ما أشبه اليوم بالبارحة! ها أنني أعيد خلط أوراق من كتاباتي مما نشرته منذ سنوات عديدة. والغاية من ذلك فقط التذكير بأنه لا جديد تحت الشمس. وأن المخاطر تتزايد في وطن الأجداد والآباء خاصة الدعوات الطائفية والمذهبية التي تبثها وكالات أنباء وفضائيات ناطقة بالعربية، وتورد مسميات مذهبية وطائفية. وكذلك ما تنشره وسائل إعلام ناطقة بالعربية في مختلف مسمياتها المقرؤة منها والمرئية والمسموعة، التي تفرض على الكاتب استعمال بعض الكلمات التي كانت ترفضها الأغلبية من أبناء الأمة في كل مكان. مع أنني أشك في أن يكون ذلك دون قصد، لأنهم يريدون ترسيخ مسميات من الألفاظ التي تخدم قوى محافل الشر وأعداء الإنسانية في العالم. تحت مسميات الحرية والديمقراطية الرأي والرأي الآخر، كما تم منع استعمال الصراع العربي الصهيوني في كل البلدان العربية.
ومع الأسف الشديد باتت معظم الأحزاب العربية إن لم تكن كلها تردد هذه الكلمات! والسبب في ذلك أن كل القوانين التي تم تشريعها في البلدان العربية بعد عام 2000 تمنع تلك تداول تلك الكلمات في النشر أو في أي ندوات أو مؤتمرات تحت أي مسمى كان حتى وإن كان مؤتمراً سياسياً أو ثقافياً. بذلك بات معظم إن لم يكن كل الكتّاب وكل من يتعاطون بالشأن السياسي لا يستعملون تلك الكلمات والأسماء! والتي ابتدأت منذ لقاءات مدريد 1991، وتدريجياً تم تعديل وتشريع العديد من القوانين في البلدان العربية منذ ما سمي بـ(اتفاقية أوسلو) 1993 من أجل تكريس الاعتراف بذلك الكيان لفرض أمر واقع على أمة النكبات.
والسؤال هنا ترى متى كانت الأحزاب والقوى الجماهيرية، أحزاب سلطة، لترضى وتستجيب لمواقف السلطات الحكمة؟ وتبدو كأنها فروع من ما يسمى جامعة الدول العربية! ألم تنشأ هذه الأحزاب والتنظيمات كرد فعل على اغتصاب فلسطين ولواء الإسكندرون والأحواز وطرد المستعمرين والغزاة من البلدان العربية وتحقيق الاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية؟!
وإذا نظرنا إلى تطور العلاقات المتسارعة في منطقة الخليج العربي وإلى التنازلات التي قدمتها أنظمة بلدان عربية أخرى، التي فتحت أبوابها مشرعة للشركات العابرة، خاصة بعد التنازلات التي قدمها المتزعمون لفصائل فلسطينية كانت ثورية، بحجة التعاون من أجل إحلال السلام في المنطقة، نجد أن هذه التنازلات إنما هي من أجل تكريس القاعدة الأمريكية الأوروبية في فلسطين المحتلة، تلك القاعدة التي تعمل منذ ثمانينات القرن الماضي على إقامة كيانات طائفية ومذهبية بحجة حماية الأقليات الدينية والعرقية تحت مسمى الفيدرالية والكونفيدرالية كما يحدث في منطقة الحكم الذاتي "كردستان" شمال العراق. إضافة إلى تكريس زعامات وقيادات جديدة كما في لبنان والعراق من أجل تحقيق أحد أهم القواعد السياسية الصهيونية وهي إقامة الدويلات الطائفية التي ستكون "الحصون المنيعة" لحماية القاعدة الأمريكية الأوروبية المتقدمة في فلسطين المحتلة. من هذه الزاوية أنظر إلى ما يحدث في شمال العراق وجنوبه، وفي لبنان، وفي المغرب العربي، وفي شمال افريقيا، وإلى ما يحدث في السودان وتحديداً في منطقة دارفور، وكذلك إلى ما يحدث بين مراكش والجزائر حول منطقة الصحراء الغربية.
على أية حال بما أن دوام الحال من المحال، وأن القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن يكون قرناً أمريكياً، لأن إدارات الشر الأمريكية حفرت مقبرتها بنفسها منذ غزوها للعراق واحتلاله، ومن خلال دعمها الدائم لقاعدتها المتقدمة في فلسطين المحتلة، وما الحرب الدائرة اليوم بين روسيا من جهة وبين أوكرانيا المدعومة من أمريكا ومن دول أوروبا سوى دلالة على انتهاء العصر الأمريكي وأحادية القطب الواحد.
وللتذكير أقول أنه ما أن انتهى عهد الاستعمار العثماني (التركي) للوطن العربي الممتد من الماء إلى الماء، حتى وقع تحت نير الاستعمار الإمبريالي البريطاني - الفرنسي – الإيطالي، الذي بدوره قسمه إلى أجزاء ليسهل عليه التحكم في مقدراته، حيث تم تكريس العائلية والعشائرية والقبلية، ثم دعم سيطرة الطبقية البرجوازية والإقطاعية وسيطرة رأس المال ليس سوى تكريس لسياسة بريطانيا "فرق تسد" من أجل السيطرة على رقاب البلاد والعباد، وسلب الثروات والخيرات الطبيعية في الوطن الممتد من الماء إلى الماء.
فمع نهاية عقد الأربعينات كان ذلك الاستعمار قد بدأ بالخروج مرغماً من الوطن بعد فشله بالسيطرة التامة عليه، ولكنه قبل خروجه زرع في قلب البلاد العربية كياناً غريباً كي يمنع تحقيق الوحدة الجغرافية الطبيعية، بعد أن فرض في العقد الثاني من القرن العشرين ما عُرف باتفاقية "سايكس-بيكو" التي تم فيها تجزئة البلدان العربية، كما ترك في البلدان العربية أذناباً تابعة له، منهم زعماء وأحزاب أممية ووطنية بالاسم فقط، كما كرّس ملوكاً وأمراء ورؤساء ارتهنوا للمستعمر بطريقة غير مباشرة باسم تحقيق الاستقلال والسيادة، وكتب لهم المستعمر دساتير بلادهم! وأخطر تلك الأذناب كانت الحركات الطائفية والمذهبية من كل الأديان في مصر وسورية ولبنان وفلسطين.
ومع نهاية عقد الخمسينات من القرن العشرين كانت الحركات القومية الوطنية قد برزت بشكل فاعل ومؤثر في مجريات أحداث الوطن من المحيط الأطلسي غرباً إلى الخليج العربي شرقاً، حتى يمكن القول أن الخمسينات كانت فعلاً عصر القومية العربية الذهبي، حيث يمكن التأكيد أن عقد الخمسينات كان بالفعل كان عهد ازدهار الوطنية والقومية العربية، وقد لاقت الحركات والتنظيمات والأحزاب الدعم والتأييد المطلق من مختلف قطاعات الشعب العربي في كافة أقطاره المجزأة، تلك الأحزاب التي كانت تنادي آنذاك وتعمل من أجل إزالة الحدود المصطنعة بين أقطار الوطن العربي الكبير ومن أجل تحقيق الوحدة الشعبية وتحرير فلسطين.
ومنذ بداية السبعينات من القرن المنصرم وبداية الألفية الثالثة، بدأت قوى الاستعمار بحصد ما زرعوه عبر الدمى التي زرعوها داخل البلدان العربية، حيث برزت الحركات المعادية للوطنية وللقومية العربية بدعم غربي إمبريالي صهيوني، وقد نجحوا في تقسيم الحركات السياسية الوطنية والقومية على حد سواء إلى أجزاء متناحرة. وكل من عايش تلك الفترة يذكر تماماً كم من فئة تقاتلت مع فئة تحمل العقيدة والفكرة نفسها تقاتلت فيما بينها وسقط فيها قتلى لكل منها، عدا الاغتيالات والإعدامات التي شهدتها ساحات الأردن ولبنان وسورية والعراق بأيدي تابعة لتلك الأحزاب ولأنظمة متحكمة برقاب البلاد والعباد. كما تم اغتيال قيادات من تلك الفئات نجحت في الفرار إلى فرنسا وبريطانيا وبلدان أوروبية أخرى، وكل من تلك الفئات يدعي أنه الشرعي والأصل والأساس المحافظ على العقيدة والهدف والمبادىء!.
وكذلك كل من عايش تلك المرحلة يذكر أنه في تلك الفترة كان الصراع على أشده بين المجموعات التي تنادي بالقومية وبالوحدة العربية بشكل عام، وبين المجموعات الطائفية والمذهبية التي ساندت أعداء الأمة العربية، بذريعة أن المنادين بالقومية العربية، خونة وعملاء للسياسيات الأوروبية، وأنهم يشكلون خطراً على الإسلام بشكل عام. وعلى سبيل المثال أذكر أنه في عهد الاستعمار الفرنسي في سورية ولبنان، وكذلك الاستعمار البريطاني في مصر وفلسطين تم تحريض الولاءات الطائفية والمذهبية من أجل منع أو الحد من ظهور وتمدد القومية العربية التي كانت تحاربها الأنظمة العربية آنذاك ولم تزل حتى اليوم. وفي هذا المجال أيضاً أذكّر بقضية لواء الاسكندرون الذي استولت عليه تركيا بتأييد من حركة "الإخوان المسلمين" على اعتبار أن تركيا "دولة مسلمة" كما يسمونها، وكذلك أيد الشيوعيون في سوريا ولبنان ضم لواء اسكندرون إلى تركيا على اعتبار أن السلطة آنذاك في فرنسا كانت اشتراكية شيوعية. وفي الوقت نفسه كان الصراع على أشده آنذاك بين الحركات الشعوبية والعنصرية في الوطن والتي كانت تخدم بأعمالها أهداف الحركة الصهيونية والإمبريالية العالمية، وكم من مشانق علقت للعناصر القومية الشريفة ولنسائهم في مدينة الموصل شمال العراق الذي كان يئن من وطأة الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
ومن المعروف أنه عندما تخفت الدعوات القومية، دائماً كان يبرز نقيضها المباشر وهي الشعوبية والحركات الطائفية بأشكالها المذهبية من أجل تسعير نيران الفتن والكراهية بين أبناء الشعب الواحد. ومن الملاحظ أن أعداء العروبة كانوا دائماً يبرزون دعوات الطائفيين والمذهبيين عبر وسائل الإعلام كما في سابق الأيام، واليوم أصبحت تنتشر عبر ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت وسائل بلبة مجتمعية، تحت شعار حرية الرأي والتعبير والرأي والرأي الآخر! كي يبقى أبناء الوطن الواحد متناحرين في أمكن تواجدهم في داخل وخارج الوطن، من أجل إبقاء نيران الكراهية مشتعلة في نفوس أبناء الأمة. والمتابع لمجريات الأمور في المنطقة منذ غزو العراق واحتلاله سنة 2003 حتى يومنا هذا يرى أن الصراعات الطائفية والمذهبية تزداد شدة بأساليب مختلفة.
مما تقدم أرى وأكرر أنه لا يمكن أن تستقيم مصلحة الوطن، إلى أن تقام فيه الوطنية مقام الطائفية والمذهبية التي كانت وستبقى آفة الوطنية والقومية. ولا يعنى فيما أقوله أنني ضد الدين أي دين، بل على العكس من ذلك، إنني من أشد المتحمسين والمدافعين عن الدين، ولا أفرق بين هذا أو ذاك، وأنني ضد الإلحاد من أينما أتى. وأنني أؤمن بأن مَنْ لا دين له، لا يمكن أن يكون مؤمناً بالدفاع عن عرضه وعن الأرض التي تربى عليها وعاش وشرب من مائها وأكل من خيراتها، ومن كان كذلك لا يمكنه أن يكون أميناً على أرض أجداده وآبائه وأحفاده، فالإيمان جزء هام من علاقة الإنسان بخالقه، ويبقى الدين لله والوطن سيضم رفات الجميع.
0 comments:
إرسال تعليق