السبت: 5/6/2021
أسعدت أوقاتاً أيتها الحبيبة الرائعة، أنتِ هناك وأنا هنا، يا لهذين الظرفين المتناقضين. أكاد أصدق أنهما ليسا نقيضين، وقد أثبتت الأحداث أنهما ليسا نقيضين. اليوم هو ذكرى النكسة، ذكرى هزيمة حزيران، هذه الهزيمة المذلة إلى درجة الخزي التاريخي المزلزل الذي أسقط العرب وتاريخ العرب في حمأة طين لم يفلحوا إلى الآن من التخلص منها، بل إن النظام العربي الرسمي المتعاون مع الدول الكبرى والدلوعة "إسرائيل" إلى حد العبودية يغوص أكثر وأكثر في وحول الهزيمة يوميّاً، لا يقف الأمر على التطبيع العلني، ثمة ما هو مخفي أشد جُرماً، ولم تفلح مسرحيات الأنظمة والميلشيات التابعة لها مهما أحرزت من "نصر" أن تمسح عارا واحدا مركباً من هزيمتين اثنتين في غضون تسعة عشر عاماً. يا إلهي، ما أصدق نزار قباني! فهم من نصف قرنٍ لم يُرجعوا زيتونة أو برتقالة، ولم يمسحوا عن التاريخ عاره، ولن يفعلوها صدقيني، لقد نُصّبوا ليناصبونا العداء، وليخدموا أعداءنا.
لا أخفيك أنني أشعر بالحزن والغضب والرغبة في الانتقام من هؤلاء جميعاً، كلما تذكرت أنني أعيش تحت الاحتلال، ولا أستطيع مثلا أن أتنقل في وطني دون هاجس جندي أو مجندة يوقفني على حاجز طيّار أو ثابت. الجنود صاروا أكثر شراسة واستعداداً؛ إنهم دائمو التصويب علينا من النقطة التي نطل فيها على الحواجز حيث تربض بنادقهم النهمة الباحثة عن فريستها لتزجّي بها وقت الفراغ والملل على الحواجز، تظل فوهة البندقة مصوبة على أفئدتنا ورؤسنا حتى نمر عنهم ونتجاوزهم. تصوري أنه ممنوع عليك أن تشير بيدك، أو أن تستعمل هاتفك، أو أن تنظر إليهم، عليك أن تمر عن الحاجز وكأنك صنم. إننا بالفعل أصنامٌ لا تهشّ ولا تنشّ، ولا يحق لك أن تبتسم، لأنك ستعرض نفسك ومن معك في السيارة إلى الانتقام المباشر، إذا ما تحرك الحسّ الأمنيّ لهذا الجندي المتربص بحياتنا. ما هي إلا صلية رصاص واحدة يفرغها في أجسادنا وينتهي أمرنا، لنصبح خبراً في شريط أنباء العواجل الفضائية. يا له من مصير أسود متوقع كل يوم، كلما مررنا عن حاجز ملعون!
أرأيتِ مفاسد النظام العربي والسلطة الفلسطينية؟ جعلونا مجرد كائنات لا قيمة لها. إننا أرخص من "فشقة"، هذا وضع محزن جدا، ويفقد المرء الإحساس بقيمته، يدفع العاقل فينا أن ينتحر، هل سمعتِ كما سمعتُ أن الشاعر تميم البرغوثي قد حاول الانتحار ولولا ابن خالته لصار خبرا عاجلاً، لم أرَ ذلك في الأخبار، قرأته في منشورات الفيسبوك أمس، وعثرت اليوم صباحا على ما كتبه تميم نفسه على صفحته في الفيسبوك. إنه يبدو حزيناً جدا ومرهقا كما قال، والذي لا يفهم مما كتبه: كيف يشعر باليأس فينتحر، ويطالب قراءه ألا ييأسوا ويواصلوا مشوار الحياة؟ كان الأولى به أن ينصح نفسه، أليس كذلك؟ ثمة تناقض عجيب عند هذا المنتحر. رسائل المنتحرين الحقيقيين لا تكون بهذه الكيفية. هكذا أتصوّر.
بدا لي الأمر غير مهمّ بعد أن قرأت ما كتبه. على أيّ حال، لقد انتحر قبله وحاول ذلك كثيرون بسبب سوء الأحوال السياسية الضاغطة، كخليل حاوي وتيسير السبول. إن العاقل العاجز أفضل له أن يموت من أن يعيش الذل يوميّاً. لقد سبق وقلت لك إن الشخص المنتحر شخص شجاع، إننا نحن الجبناء. لعلك اطلعت على مقالتي حول الانتحار، وقد نشرتها قبل مدة في صحيفة الرأي الأردنية. ولو عدت إلى قراءتي لرسائل المنتحرين كما وُجدت بعد انتحارهم لعرفت حقيقة خبر انتحار تميم البرغوثي. على كلّ، الحياة ليست بحاجة أحد مهما كان، نحن الذين بحاجتها، ولذلك علينا أن نقاوم.
وها أنا أقاوم رغما عن كل البؤس الذي نحياه. هذان اليومان مزدحمان بالنشاطات. الجمعة، كان هناك حفل توقيع دعيت لحضوره عبر زوم، وهذا اليوم، استئناف لبرنامج "أسرى يكتبون"، بلقاء يبثّ من عمّان حول كتاب لأسيرة محررة. من المتوقع أن أشارك فيه بمداخلة ثانوية حول "الأسيرات الكاتبات". الفكرة في رأسي منذ مدة، ولم أكتبها، لكنها حاضرة وجاهزة للكتابة. كما أنني دعيت لأمسية شعرية عبر الزوم أيضاً تحت عنوان "غزة وفصل الخطاب".
أعجبني العنوان الذي يؤطر الأمسية، عدا أن الدعوة بحد ذاتها مهمة بالنسبة لي، وتثير فيّ ذكريات جميلة، وتعيدني إلى الوراء أكثر من خمس وعشرين سنة، حيث كنت منذ بداياتي في الكتابة منضويا تحت عباءة "الإسلاميين"، وكنت واحدا من شعراء رابطة أدباء بيت المقدس التي اشتركت في كثير من اجتماعاتها في مدينة نابلس. هذه الرابطة هي المنظم لهذه الأمسية التي سيشترك فيها شعراء آخرون وشاعرة واحدة فقط.
هذه الدعوة آتية من هذه الرابطة التي ساهمت أواخر التسعينيات في تأسيسها مع الصديق الشاعر رمضان عمر، والمحاضر في جامعة النجاح آنذاك المرحوم الدكتور جبر خضير، وآخرون بالطبع. هناك تعرفت على شعراء الحركة الإسلامية وكتّابها ومجلاتها وصحفها، وكنت واحدا من هؤلاء الكتّاب، ونشرت في منابرهم الورقية وكان من أهمها صحيفة الرسالة، إذ كانت الصحيفة قد نشرت لي أول النصوص منذ زمن بعيد قبل شيوع البريد الإلكتروني، وأذكر أنني بعثت القصيدة من خلال "الفاكس" بخط اليد، ولم تكن واضحة بما يكفي، فنشروا في الصحيفة في صفحة "الثقافة" ما يشبه الإعلان أن عليّ أن أرسل القصيدة واضحة مرة أخرى، وهكذا كان، ونُشرت في العدد القادم بتعديل طفيف أذهب شيئاً من مضمونها، كان ذلك في أواسط التسعينيات على ما أعتقد.
عليّ الاعتراف يا عزيزتي أن تلك المنابر هي التي صنعتني، وكرّست اسمي كاتباً فلسطينيا، فصحيفة الرسالة التي تصدر من غزة، وكانت توزع في الضفة أيضا إلى أن منعتها السلطة بعد أحداث 2007. واظبت على النشر فيها، وكنت أتابعها أسبوعيا، من خلال الموقع الإلكتروني، وألتقط منشوراتي فيها باستمرار، إلى أن حجبت السلطة أيضا الموقع في الضفة، فلم يعد باستطاعتي متابعة الصحيفة، ولم أدر هل واظبوا هم على النشر لي أم لا، لكنني لم أمتنع عن إرسال موادي الأدبية ومقالتي السياسية لهم حتى الآن.
وبالإضافة إلى صحيفة الرسالة كان هناك أيضا في أم الفحم صحيفة "صوت الحق والحرية"، وكنت دائم الحضور فيها، فلم يكد عدد من أعدادها الذي يصدر صبيحة كل جمعة يخلو من مادة لي، وظلت كذلك إلى أن تم شمعها بالشمع الأحمر بقرار من سلطات الاحتلال، كونها تابعة للحركة الإسلامية، الجناح الذي لا يرضي الاحتلال.
لقد رعتني الحركة الإسلامية رعاية حقيقية، واحتضنتني قبل أن أفكّ الارتباطي بيني وبينهم، ولهذا الأمر قصة أخرى ربما حدثتك عنها لاحقاً. ما يهمني الآن هو أن أدعوك لحضور الأمسية، على الرغم من أنها ستكون "خارج ذائقتك الأدبية"، فأنا أعرف كيف يكتب شعراء الحركة الإسلامية، بل وكيف يفكرون؟ فقد كنت أقرأ "لنا" كل شيء في حينه. ما سيفاجئك ربما أنني أحتفظ من تلك الحقبة في ذاكرة الكتابة الكثير من القصائد، لها سمات "الشعر الإسلامي" الحديث، شعر الفصائلية الإسلامية، أقصد ما يعرف بأدب "الصحوة الإسلامية". وأنّني سأقرأ من تلك القصائد، وليس من قصائد "حداثتي" الشعرية، سأعود كلاسيكيا أيدلوجياً مباشراً، وأحث على القتال، وسأشهر العديد من السيوف، وسأفجر الكثير من القنابل الكلامية.
إنني بالفعل أحنّ إلى نفسي التي كانت يوماً ما هناك، وأحبني حيث كنت "إسلاميا"، وإنني أكره فوضويتي الحالية، وتأرجحي الفكري بين العدمية والضباب. يا ليتني بقيت هناك! أنا اليوم شاعر بلا جماعة، أبني مواقفي كشخص منفرد معزول ومهمل، أقف وحيدا ليس معي غير ذاتي. أود لو كان معي غيري، أو أنني كنت معهم. شيء داخلي يهجس بي إنني ضائع وعديم الفائدة، فالأدب لم ينقذني من عشوائيتي، وجماعة المثقفين مجموعة شلل متناحرة لا يعوّل عليها، فلا أفضل من أن تكون قوياً مع من ينسجم مع أفكارك. أنا جئت إلى وسط ثقافي هو عفِنٌ في مجمله، وليس له شخصية واضحة، سيئ في علاقاته، وفي أفكاره، وفي منطلقاته، بل إنه لا يشكل كلا متجانساً، وليس له أرضية فكرية أو فلسفية يقف عليها، تغلب على أفراده النفعية والانتهازية والأنانية والشللية الضارة، ولا يوجد فيه التكتلات المبنية على الفكر أو التنظير الفلسفي أو النقدي كجماعات أدبية معروفة تركت بصمتها التاريخية، كجماعة الديوان أو أبولو أو أي جماعة أدبية عرفت في تاريخ الأدب شرقا وغرباً. لقد خاب ظني كثيرا فيهم، فحجبت نفسي عنهم، وكرهتهم، ولم أعد أنظر إليهم على أنهم "محترمون". لا حاجة لأقول لك إن هناك شواذّ، لا شكّ، ولكنهم مثلي ضائعون، والضائعون لا يفلحون في تشكيل تكتلات، سيكون مُخرجُهم ضائعاً بلا هدف، وسيحاربون بلا أدنى ريب.
أستمحيك كل العذر في أن تسمعي مني هذا الذي سأقوله أيضا كشاهد على واحدة من خيباتي غير المتوقعة. لقد التزمت منذ شهور على أن يكون لي مقال شهري في صحيفة فلسطينية، بحيث تنشر المادة في الصحيفة أولاً، ثم في الموقع الإلكتروني للصحيفة بعد ذلك، وهكذا تمّ الأمر، وكما تعلمين يطلبون أن تكون المادة حصرية، لقد التزمت، وكنت أرسل لإدارة الصحيفة مقالا لم ينشر سابقاً. وهذا النشر مجانيّ أيضاً، ولكن الصحيفة، هكذا ودون حتى أن تعتذر لم ينشروا المقال الأخير لهذا الشهر، وتفاجأت أنهم نشروا لكتّاب آخرين، كانوا غائبين عنها طوال تلك الفترة التي نشرت فيها، لقد عاد شهر العسل بين الصحيفة وهؤلاء الكتاب على ما يبدو، وأنا أصبحت خارج اللعبة، ببساطة، حتى دون أن تكلف الإدارة نفسها عناء الاعتذار.
ربما تقولين: لماذا على الصحيفة الاعتذار؟ نعم عليها الاعتذار؛ لأنها اتفقت معي لتنشر لي، بشكل رتيب في كل عدد. وعندما يحدث مثل هذا دون إعلام وترك تبرير فالمسألة ساعتئذٍ غير أخلاقية بالمطلق. لقد شعرت بالتفاهة حقاً، تافه إذ ركنت إلى هذا الوسط الثقافيّ العفن التافه.
وهذه الخيبة ليست أولى الخيبات، بل خيباتي كثيرة مع اتحاد الكتاب الفئويّ التوجه والعمل، ومع وزارة الثقافة التي لم تقدم لي شيئا منذ أنشئت وحتى الآن، مثلها في ذلك مثل اتحاد كتابنا الفصائلي البائس، فهؤلاء يتجاوزونني بكل ما أوتوا من بلادة وصفاقة وسخافة. عدا العلاقات هنا وهناك مع آحاد "الأدباء" النفعيين الذين لا يعرفونك إلا إذا كانوا يريدون أن تخدمهم مجاناً، و"رجلك فوقك راسك"، بل عليك أن تشكرهم أيضا، لأنهم أعطوك فرصة أن تخدمهم! عدا الخيبات التي أصبحت تعرفينها من دور النشر. فها هو الوسط الثقافي كله يسبح في محيط من التفاهة والعفن.
فيا لها من خيبات بليغة الرسالة، سياسية، وثقافية، وذاتية. فهل تظنين أننا نعاني من نكسة الخامس من حزيران، أو من نكبة الخامس عشر من أيار فقط. بل إن نكساتنا اليومية أشد ألما وأوجع جرحاً. ولن نكون قادرين على تجاوز النكبتين الكبريين إلا إذا أصبحنا غيرنا الآن. لكل ذلك أحب "الإسلاميين"، وأحنّ إلى عهدهم، فهم لم يخيبوا أملي يوماً، بل إنني أنا الذي خيبت أملهم مرات عديدة، على الرغم من أنني "حسنة" من حسناتهم، فلهم كل الفضل في أنني تجاوزت فقري، فتعلمت، وعملت، وتابعت الكتابة.
عزيزتي، وحبيبة عمري، لقد ثرثرت كثيراً، لذا فإنني معتذر، وأرجو أن تسامحيني على أن أخذت منك وقتاً طويلا في قراءة هذه الرسالة "الحقودة" "الحاقدة" الطويلة، إنها كانت "أغنية في البال" يا حبيبةُ عني وعن البلد، وكان عليّ أن أغنيها. فسامحيني
لك المجد والألق والحب. منتظراً ما تفيضين به عليّ من لغتك وجمال سحر شهيّ سردك الممتع. فلا تجعليني أنتظر كثيراً، "كأن الريح تحتي". لقد سرني جداً حوارنا أمس وإن كان قصيراً، وهذا الدفق من اللغة الحية المكللة بالحب والشوق والقبل التي أغدقت بها عليّ إلى درجة أنك حركتِ كلّ شيء فيّ؛ كأنك معي، بل كأننا في التحام واضطرام وهيام.
أحبّك حتى تنفد اللغةُ من أبجديتها! فها أنا بالانتظار فلا تجعلي الوقت أطول من قدرتي على الاحتمال.
***
الرسالة الثالثة والخمسون
يا ليتكِ كنت معنا
الأحد: 6/6/2021
صباحك السعد ومساؤك الفرح البهيّ، أما بعد:
"وجوه يومئذٍ مسفرة، ضاحكة مستبشرة"، هكذا كنا في الأمسية الشعرية الزومية الليلة الفائتة، كلنا كنا ضاحكين ومبتسمين، حتى تلك الشاعرة المنقبة كنت أرى ابتسامتها هي أيضاً من وراء حجاب. لقد أحزنني أنك لم تحضري الأمسية، ولو من بعيد البعيد، أعرف أن لك مشاغل تجعلك أبعد ما يكون عن مثل هذه الأنشطة، لكنني كنت طماعاً ومشتاقا لحضورك.
كانت ساعة من زمن، ربما زادت قليل دقائق لا أكثر، كان الجميع باسمين مستبشرين، وكيف لا يستبشرون وقد جاءوا محتفلين ومغنين ومنشدين لغزة أبهى قصائدهم؟
ما لفت انتباهي في كل قصائد هذه الليلة أنها كانت قصائد كالوجوه المستبشرة، قصائد فيها الأمل والروح العالية، يكاد يضحك الإيقاع فيها، وتبتسم الصورة والجملة الشعرية، وتركز على الجانب الإنساني من الحرب. صحيح أنها جولة، ولم تنته المعركة، ولكن، كما قيل إنها بداية ويبنى عليها.
لقد خفتَ الصوت العالي، فلم نفجّر قنابل ولم نشهر سيوفاً كما كنت أتوقع، هل تغيّر الشعراء الإسلاميون كما تغيرتُ أنا. ربما، فهم يقرؤون ويتأثرون بلا شك.
كنت أخطط أن أقرأ الكثير من القصائد، كنت أريد أن أعود إلى الوراء لأقرأ قصيدة كتبتها رثاء للشيح أحمد ياسين، رحمه الله، فالمؤسسون لهم الفضل الأول في كل شيء. وأعددت مع قصيدة "الشيخ ياسين" قصائد متعددة من ديوان "مزاج غزة العاصف"، هذا الديوان الذي كتبته أيام حرب عام 2014.
لقد كتبت في هذه الحرب ثلاثة نصوص، شعرت أنها لا تناسب أمسية شعرية كهذه توقعت أن يكون لهذه الأمسية شكل مختلف وإيقاع ناريّ حربجيّ. فعدت من أجل ذلك إلى قراءة ما كتبته عن تلك الحرب في الديوان، وإذا به كأنه يتحدث عن هذه الحرب، فالحرب هي الحرب، مآسيها وويلاتها هي هي، حتى القاموس اللغوي المستخدم إعلاميا وثقافيا هو هو يدور في فلك الحرب ومفرداتها والقتل والدمار والآليات العسكرية بمقابل قاموس فلسطيني عربي إسلامي فيه الثبات والمقاومة والشهادة والشهيد والجريح والبيت المهدوم والطفلة المغتالة والأحلام المهدورة. ناهيك عن مفردات الخطاب السياسي لسياسيين يمارسون البلادة وهم ينظر إلينا ونحن نموت يومياً.
لكل ذلك، يا عزيزتي، قررت أن أقرأ من هذا الديوان وأعددت منه خمس قصائد، ولكنني تفاجأت أن المنظمين قد خصصوا فقط "خمس دقائق" لكل شاعر. يا للإحباط! خمس دقائق، على أي حال وكما قال سيدنا يوسف "فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم". ماذا سيقول الشاعر في خمس دقائق؟ لم أشأ أن أنسحب ولم أفكر بالانسحاب أصلا، لأن مشاركتي في هذه الأمسية يعني لي الشيء الكثير، فألقيت قصيدة "هل رأيت الله؟" هذه القصيدة التي أحبها جدا. إنها لا تبحث في الحرب بقدر ما تبحث في سؤال الحرب، قبل الحرب وأثناءها وبعدها. هذه هي المرة الثانية التي ألقي هذه القصيدة في أمسية شعرية. وأنا في العادة لا أكرر القصائد، فلا أعود لأي قصيدة ألقيتها في أمسية شعرية لألقيها في أمسية أخرى.
لعلك لم تقرئي الديوان يا عزيزتي، وحتى لا أضعك تحت مغبة الشغف والطلب لقراءتها، فستكون مع هذه الرسالة في آخرها. أرجو أن تعجبك، وأن أقرأ لك رسالة حولها، لكن دون أن تتحولي إلى ناقدة، فأنا أشد ما أكره أن تتحول الحبيبة إلى ناقدة. أحبك متذوقة شعري كما تتذوقين القبل، وتستمتعين بالقراءة كاستمتاعك بممارسة الحب في سرير شهوتنا العارمة.
عزيزتي وغاليتي، أرجو أن يأتي يوم ألقي الشعر بين يديك في أي ظرف كان، سواء ونحن معاً في لقاء ما أو حضورا في أمسية شعرية، فأنا أحب أن ألقي الشعر وأنا أنظر إليك، قارئا ملامح وجهك وابتسامتك التي تعطيني النشوة في الشعر والحب والحياة.
أحبك ملهمة لأشعاري، وقارئة لها. وأحبك أكثر وأنت كل جمهوري الذي يستمع إليّ في نشوة وشهوة وجمال.
أترك لك القصيدة بين يديك، متمنيا أن أطبع قبلة على شفتيك فرحاً بهذا الحب الذي يسعدني.
===========
هلْ رأيتَ الله؟!
هل رأيتَ اللهَ يوما هل رأيتَ اللهْ؟
هل رأيت اللهَ لما أسمعَ الأشجارَ صوتَ الآهْ؟
هل رأيت اللهَ لما اللحم مشويُّ الشفاهْ
وتاه عنا في محاجرنا شذاهْ؟
هل رأيت اللهَ لما أشبع الموتى النداءَ
على عطاءِ الطائراتِ
هناك تستجدي الطغاةْ؟
هل رأيتَ اللهَ لما هاجت الريحُ الغضوبةُ
في مداهْ؟
هل رأيت اللهَ فيهم
عندما قتلوا بنا أصلَ الحياةْ؟
هل رأيتَ الله يوما؟ هل رأيتَ اللهْ؟
لستَ محتاجا لرأيِ العينِ
وانظر كي ترى ما لا تراهْ
وانظر تراهم في الجبالِ
وفي السهولِ
وفي البقاعِ
وفي الحلوى
وفي السلوى
وفي قُنِّ الدجاجِ
وفي مناشير الجُناةْ
لستَ مُحتاجا لكي تقرأْ...
سطورا ههنا أو ههناكْ
فلست محتاجا لكل أسطولٍ سواكْ
ولست محتاجا لطيرٍ
فَخّ في خيطُ الشباكْ
لست محتاجا سوى للبيتِ
يحمي رأسك المصلوب في الأفكارِ
من حمم الهلاكْ
واقرأ مَواتكَ جيدا قد تاهَ عنك الآنَ
ما قد تاهْ
فهل رأيت اللهَ يوما
كي تصدق أنه اللهُ الإلهْ؟
كنْ ما تشاءْ..
لكن لا تَفَتَّت في السّفاهْ!
فالله قبل الحربِ..
بعد الحربِ...
عند الحربِ موجودٌ
ووحدك لا تراهْ
فغدوت مسحورا
وتبحث في النجاةِ عن النجاةِ
من الجُناةْ
فلو رأيت الله قبل الحرب
لم تكذب رؤاهْ
ولو رأيت الله عند الحرب
ما عملتْ يداهْ
ولو رأيت الله بعد الحربِ
إذ شعت ضياه
لكتبتَ إيمان المشاهد واليقينْ
بأنك قد رأيت اللهَ
في الموتى
وفي الغرقى
وفي الأطفالِ
وفي جنود الشاحناتِ
وفي عناق الطائراتِ
وفي جنون البارجاتْ
لا تصدق غير رؤياكَ
ورؤيا ما تراهْ
فهاتيكم هُمُ الموتى
فصدّقْ ما يقولُ اللهْ
وافتح القلب المكسَّر
كي ترى فيه الإلهْ
فإنك إن لم ترَ اللهَ هُنا
فإنك لا تراهُ ولن تراهْ
أبداً فإنك لا تراهْ.
0 comments:
إرسال تعليق