"رفاق غربتي الطويلة بإمكاني أن أعدّهم على أصابعي إذ ليس كلّ من تعرّفت عليه أو التقيته أو تعاملت معه أو كتب عنّي أو كتبت عنه يكون من رفاق دربي، وبين هذه القلّة تشعّ ابتسامة أخي شوقي مسلماني".
هذا ما كتبته عن صديق غربتي الطويلة الاستاذ الشاعر شوقي مسلماني في مقال تناولت فيه كتابه "كونين لطائف وطرائف" الذي جمع فيه ابتسامة وحكمة أبناء قريته الجنوبية الشامخة "كونين".
"وشوقي.. بجمعه لهذه النوادر كان جريئاً وصادقاً لأبعد حدّ، كونه يعيش في بلاد تخطّت ثقافتها المحجوب من الكلام وأصبح كل شيء عندها حلال، ولهذا شدّني أسلوبه السلس، المرح، الى قراءة الكتاب مرّة ثانية.. وأتمنّى أن يحذو البعض حذو شوقي مسلماني ويحفظوا نوادر وطرائف أهالي قراهم كما حفظها هو، فلقد كان السبّاق الى ذلك وما علينا سوى التشبّه به".
ولشوقي العديد من الكتب، أذكر منها: "على طريق بعيد" ـ 1991، "حصار الدائرة" ـ 1992، "أوراق العزلة" ـ 1995، "حيث الذئب" ـ 2002، "من نزع وجه الوردة" ـ 2007، "لكل مسافة سكّان أصليون" ـ 2009، "أحمرة وحمرات" ـ 2010، "محور مائل" ـ 2011، "قبل الموجة التالية" ـ 2012، "كونين لطائف وطرائف" ـ 2013.
ومن الغبن حقاً أن نعتقد أن المؤلّفات التي ذكرت هي كلّ ما أنعم به شوقي على أدبنا المهجري في أستراليا، لأنّ المقالات التي نزفها قلمه أيضاً، على صفحتنا الإغترابيّة، لو جمعها لزيّنت كتباً كثيرة.
ومن منّا لا يعلم ما لشوقي من أياد بيضاء على إعلامنا المهجري، فلقد كتب وما زال يكتب مقالات اسبوعيّة رائعة في العديد من الصحف والمجلاّت الورقيّة والألكترونيّة، هنا، وفي الخارج، ومن ضمنها موقع "الغربة".
وعندما منحتني الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم لقب أمير الشعراء اللبنانيين في بلاد الانتشار قامت قيامة البعض عليّ ولم تقعد إلا عندما تدخّل قلم شوقي المشرق، لينهي الموضوع لصالحي طبعاً، فلقد نشر في مجلّة "أميرة" الفنيّة والأدبيّة والثقافيّة والإجتماعيّة التي كان يرأس تحريرها استفتاءً مذهلاً حول إمارتي الشعرية، كتبت على أثره مقالاً أقتطع منه الآتي:
"الإستفتاء الذي أجراه رئيس تحرير مجلّة "أميرة" الصديق الشاعر شوقي مسلماني حول إمارتي الأدبيّة كان رائعاً شكلاً ومضموناً.. وبعيداً كل البعد عن "فلسفتنا" (مسّحلي تا مسّحلك).. إذ أنه اختار أناساً لا أعرفهم ولـم ألتقِ بهم أو ألقِ عليهم ولو تحيّة عابرة". وبعد أن أوجّه تحيتي وشكري الى جميع الشرفاء الذين استفتاهم، أختم مقالي بهذه العبارة الصادرة من القلب:
"وأخيراً.. إلى الوفي الأكبر شوقي مسلماني أقول: عندما استلمت مجلّة (أميرة) ووجدت صورتي على الغلاف الملوّن لـم أفاجأ أبداً، لأنني أعرف معدنك. ولكنني همست لنفسي وأنا أتطلّع بإخراج الغلاف الرائع: مسكين شوقي، سيكون أوّل سؤال يوجّه إليه: كم دفع لك شربل بعيني لتبرزه هذه البرزة التاريخيّة. أنا أعرف جوابك يا شوقي، أعرفه جيّداً، فلا تحبسه في قلبك، أطلقه في الريح ليتعلّم الآخرون كيف تكون الصداقة والوفاء. أحبك".
وإن أنسى لا أنسى تلك الحادثة الطريفة التي وقعت لي مع شوقي أثناء الحرب اللبنانية اللئيمة، البشعة، أي قبل عقود أراد أن يصالحني مع أحد الذين سرقوا قصائدي ونشروها بإسمهم، فأتى به إلى منزلي في ساعة متأخّرة من الليل، ظنّاً أنّي لا أزال سهراناً، ليبدي أسفه أمامي.
والمضحك في القصّة أن والدتي، رحمها اللـه، طلبت منّي عدم فتح الباب، لأن الحالة الأمنيّة في لبنان كانت متوتّرة، ومن يدري فقد أتعرّض للإغتيال، فصحت وأنا أمترس خلف الحائط:
ـ "من هذا"؟. \ ـ "شوقي". \ ـ "شوقي مَنْ"؟!. \ ـ "شوقي مسلماني"!.
فضحكت وضحكت والدتي التي كانت تحمل بيدها عصاة المكنسة، واستقبلنا شوقي وصحبه أجمل استقبال وأرجلنا، سامحه الله، ما زالت ترتجف من الخوف.
لقد كتبت الكثير عن شوقي، شعراً ونثراً، ولكنّ الأبيات التي ما زلت أردّدها تلك التي ألقيتها في ندوة رابطة إحياء التراث العربي حول مؤلفاتي عام 1986، فلقد قلت: "وِالْمِسِلْمَانِي.. الأَيَّامْ \ رَحْ بِتْرَدِّدْ أَقْوَالُو \ ما بْيِرْضَى الْعِينَيْن تْنَامْ \ وْشَعْبُو عَمْ يِتْقَاتَلْ هَيْكْ \ وْيَاكُلْ مِنْ لَحْم طْفَالُو".
ما أجمل أن يلتقي الانسان في غربته إنساناً آخر يعرف كيف يخفّف عنه الألم، وقد التقيت، والحمد لله، بأشرف الناس وأحبّهم الى قلبي، ذاك الذي لم يتغيّر ولم يتلوّن ولم يشكّك أبداً بصداقتي ومحبّتي له، إنه ابن الجنوب اللبناني البار، ابن بلدة كونين البطلة، أخي وصديقي شوقي مسلماني.
0 comments:
إرسال تعليق