / الوجع / قلق / غمامات / مهزوم / نعوشاً / يغتال / معول / شاحب / مبحوحة / العواصف / الهشيم / الفواجع / يغرق / لهيب / دموع / عذاب / شتاء / قاحل / تتناهب / هياكل / معطوبة / الخيانة / الاطلال / البرد / بشرهة / قضم / الخذلان / مغتربة / تلفحها / وجع / مريب / تواطئت / لغز / الهموم / يابسة / يغرقها / نهم / لا فضاء / تئن / مآقيها / الجرح / تصلب / قاااااحلة / الأسى / تصدع / غرق / أهترأ / مرارات / شتت / آآآآه / نزف / اللوعة / توهمنا / السراب / , هذه المفردات جاءت مجتمعة في نصّ واحد فقط , فما بالنا في بقيّة النصوص الأخرى ..؟؟!! . لقد امتلكت الشاعرة قاموسية مفردات خاصة بها رسمت لنا وجه العالم القبيح والموبوء , عالم مليء بالفجيعة والفضائع والتشتت , وسيجد المتلقي في هذا الديوان الشيء الكثير من هذه اللغة القاموسية . وهذا الاسلوب انما كان لاجل ايصال ثقل الازمة و بعدها النفسي الاحتلالي المستبيح للانسان و الذي حلّ محل ما هو محلي و مألوف بما هو غريب و وحشي . لقد عبّرت نصوص الديوان عن مزاج الشاعرة بهذه الجمل الشعرية الانتقائية وأجادت في ان تكسبها بعداً شعورياً و تعبيريّاً فذا .
ثانياً : الصورة الشعريّة : ان العاطفة بدون صور تعتبر عمياء والصورة بدون عاطفة تعتبر فارغة .
الصورة الشعرية : رسم عن طريق الكلمات وهي ادراك حسّي ينفذ الى باطن الاشياء وهي تعدّ عنصرا مهما في بناء القصيدة الشعرية تؤثر في المتلقي وتبرز المعاني . فالشعر يعتمد على الصورة وهي تختلف من شاعر الى شاعر اخر فلا شعر بدون تصوير . عن طريق الصورة الشعرية يتمّ التفاعل ما بين الشاعر والمتلقي , وكلما كان الشاعر حاذقا ومبدعا يستطيع ان يعبّر وبلغة شعرية تستثير حواس المتلقى وتبعث فيه روح المشاركة . الصورة الشعرية تتكون من الايقاع والوزن والايحاء واللغة والموسيقى والاحاسيس والمشاعر , وهي ( الصورة الشعرية ) مرتبطة ارتباطا ةثيقا بخيال الشاعر وافكاره , لان عن طريق الخيال الخصب يستطيع الشاعر ان يعبّر عمّا في داخله ويفجّر افكاره كي تصل الى المتلقى صورا ملموسة نتحسس عطرها ونتشمّم ألوانها . الشاعر الحقيقي يرى صوت العصفور كما يسمعه ويصوّر لنا الريح مجسّمة ويستطيع ان يؤنّسن الوجود ويلبسه عواطف وخلجات ومشاعر انسانية .
الصورة الشعرية تستطيع اداء وظيفتها التوصيلة عن طريق ( الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة ) , ولكل واحدة منها تفسيرات خاصة بها . و تتيح للشاعر ان يأخذنا الى عالمه الفسيح ويقحمنا عنوة فيه , فهو يكتب القصيدة في ذاكرته ومن ثمّ يرسمها على الورق زاهيّة الالوان برّاقة الصور ويبعث فيها الروح والجمال ويلبسها حلّة جميلة تجعل المتلقي يتفاعل معها ويعيشها ويتأملها ويغرف في تأويلاتها . ان الشاعر الحقيقي يجب ان يكون كالمونتير السينمائي الحاذق يستطيع ان يحذف المشاهد ( الصور الشعرية ) التي ترهّل القصيدة وان يضيف مشاهد / صور شعرية تجعل القصيدة تتوهّج اكثر ويكون منتهبا لئلا تتسلل الى قصيدة نفايات وزوائد تشتت فكرة القصيدة وتمحو بريقها . في هذا الديوان سنجد الكثير من الصور الشعرية البراقّة والمشحونة بالعاطفة والخيال الخصب , صوراً تمتاز بجماليتها وبهاء أنزياحاتها , فمثلاً نقراّ للشاعرة في نصّ / شتاء تتناهبه المحن / يكفي هذا العنوان لنرى بوضوح عظمة الصورة الشعرية لديها / مرة اخرى افتح ابواب المحن؛يندلق بحر الظلام على أذرع الشروق يسوق ادغال الوجع،رفوف الذاكرة يتحلزن عليها قلق مستديم؛تعج غمامات ارث مهزوم مطرزة حصونه نعوشا ثقيلة، يغتال اشجاره معول شاحب بدد اجنحة الفجر و سفائنه مبحوحة تشق خلجان العواصف فيندلع الهشيم / ونترك الباقي للمتلقي ليعيش في أجواء صور الشاعرة ويتحسّها ويرى بوضوع شفافيتها الرقيقة .
ثالثاً : الخيال : يقول ( انيشتاين ) انّ الخيال اهم من المعرفة وهذا يعني بان الخيال بالنسبة للادب هو مفتاح العاطفة وانه اشبه بالمستودع الذي تستمد منه قوى النفس مادتها الاولية . لذا على الشاعر ان يمتلك خيالا خضبا منتجا يجعلنا نتلمس المشاعر ونتصورها شاخصة ملموسة نتحسسها ونتشمم عطرها . فهناك خيال بسيط وهو ما تدركه الابصار وحاسة البصر , وهناك الخيال المركّب عند الشاعر الذي يستطيع خلق صور عما يشاهده او يقرؤه او يحسّه صورا لا عهد لنا بمثلها نقف عندها تصيبنا الدهشة , تعمل على اثارة العواطف وتمنح القصيدة حياة متجددة , وتشويقا يجتذب المتلقي اليها . أنّ السياحة في ديوان الشاعرة سيكشف لنا عن خيالها الخصب والجامح والمنتج في نفس الوقت , خيال يجعل اللغة الشعرية لديها لغة قادمة مما وراء احلم , خيال يجعل المفردات المنتقاة بعناية تترقرق تحت عذب وجمال هذا الخيال الدكتاتوري . فمثلاً نقرأ في نصّ / لذّة ناضجة في مواسمه الماطرة / من خلال العنوان نرى بوضوح طغيان هذا الخيال الخصب و وفي عنوان آخر نقرأ / في بركان الوحشة .... يتعثر هديل الحمام / , وكذلك في عنوان آخر / صيفٌ يستلذ اوجاع البنفسج / , ونترك للمتلقي متعة القراءة والسياحة في هذا الخيال الجميل وهو يرسم لنا أبداعاً حقيقياً يستحق التقدير والثناء .
رابعاً : الأيحاء : يستطيع الشاعر الحاذق ان يستخدم الإيحاء بطريقة ابداعية يعبّر فيه عن مواقفه النفسية , كونه من العناصر المهمة في بناء القصيدة فهو يلعب دورا مهما في عملية الابداع ويمنحها العمق والتأثير لدى المتلقي . فالإيحاء يستخدم للتأثير في ذهن المتلقي بفكرة معينة , وكلّما كان الايحاء قوّيا ازداد تأثيره , لذا لابدّ ان يتقن الشاعر طريقة يحدث فيها تأثيرا ايجابيا يرسم من خلاله صورا تتزاحم في ذهن المتلقي وتثير انتباهه وهذا ما يسعى اليه الشعر . وهناك طرق يستخدمها الشاعر في الايحاء عند المتلقي , فاما يكون عن طريق المفردة التي تدخل في النسيج الشعري , او عن طريق الصورة الغريبة والمثيرة , او عن طريق الالوان التي يستخدمها في داخل هذا النسيج , وكل واحدة ستؤثّر حتما على حواس المتلقي وتثير دهشته . ونستطيع ملاحقة هذا الأيحاء في كتابات الشاعرة , فمثلاً نقرأ / حقائب الرحيل / في الزمن الهلامي سيبقى التائه معلقا بين الضباب و غبش المرايا وحيدا سيهوي بغتة من السماء الاربعين الى ما تحت العدم منتكبا ساريات الوقت الهشة ليتأرجح بين بروق البدايات و عبث النهاية... / وكذلك في / حلم باسق التحليق / حلم يستفز شساعة الافق يمتهن التحليق يعوم فوق ينابيع العواطف يطأ جزرا هاجعة الصمت ليّنا يرتب اصطفاف النجوم يفترش حقول الضباب يترك العطر يعانق روافد القصيد و بين اجنحة الكلمات تختبيء اغوار اللهفة يمطر صباحات تتدفأ بشموس اللذة في منافي الخلوة / . وعلى المتلقي ان يكون متلقياً مبداعاً ليستلذّ بكل هذا الخيال الذي يعص الأحاطة به في هذه القراءة .
خامساً : الأنزياح : انتابَني شعورٌ عميقٌ ورهبةٌ مِن لغةِ هذا الدّيوانِ؛ لغةٌ غريبةٌ لا تشبهُ لغةَ أهلِ الأرض، حِيكَتْ بطريقةٍ مختلفةٍ، جعلتْني أقفُ مَصعوقًا أمامَ طوفانِها ورهبتِها، لغةٌ عذبةٌ، لكنّها جامحةٌ لا تَنقادُ إليكَ بسهولةٍ، بل تجعلُكَ تقفُ مُتحيّرًا كيفَ تَلِجُ إليها، ومِن أيّ الأبوابِ تدخُلُها، لغةٌ لا يُجيدُها إلّا القليلُ القليلُ ممّنِ اكتشفوا سِرَّ اللّعبةِ، وأجادوا صياغتَها بحِرَفيّةٍ عالية، وسأقتصرُ هنا على الانزياحاتِ اللّغويّةِ في هذا الدّيوان، لِما لها مِن جَماليّةٍ أخّاذةٍ تُقلقُ، وسِحرٍ أنيقٍ يَستفزُّ، ويُثيرانِ الدّهشةَ والتّأمُّلَ والتّأويلَ. إنّها اللّغةُ الشّاذّةُ غيرُ المألوفةِ، تعتمدُ التّحريفَ والإغرابَ، وطغيانَها وتدميرَها لنِظام الواقع. إنّها اللّغةُ الّتي تبتعدُ عنِ الخطابةِ، تتفرّدُ بما تَحملُ مِن طاقاتٍ، وكأنّنا نتلمَّسُ هذهِ المَشاعرَ والأحاسيسَ، ونستنشقُ عبيرَها الطّاغيَ في جوٍّ شاعريٍّ، ونتذوّقُ حلاوتَها . لغةٌ هادئةٌ امتلكتْ مقدرةً على صُنعِ هذا العالمِ الزّاخرِ مِنَ الاضطرابِ، ومَزْجِهِ، وإعادةِ تَدويرِهِ بالسِّحرِ اللّغويّ. في هذا الديوان نجد الكثير من الأنزياحات اللغوية فمثلاً نجد / الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ صورةً شعريّةً جديدةً مُختلفةً عن الواقع، حيثُ نجدُ هنا رسمًا قَوامُهُ الكلماتِ، يمتلكُ إدراكًا حِسّيًّا يَنفُذُ إلى أعماقِ الأشياء، وكأنّه حالةُ استرجاعٍ ذهنيٍّ محسوسٍ / كما في / تعال...نخضر معا / على اغصان اشجارنا الناعمة ظلالها اهتزت تحت سماوات بلورية يسيل من مسامها شهد دامٍ رَبى على ظفائرها قلب نجمة يرتعش كعصفور الشوق ينقرعلى فاكهة الحب الياقوتية / . وكذلك / الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ العاطفة/ فالعاطفةُ هي هذا الكمُّ مِنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ الّتي تنتابُ الشاعرَ في لحظةٍ مُعيّنةٍ، وتُكوّنُ انفعالاتٍ وجدانيّةً، ومن خلالِ القصيدة يُحاولُ التّخلُّصَ منها، وإسقاطَها على الورق، إذ تنبعُ مِن ينابيعِ الرّوحِ البعيدةِ دونَ تَكلُّفٍ أو تزييفٍ , كما في / ذاكرة تشرق بالحنين / هذه الذاكرة تستنهضني اليك علك تذود رمح المسافات العاتية بصولجانك الشّبِق / . وايضاً نقرأ / الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ الأحاسيس/ وهو ردّةُ فِعلٍ لا إراديّةٍ لِما نتأثّرُ بهِ مِنَ المحيطِ الخارجيّ، وهي الّتي تُهفهفُ بأعماقِنا، وتمنحُنا المتعةَ، والشّعورَ بالجَمال، والنّقاءَ والصّدقَ، كما في / تسابيحٌ تُحنِّطُ اليَباب / على حينِ سكينةٍ عن صَخبِ صوت الحَسَرات تَتَرجَّلُ سُنبلاتٌ يابِسات تُفتِّتُ أمانينا المبَرقَشةِ بالشَّبَقِ تَتمغَّطُ على شَمسِ قوسِ قزحٍ تَعْتاشُ غَصّةَ الحِرْمانِ في رياضِ آمادِنا البعيدةِ تبُعثرُ شَمْلَ تسابيحِنا المَهْمورةِ بالرَّجاءِ / . أنّ لغة الديوان هذا ما هي إلاّ لغة تعجّ بمختلف الأنزياحات اللغوية والصورية والشعورية والاحساسية وغيرها .
سادساً : الموسيقى : المفردة في الشعر هي الأداة التي تعبّر عن الصورة والخيال والموسيقى والعواطف والمشاعر داخل النسيج الشعري , وتنقل أفكار الشاعر الى المتلقي , فالجملة الشعرية مثلا تتكون من مفردات / حرف أسم / فعل / , وكلّما تآزرت مع بعضها اعطتنا صورة واضحة المعالم تدهشنا بجماليتها وخيالها الخصب وتدغدغ مشاعرنا وأحاسيسنا وتطربنا بموسيقاها . ان اللغة السردية التعبيرية منحت الشاعر فضاء شاسعا وفسحة كبيرة لأستثمار طاقاتها , ومنحته ايضا زخما شعوريا قويّا وكذلك ايقاعا موسيقيّا تطرب له الاذن والنفس . انّ كل مفردة في القصيدة السردية تمتلك جرسا ورنينا يستطيع الشاعر من خلال اختياره الصحيح للمفردة وقوة رنينها وموسيقيتها ومجاورتها للمفردة الاخرى وتآلف الالفاظ مع بعضها ان يشكّل منها مقطوعة موسيقة داخل القصيدة , وكذلك المفردات مع بعضها في نفس المقطع بامكانها ان تعطينا موسيقى خاصة بهذا المقطع , وهكذا في مجاورة المقاطع مع بعضها وانسجامها وتنافرها اذا لم تكن متكلفة سوف تسمع الاذن انغاما تنبعث من داخل القصيدة . وكلما كان الشاعر حاذقا في اختيار المفردة ذات الجرس الموسيقى وعمل على حذف المفردة البائسة موسيقيا والتى لا تحمل جرسا معينا كانت الموسيقى صافية وواضحة وساحرة تنبعث من القلب وتدخل الى القلب نتحسّسها ونشعر برطوبتها وهي تغمرنا بفيض من المتعة والدهشة . نفس المفردة في المقطع الواحد من القصيدة تستطيع ان تبعث في اعماقنا موسيقى خاصة عن طريق ما توحي اليه من معنى , فمثلاً نقرأ في نصّ / امنياتٌ مؤجّلة / هذه اللغة الناعمة والموحية بالموسيقى الهادئة المترقرقة من خلال مفراداتها كـ مفردة / ينابيع الأحلام / نستشعر من خلالها عذوبة الموسيقى الموحية , وكذلك مفردة / تهذي / تمطر / لا تلبث أن تعلو هذه الموسيقى من خلال مفردة / البنادق / المدافع / وكأنّ الشاعرة تعزف موسيقاها باوتار رقيقة ثم تستفزّنا باصوات عالية , وكأنّنا أمام نسيج موسيقي تتناغم فيه الأصوات بينها علاقة تمتزج في نغماته بطريقة تثير في المتلقي هزّة موسيقية موحية تنسجم ووقع المفردة الموحية . وفي نصّ آخر نجد أستخدام الرمز التأريخي والظرف الزماني والمكاني وقد ولّدا لنا حركة زمنكانية أوحت بموسيقى أنبعثت في داخل النفس وحرّكت المشاعر العميقة , كما في نصّ / قلاعها ترقب بيارق الفتح / فيبدأ النصّ ../ كـ سور عكّا لن يزعزها ندف صليات نابليون الهارمة على شطوط وجد تعمد الحنين تهمس له بظلمات الفقد تطلق أجنحة أمنيات تتوارى خلف حشود مواثيق منحوتة على جيد حصونها ../ , لقد استطاعت مفردات هذا النصّ ان تنقل لنا عمّا يجول من هواجس وأفكار , وان تخلق لنا موسيقى قادرة ان نستشعرها بعدما أستخدمت الزمن الماضي وأثارت صورها الشعرية وتآلفها مع بعضها إيقاعاً حسّياً يتملّكنا كلّما تعمّقنا في خفايا القصيدة . ونجد ذلك متمثّلاً ايضا في نصّ / بُراق في البيت العتيق / .
سابعاً : الرساليّة : الأدب رسالة انسانيّة , والرساليّة مهمة في الشعر وقد تكون رسالة جماليّة فنيّة أو رسالة اجتماعية , فالرسالة الجمالية الفنية تعني الغوص في تجربة الشاعر عميقا بينما الرسالية الأجتماعية تعني كل ما يكون خلف النصّ من رسائل وبوح . في هذا الديوان نجد الكثير من النصوص تشهد بهذه الرسالية التي أستطاعت الشاعرة أن ترسمها لنا بوضوح , فمثلا نجد هذه الرسالية في / في لجوء المخيّم ... يدوّي انين العودة / فها هي تقول ../ حين تمرّ أمام منازل ألتحفت غبار النكبة , تحيض أزقّتها رُفات نكوص أمّة تسلّقت سلالم التشرّد , أو تلتقي عجو زاً حفرت النكسة اخاديدها على مُحياها , تفوح من الحاظها رائحة البيارات تامسلوبة ..../ , وفي نصّ / جُرف سلاحف هتلر / عندما أشتهت سلاحف هتلر الزحف الى عزّة كانت قد عبدت مسالكها بطاغوت الكرهية ماسخة كرامة العمامات المنشغلة بمباراة مانشستر ../ , وفي نصّ / أستغاثاتك جمرات تعمّدها آيات الرباط / نقرأ ../ فلسطين أيّتها الغارقة في كبرياء الذاكرة عطاياك لا يسدّد فواتيرها إلاّ حنظل الفتنة حزناً نما في طينك خصّب صراخك المكبوت وهاهم أولاد السلطان يقرعون حلق الجائعين بـ عصى الجمرات فساداً .../ , وكذلك نقرأ في نصّ / وطن نسكنه / منذ ان أزهرت عروقي على وجه الأرض وانا أفتّش في سرير هذا العالم عن وطن يزمّلني .../ . نلاحظ في هذه النصوص بصورة خاصة والديوان بصورة عامة غربة الذات الشاعرة وتشظّيها نتيجة فقدان الوطن , أنّه الواقع المرير والمؤلم حينما يُفقد الوطن ويفقد ملامح الجمال والهيبة والبهاء والسلام , وتخيّم في ربوعه الخفافيش والرصاص والمجنزرات والعقم والخواء , بينما اللصوص ينتشرون على خارطته مزّيفون في كلّ شيء , يلبسون ثياب الخداع الجميلة , حتى شوارع الوطن تفقد الحياة بسبب هذا الواقع المزري .
ثامناً : توهّج المشهد الشعري : أنّ الشاعرة اجادت صناعة المشهد الشعريّ المتحرك أيّما أجادة , وهذا يتطلب إستحضار وتداخل الأزمنة والأمكنة وشحنها بالمزيد من المشاعر المتأججة , يحتاج الى وعيّ متّقد يسبح في خيال خصب منتج ذكيّ يعرف كيف يصيغ المقطع الشعري واين يضع المفردات ويصبغها بضربات رشيقة تبهر وتستفزّ وتنشتل المتلقي من الواقع وتأخذه الى واقع آخر يجد فيه المتعة النفسية ويتلمظ اللذّة الأبداعية . هذا المقطع سيكون موجزا مركّزا مرمّزاً مكثّفا يمتلك من المقدرة ما يحرّك به وعي المتلقي وينفذ في العمق الأنساني , فكلما تحرّرت مخيلة الذات الشاعرة عن قيود الزمن وابتعدت عن السطحية والمباشرة وجنحت الى ما هو غير مألوف ومعتاد , امتلك النسيج الشعري إضاءات وتوهّجات ودلالات تجعله ينفتح على تأويلات متعددة . انَ السياحة في ديوان الشاعرة الفلسطينية : رحمة عنّاب انّما هي سياحة او نزهة بين جمالية اللغة وصدق المشاعر وجموح الخيال , وهي ايضا ترنيمات إنثوية يدثّرها صراع نفسيّ يرقد على منابع من العواطف والحرمان والجمال النقيّ . جميع نصوص الديوان خير دليل على توهّج المشاهد الشعرية لدى الشاعرة , فمثلاً نختار هذه المشاهد الشعرية المتوهّجة في نصّ / ذاكرة تشرق بالحنين / .. هذه الذاكرة تستنهضني إليك علّك تذود رمح المسافات بصولجانك الشبق / , وكذلك في نصّ / حلم باسق التحليق ../ حلم يستفزّ شساعة الأفق يمتهن التحليق يعوم فوق ينابيع العواطف يطأ جزراً هاجعة الصمت ليّناً يرتّب إصطفاف النجوم ../ , نستشفُ من خلال هذه النصوص وغيرها ما تحمله من ذات مشتعلة بالعواطف وصوت شعري أنثوي رقيق يستطيع صناعة المقطع الشعري بصور تتوالد لا ينتابها الترهّل أو الخمول وينفذ عميقا في النفس ويجعل المتلقي يقف عندها منبهراً , مقاطع تمتلك سرّ الأيجاز والتركيز , لقد استطاعت الشاعرة أن تمسلك بثقة بخيوط لغبة اللغة وطوّعتها في محاولة لأثارة مشاعر المتلقي وان تُلهب وجدانه في لغة يغلب عليها هذا الصفاء الروحي مما أنعكس على لغتها فجاءت صافية كأنّها الينبوع العذب .
تاسعاً : حضور الذات والذات الأخرى : انّ المعرفة اليقينية بفداحة وقسوة هذا الغياب يتطلب المعرفة الواضحة به والاحساس و التعايش معه والحضور الفعلي والحقيقي والوجداني عند الشاعرة , يبدو بانّ هذا الغياب امتدّ منذ مرحلة الطفولة الى مرحلة النضوج الفكري , فصار أكثر ايلاما وقسوة ووحشية في النفس , وكان يؤرّقها ويطاردها أنّى كانت وتكون هذا الواقع بسبب الصلة الوثيقة فيما بينهما . هذا الحضور واستيقاظ الحواس وحرارة المشاعر زاد من المعانات فكان النصّ عبارة عن كتلة متوهّجة من المشاعر الصادقة , فتخلّت الالفاظ عن نقل المعنى واصبحت وظيفتها نقل الاحساس , فهنا نحن نرى هذه الاحاسيس والمشاعر ونتلمس طراوتها وهي تبلّلنا بفيض نداوتها وعطرها , ومن خلالها اصبحنا نستشفّ قوة المفردة وسطوة المعاني وحركية المشاعر والاحاسيس . ان الكتابة والانطلاق بها من اعماق النفس يتجلّى في لغة متوهّجة لا يحدث هذا الاّ باستيقاظ الحواس / الشمّيّة / اللمسيّة / السمعيّة / الذوقيّة / والبصريّة . اننا امام لغة قادمة مما وراء الحلم المستيقظ تزيح عن كاهلها تراكم رماد السطحية والتكرار , لغة صادمة سريعة الايقاع والحركة والصورة . لغة قادمة من القلب نقيّة وصافية عبّرت كلماتها بوضوع لا يتسرّب اليها الترهّل او الغموض عن الذات الشاعرة . ان الغربة التي يعيشها الانسان / الشاعرة / وحالة الفقد والشعور بالاانتماء الى وطن واستمرار حالة اللاوطن منذ الطفولة جعلت فكرة النصّ يمتلأ بها الذهن فتمثّلها القلب صورا مشحونة بالعواطف والحرمان تملّكته حدّ الانفجار فكانت اللغة هي السبيل الوحيد للتنفيس عمّا يعتريها من الألم والوحشة والغربة . نجد هذه الذات حاضرة وبقّوة في نصّ / سرمديّة الزيتون تنعش القناديل / , من خلال العنوان / وراء هذا الغموض تتكورُ قناديلي راعشة / هناك صرخة مكبوتة حاولت الشاعرة ان تصرخها بصمت مدوّي لتصل الى ابعد مدى , صرخة مبحوحة على وطن ظلّ بعيدا عنّها كل هذا الزمن , ماأحوجها اليوم اليه بعد ان تيقّنت حضوره الملحّ بعد كل هذه السنين المريرة من الضياع , صرخة تفضحها قناديلها / سنوات عمرها / بعد ان اصابها اليأس وترآى امام احلامها قنوط وخيبة في تحقيق ولو بعض احلامها المستباحة امام الطغيان والقسوة والمجهول . مازالت بعد كل هذا العناء والخيبة تحلم ان يهبها / الوطن / حق اللجوء اليه تتنفّس تحت جناحيه عطر ارضه وتنستنشق عبير عشقه وترتمي بكل قوة وحرية بين احضانه تنعم بالدفء والامان وتستكين الروح عند اللقاء / هبني جنان اللجوء تحت عطر جبّتك / انه البحث عن الجنّة المفقودة في هذا الوطن البعيد / زمنيا / مكانيا / الوطن الحافل بالمجد والجمال والحبّ . مهما حاولت أطيافه الهروب من مخيلتها خوفا من طغيان هذا العشق والانتماء والتوحّد معه ستظلّ عذبة رقراقة ستقتفي آثارها مرغمة تتلذذ برحيقها , انه التولّه والتماهي مع الذات الاخرى / فاطيافك الهاربة خيفةَ عتوّ طغياني اقتفيها بسلاسة فراتها عذب اتلذذ رحيقها / . انها لغة الحلم المستمر والدائم في حضوره القوي داخل النصّ ولغة مشبعة بالانزياحات وانسنة الطبيعة واضفاء الصبغة الانسانية عليها , / كلما راودت نوافذي ضحكاتها تنسج المواعيد رهافةً / .. نجد هنا الدقّة والحرص الشديد على تصوير اللحظة بكل تفاصيلها وعدم ترك ثغرات في الجملة اللغوية وكما في باقي الجمل والتركيز العالي وضغط المقاطع والتخلّص من النفايات في النصّ , فالاطياف هنا اخذت صفة الأنسنة وصارت متحركة ضاحكة تنسج التواريخ السعيدة الرقيقة ينفذ الضياء روح الشاعرة بعدما فتحت نوافذ ايامها تطلبها . / لأغرق في عباءة حكاياتك المعتقة ../ محاولة التطهّر من الوجع والارتماء باحضان الوطن الموعود والاستغراق والتمرّغ والاستكانة تحت ظلّه , / تؤنس ساعاتنا الحمئة نغفو على غيمة بهاء السحر ../ محاولة الاستئناس واطفاء اللحظات المستعرة بسبب الشوق العارم والحاجة الملحّة والشعور بسحر الوطن والاستغراق في عالمه المنتظر , / حتى احلامي تسكنها اضغاثك واشية ما يعتريك جنونا دفينا ../ انه الحضور المستمر والمتكررمن خلال صور الوطن المشوّشة نتيجة البُعد وعدم تحقيق الوصول اليه واللقاء , فاحلام الشاعرة تسكنها احلامه المضطربة التي لا يمكن تأويلها وفتح مغاليقها . هكذا يستمر النصّ في بناءاته الشعورية والحسيّة واللغوية على نسق واحد وربما يتصاعد ايقاع اللغة بطريقة مدهشة , نكتفي بما أوردناه من تفكيك واشارة ونترك البقية للمتلقي يكتشف أسرار النصّ ويتعامل معه وعليه ان يمتلك خيالا يوازي خيال الشاعرة كي يجد المتعة والانبهار ويعيش اجواء النصّ . ان هذا الفزع المخيف من المجهول والقلق والضياع والغربة والتدهور ما كان ان يكون جميلا لولا التعمّق الذاتي بالمحنة وهذه المساحة الواسعة من السرد التعبيري التي منحتها منهجية القصيدة السردية التعبيرية وخصائصها وطريقة كتابتها فحوّلت هذا الخراب الى فرح هادىء ملأ النفس بكل هذا الشعور والدهشة والجمال .
هنا نتساءل هل كانت هذه الاحاسيس والمشاعر وهذا الخيال العاصف حقيقية ام مجرد لحظة فنتازيا لعبتها ومرّرتها علينا الشاعرة في هذا النصّ ..؟ .
الجواب عن ذلك انّ مجرد التفكير بالمحنة يدلّ يقينيا على وجودها وحدوثها واستمراريتها , اذا كان هذا واقعا ملموسا , ربما كانت المعاناة أخفّ وطأة على ذاتها فيما مضى وانها كانت في سبات , لكنها اليوم استفاقت من جديد واصبحت وطأتها أكثر ايلاما وقسوة لكثرة التفكير فيها اثناء اليقضة واثناء النوم ومداهمتها حتى عن طريق الاحلام , انها حالة الوعي الوجداني والتيقّن بحدوث كل هذا , ان كثرة التفكير بالواقع المؤلم حرّك جميع المشاعر والاحاسيس والانفعالات لدى الشاعرة فاصبحت أكثر تأملا فيما حدث ويحدث , وسيطر عليها ولم تتمكن من الخلاص من قسوة الواقع الاّ بهذا البوح العميق علّ ذاتها تهدأ , انها لحظة اليقين والنظر ببصيرة لاتقبل الشكّ بان ما يحدث حالة يقين صادقة .
عاشراً : اللغة المتموّجة : إنّ من أهم مميّزات اللغة المتموّجة في السردية التعبيرية هو التناوب ما بين مفردات وتراكيب توصيلية واخرى مجازية انزياحيّة يجعلها لغة متوهّجة تنفذ الى أعماق النفس الأنسانية وتحافظ على جماليتها ورساليتها وفنيتها العالية لأنها لغة تعتمد على الخيال والواقعية , ان السردية التعبيرية استطاعت ان تخضع المجاز والأنزياح الى الواقعية والحقيقية , انّها الجمع ما بين الألفة واللاألفة والجمع ما بين بين الخيال والواقع , وهذا ما تجلّى في ديوان الشاعرة : رحمة عناب . لقد استطاعت الشاعرة أن يمتلك خيالا وخيالا ابداعيا شاسعا يستطيع من خلاله تطويع الواقع وتصويره كيفما يريد , وأجادت سرّ اللغة الجانحة والمتكئة على فضاءات بعيدة وكذلك الأنزياحات اللغوية , فهي ترسم لنا واقعا جديدا مخالفا للواقع الحقيقي ويأخذنا معه بعيدا تمطرنا لغتها برذاذها وعفويتها ورقّتها . لابدّ أن تكون لغة الشاعر بعيدة جدا عن التقريرية واللغة الشاسعة والمتداولة , لغة غير مألوفة تعبّر عن الحركية والديمومة والحياة حتى تكون لغة أدبية تستفزّ المتلقي وتبعث في نفسه النشوة والدهشة والحيرة . نجد الكثير من هذه اللغة في ديوان الشاعرة , فمثلاً في نصّ / ضجيجٌ على مقعد خشبيّ / , العنوان هو عبارة عن لغة متموّجة ما بين التوصيلية والانزياحية , فهي تقول / واخترتُ أن أمشي وهو منشغلٌ بموسيقاه – هذه جملة توصيلية , لحنها لن ينتهي الى ما بعد المكان – جملة أنزياحيّة , في ليلة ضبابية بلا أقمار – جلة توصيلية , مصطنعة الضوء – انزياحيّة , يلسعني نسيم بارد – جملة توصيلية , إلاّ من الضجيج – جملة أنزياحية , وفي نصّ آخر بعنوان / أقنعة / .. الأزهار كانت – جملة توصيلية ’ لمّا تزل تتناسل في ثغر الأرض تطفو على تجاعيد – جملة أنزياحية , رزنامة السنين – جملة توصيلية , والشمس تنبعث من شفاه الحكايات القديمة – لغة أزياحية .
وختاماً فأنّ المتلقي سيجد في هذا الديوان كلّ ملامح السرديّة التعبيرية متداخلة فيما بينها في أغلب النصوص , سيجد الكُتل التعبيرية المدهشة والبناء الجملي المتواصل الفذ بحيث أغلب النصوص جاءت على شكل فقرة نصّية واحدة محكمة البناء , سيجد الخيال الجامح والموسيقى الهارمونية والصور الشعرية واللغة الهامسة واللغة القاموسية , سيجد لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي والتوافق النثروشعري واللغة التجريدية واللغة التعبيرية , وسيجد الرسالية واضحة ومتجلّية , رسالة فنيّة واجتماعية , كل ذلك ببوح توصلي عميق ووقعنة للخيال .
أنّ هذا الديوان ما هو إلاّ عبارة عن منجم لغوي ثري وابداع حقيقي سيكون له الأثر الواضح في مستقبل الشاعرة , و اضافة عظيمة للقصيدة السرديّة التعبيرية .
0 comments:
إرسال تعليق