لا أدري كم يلزم الضّمير الحيّ من حجارة كي يصحو؟ ولا أدري كم ينتظر هذا الضّمير تفشّي العفن في أنحائه من وقت لكي يستعيد عافيته وتألّقه؟ وكم يلزم من حبر وشكّ ويقين كي نقول الكلمة الأخيرة لنصل إلى برّ الأمان؟ أم أنّه لا برّ أمان في هذا الخواء المُعَبِّئ أجواء الرّوح المقتولة بكل ما هو رديء؟
آهة تلو أخرى، تظلّ تحرق زافرها كلّ مرّة وهو يرى كلّ تلك المرارة في أروقة الثّقافة والمثقّفين، تفاجئك الحياة الثّقافيّة "بكلّ ما لا تستطيع احتماله"، فتحرق دماءك كلمات شاعر فقد البوصلة وأضاع النّفس في التّرّهات، وهو يظنّ أنّه يحسن شعرا ويبدع فنّاً، تراه يكتب في التّابوهات المحرّمة منتهكا حرمات ومعتقدات، متلفّعا بأوهام مدعاة للفاتنة المفتونة المدعوّة "حرّيّة التّعبير"، مستغلّا ربّما الجهل والسّمعة والصّيت والشّهرة، ليكتب أوهاما تبعده عن مرفأ الفنّ الجميل ومرساة السّعد الجليل.
هذا ما فاضت به المياه الآسنة في بحيرة "سعدي يوسف" الملطّخة بحجارة من التّاريخ في قراءة شعريّة غير شاعريّة وهو يكتب "عيشة بنت الباشا"[1]، متناولا زواج السّيدة عائشة- رضى الله عنها- أمّ المؤمنين من النّبيّ الكريم محمّد- صلّى الله عليه وسلّم- ليقول في النّبيّ الكريم ما لم تتوقعه شياطين الإنس والجن، وهم يوحون إلى بعضهم زخرف القول غرورا في الرّبط بين الصّلاة والجنس والنّظر للسّيدة عائشة المطهّرة الكريمة، ولن أسترسل في الشّرح والتّوضيح، يكفي ما قاله المنصفون في حقّ الرّسول الكريم وفي حقّ زوجاته، ولكن يكفيني هنا أن ألفت النّظر لأمر مهمّ جدّا ربّما يتغاضى عنه السّعدي يوسف وهو وجود قادة بعمر (15) سنة هجريّة في التّاريخ الإسلاميّ، وهم بعرف القانون الدوليّ اليوم أطفال، فهل سيعدّ السّعدي يوسف وغيره قصيدة في الدّفاع عنهم وقد زجّهم الرّسول الكريم بالحرب والقتال، ولم يستمتعوا بطفولتهم الّتي قد يتباكى عليها هو أو غيره من الكتّاب الموهومين.
وما يعمّق الإحساس بالألم هو أنّ هذا الشّاعر قد فاز بجائزة نجيب محفوظ (2012)، وهو ليس بذلك الشّاعر الّذي لا يشقّ له غبار، بل إنّ له نصوصا قد يستغرب المرء كيف يعترف بها شاعر له هذه القامة، وقد وقفتُ قبل سنوات على شيء من منشوره، فأبديت الأسف؛ إذ كيف يكون هذا شعرا؟ أم أنّه كما تقول جدّتي- رحمها الله-: (إن طِلِع صيتك حُط راسك ونام)، وهذا يجعل المرء يقف حائرا أمام تلك الجوائز الّتي تنثر أمام "هؤلاء" هنا وهناك، وتذهب لمن لا يستحقّها، فقط تعطى لمن يعاند أكثر أو يشاكس أو يهذي، هذا ما أصبحت مقتنعا به، وللأسف، يتعمّق كلّ يوم مع إعلان الفائزين بالجوائز الثّقافيّة، وما يثيره النّقّاد حولها من تساؤلات مشروعة، وهم يرون ما يرون من عدم جدارة، وتعدّيا على الأدب، وتخريبا للضّمير الحيّ.
ولم تخرج القصيدة محل هذا المقال "عيشة بنت الباشا" عن تلك القصائد الّتي أسال حبرها السّعدي يوسف في أوراقه الحداثيّة، وأعيد هنا ما قاله عنها أستاذ الأدب والنقد بكليّة آداب عين شمس الدّكتور إبراهيم عوض فينعتها بأنّها قصيدة "بلا قيمة من الناحية الفنّيّة، ويخلط فيها الكلام السّوقيّ الّذي تردّده العامّة في الشّارع، مع مقاطع ألفها بنفسه ليس فيها فنّ ولا ذوق ولا خيال محلّق"[2].
لم تتوقف الرداءة عند هذا الحدّ الجماليّ، بل تعدّتها إلى ما يمسّ الموقف النضالي للمثقف، كون هذا السعدي معروفا بشيوعيته ويساريته، أو ما يحب الآخرون أن يصفوه بأنه تقدميّ، هذا التقدميّ الذي ينال من المثقفين الرواد الذي أعطوا ما لا يستطيع هو وأمثاله أن يعطوه ولو كتبوا ألف عام، فلن يبلغوا مُدّ أحد من هؤلاء ولا نصيفه. ففي حوار نشرته صحيفة عكاظ السعودية مع سعدي يقول عن جبرا إبراهيم جبرا[3]: "لا أراه فاعلاً ثقافياً في التجربة الحداثية. خدم الثقافة الرجعية وانحاز لمصالحه الشخصية". فأين تقدميّة سعدي؟ هل تقدميته في مهاجمة النبي وزوجته عائشة ومدح محمد بن سلمان الذي "أخرج قدرات السعوديين من القمقم"[4] على حد زعم السعدي يوسف، هذا المثقف المدجن والجبان والسلطوي، كأنه لا يرى ولا يسمع ولا يدري، أو أنه لم يكن يرى الأمور كما هي بالفعل، ورحل وهو مكفوف البصيرة.
هذا جانب معتم من جوانب حياتنا الثّقافيّة التي غرق فيها اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين وغيره من المثقفين العرب؛ أفراداً ومؤسسات عندما نعوا هذا الشاعر الذي لم يبق منه شيء إلا وقد مات قبل أن يموت جسدا وروحا وشعرا ومواقف، فكيف تستقيم مواقف هذا الراحل مع تلك الديباجة الإنشائية "الكاذبة" غير الواقعية التي ألبسها بيان نعي اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين[2] لسعدي يوسف إذ اعتبر رحيله "خسارة لا يمكن تعويضها"، "وخرج من الإطار الضيق إلى سعة المدى بكلماته وحسه وأحاسيسه، ليربي الحياة الثورة كواجب ثوري يواجه من خلاله الظلم والعبث والاضطهاد". ويسترسل البيان في معلقته المادحة فيشطّ شططا بعيدا عندما يرى أن "غياب سعدي يوسف الشاعر والإنسان والثائر عن الدنيا، غياب لا يأخذه العدم ولا يلغي حضوره موت، بل غياب الجسد بخلود الذكرى، وبقاء الأثر السرمدي لأمواج البشر المتعاقبة، فمثل سعدي يوسف لا يرحلون بالكلية ولا ينحازون للتلاشي، يبقون على عرش الوجود بقاء الشمس على كرسي البهاء والسماء". إنه كلام إنشائي خاوٍ من المعنى تكذبه سيرة الراحل وشعره.
على أي حال، فالرجال بمواقفهم والشعراء والمثقفون بمواقفهم ونضالهم وثوريتهم، وأظن أن الكلام المكذوب والشعر المكذوب والمواقف المدعاة ساقطة دون أن ننتظر حكم الزمن، فالمنطق كفيل بجعلها هامشية لا أثر لها، وحسب المثقف المنتمي المشتبك هذا المنطق ليكون رادعاً ومصحّحاً؛ فبمثل هذا المنطق يتّقي الضّمير الحيّ بعيدا عن عرض العضلات في الاعتقاد والتّكفير والإرهاب.
وأخيراً، لقد رحل سعدي يوسف ولم يبق منه غير ما خلفه وراءه من سيئات ومواقف لا تؤهله أن يكون مثقفاً يساريا حراً منحازا لكل القيم النبيلة، فكيف ينحاز للقيم النبيلة وهو يهاجم النبي وزوجته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ويمدح الطغاة؟ أظن أن اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين عليه أن يرى أكثر، ويستخدم النظارات، فقد أحوجته الظلامية الغارق فيها حتى أعالي رأسه، إلى واحدة مضبوطة الرؤية تعيد له حدة النظر وصوابيته؛ ليستطيع أن يرى الأمور كما هي عليه دون أن يقول شيئا وهو مصاب بعمى الفكرة وليس الألوان فقط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أصبح اسم القصيدة عنوانا لديوان صدر عن دار الجمل في ألمانيا، عام 2013.
[2] صحيفة الدّستور الأردنيّة، 21/12/2013.
[3] نشر في الموقع الإلكتروني للصحيفة يوم الجمعة: 5 يونيو 2020.
[4] الحوار السابق.
[5] نشر البيان على صفحة الاتحاد على الفيسبوك بتاريخ: 13 يونيو 2021.
0 comments:
إرسال تعليق