وفاة الشَّاعر والرِّوائي السُّوري الكردي الصَّديق محمّد عفيف الحسيني
عن عمر يناهز الخامسة والسِّتّين من العمر في غوثيمبورغ.
أيُّها الشَّاعر المرفرف في ربوعِ الذّاكرة، أيُّها الغائب الحاضر، البرّي، المشاكس، الودود. عاشق الكلمة والقصيدة والسّرد، عاشق سليم بركات، وكأسات العرق! لو تعلم كم مرّة اتصلتُ بكَ وما كنتَ تردُّ على اتصالاتي، ثمَّ بحثتُ عن رقم المنزل واتصلتُ معَ أمِّ الأولاد وقالت لي عفيف لا يردُّ عليك لأنَّهُ محرجٌ منكَ!
كيفَ كنتَ مُحرَجاً منّي يا صديقي؟! هل نسيتَ سهراتنا في عقرِ داري حتَّى السَّاعات الأولى مِنَ الصّباحِ، ونحنُ نتحدّثُ عن همومِ الشِّعرِ والأدبِ والحياةِ وعن غربتِنا الفسيحةِ في الحياة؟!
ما أزال أتذكّرُ طلباً أدببّاً وحيداً طلبْتَهُ منِّي، على أن يكونَ نصاً أدبيَّاً طازجاً خرجَ من الفرن لتوِّهِ، فقد طلبْتَ منّي نصَّاً عن "أدبِ المكانِ" خاص بموقع "تيريژ"، على أن لا يكون منشوراً في أيَّةِ صحيفةٍ ورقيّةٍ أو في أيِّ موقعٍ الكتروني، وأن تتمحورَ فضاءات النّصّ عن عوالم "ديريك" تحديداً، كي تنشرَهُ في موقع "تيريژ" ضمن ملف نصوص عن أدب المكان، حيثُ كنتَ آنذاك تشرفُ على تحريرِ الموادِ في هذا الموقع، فقلتُ لكَ لدي نص طازج يحتاجُ إلى اللّمساتِ الأخيرة بعنوان: "ديريك يا شهقة الرُّوح" فقلتَ لي أرجوكَ، ارسلهُ إليّ بعدَ مراجعتِهِ ووضعِ لمساتِك الأخيرة عليهِ، فأرسلتُهُ إليكَ في اليومِ التَّالي، مرفقاً معَ النّصِّ صورةً لي وصورةً لوالدي وعمِّي معاً، ثمَّ نشرتَهُ في موقعِ "تيريژ"، وأضفْتَ من عندِكَ عنواناً فرعيّاً: "في معراجِ الحنين"، فأصبحَ العنوان: "ديريك يا شهقة الرُّوح: في معراجِ الحنين" كل جملة في سطرٍ مستقل!
وقد أحبَّهُ القرّاء والقارئات، والطَّريف بالأمرِ أنَّهُ بعدَ فترةٍ اطلعَ بعض الكتّاب والنَّقّاد الكرد على هذا النّصِّ ونصوصٍ أخرى، ثمَّ ذكرَ أحدُ النّقّاد والباحثين في الأدبِ الكردي قائلاً: أنَّ الأدباء الكرد صبري يوسف وأحمدي خاني وكاتب ثالث لا يحضرني اسمه الآن، ونشر ما قاله في موقع آخر ضمن مقال يتحدَّثُ عن أسلوبي في هذا النّص بإعجابٍ كبير، كما تحدَّثَ عن نصوصِ أحمدي خاني والكاتب الثَّالث! فاتّصلتُ آنذاك بكَ مباشرةً وقلتُ لكَ يا صديقي، لقد طلبْتَ منّي أنْ أرسلَ إليكَ نصَّاً أدبيَّاً عن أدبِ المكانِ، وأرسلتُ لك فعلاً نصَّاً طازجاً على مزاجِكَ الرّاقي، ونشرتَهُ في موقع "تيريژ"، وإذ بأحدِ المتابعين الكرد والمهتمِّين بالأدبِ الكردي يشيرُ إلى نصّي وأسلوبي في الكتابةِ وإلى أحمدي خاني وكاتب ثالث ويتحدّث عنِّي كأديبٍ وباحثٍ كردي، فقلتُ لك تفضّل ها قد اعتبرَني المتابعون أديباً كرديَّاً، فضحكْتَ بأعلى صوتِك، قائلاً: ألف مبارك خالي السِّرياني، فكنتَ تناديني خالي السِّرياني، معَ أنّني أكبر منكَ بسنةٍ واحدة فقط، معَ هذا كنتَ مصرَّاً أن تناديني خالي السِّرياني، فقلتُ لك وماذا تفيدني مناداتك بخالي السِّرياني إذا كنتُ مصنَّفاً أديباً كرديَّاً، فتعالتِ القهقهاتُ من جانبِكَ أكثر، ورحْتَ تقولُ يا صديقي لقد وضعوا اسمك مع أحمدي خاني ووردَ اسمُك قبله وهذا مكسبٌ كبير لك، فقلتُ لكَ ولكنِّي لستُ أديباً كرديَّاً يا صديقي، فقلتَ لي أتمنَّى أن يضعوا اسمي بعدَ أحمدي خاني حتَّى ولو كنتُ سريانيَّاً قحَّاً! فضحكتُ أنا الآخر ورحنا ندردشُ عن همومِ الأدبِ والإبداع والسَّردِ والقصصِ والرِّواياتِ وأدبِ سليم بركات وأدبِك والأدبِ الشرقي والغربي، وقلتُ لكَ هناك مسحة "بركاتيّة" في أعمالِكِ الرِّوائيّة، فقلتَ لي بركات ليسَ بعيداً عنِّي، فهو ابن عامودا وأنا ابن عامودا وقد تتلمذنا على أدبِهِ وإبداعه.
الآن تودِّعُنا خلسةً من دونِ أيّةِ مقدِّمات، من دونِ أن تشيرَ ولو بتلميحاتٍ سريعة عن أسرارِ انبعاثِ القصيدةِ، وتجلِّيات شهقةِ السَّردِ، ترحلُ عالياً يا صديقي، وتبقى لقاءاتنا متلألئةً في مروجِ الذّاكرة. أتذكَّرُ جيَّداً كيفَ اتصلْتَ معي يوماً، منذُ قرابةِ عقدين من الزّمن، تقولُ لي سأتوجّه نحوَ ربوعِ ستوكهولم، هل يمكنُني اللّقاء بكَ يا صديقي؟! فأجبتُكَ، هذا السُّؤال بحدِّ ذاته خطأ عندما يأتي في هكذا سياق! فقلتَ لي قصدك يمكننا أن نلتقي، فقلتُ لكَ أصلاً لو زرتَ ربوع ستوكهولم ولم نلتقِ سأرفعُ عليكَ فردةَ "الرّحانِ"، (وفردة الرّحان هي حجر الرّحى، وهذا الكلام يُقال من باب التّهديد بدعابة ودّيّة عالية)! فأجبتني عندها وبثقة عالية، ولكن عندي شرط، فقلتُ لك شروطُكَ مستجابة يا صديقي، فقلتَ لي شرطي الوحيد هو أن تعمِّرَ السَّهرةَ بكأساتِ العرقِ! ضحكتُ وقلتُ أصلاً السَّهرةَ من دونِ كأساتِ العرق، تُعدُّ سهرةً ناقصةً ولا تحقِّقُ الهدفَ المطلوب، ولا يمكنُ أن أعتبرها سهرةً ولا زيارةً. عندها ارتفعت نبرةُ قهقهاتِكَ قائلاً: خالي السّرياني، خال أصيل، وضحكنا معاً، وحتَّى الآن لا أعلم لماذا كنتَ تناديني خالي السّرياني، هل من باب الاحترام ما بين الكرد والسّريان، أم أنَّ هناك عرقاً سريانيَّاً يربطُكَ بالسّريان ولهذا تشبّثَتَ بخؤولةِ السّريان لكَ! هاهاهاهاهاهاهاها
وبعد يومين، اتصلتَ بي من حي تينستا والّذي يبعد عنّي دقائق معدودة مشياً على الأقدام، التقينا بحرارة، قدّمتَ لي بعض إصداراتكَ، ديوان: "بحيرة من يديك"، ورواية "جهة الأربعاء". وقدَّمْتُ لكَ بعض إصداراتي أيضاً، مجموعتي القصصيّة الأولى: "احتراق حافّات الرّوح" وديوان: "ذاكرتي مفروشة بالبكاء" وديوان بالسُّويديّة والعربيّة بعنوان: "روحي شراعٌ مسافر". كم كان اللِّقاءُ جميلاً، ثمَّ أعدَدْتُ ترتيبات السّهرة وكل ما يتطلَّبُ كأس من عرقِ الرّيّان، كنتَ متلهِّفاً لكأسٍ من العرقِ، رفعنا نخبَ الصَّداقة، استمتعنا بكؤوسِ العرقِ معَ منوّعات من المازة واللُّحومِ الخفيفة، كمرتديلّات البقر والدّجاج، والموالح والمكسّرات. قرأنا شعراً، ونصوصاً أدبيّة، وتحدَّثنا عن همومِ الشِّعرِ والشُّعراءِ وحنينِ القصيدةِ. اتصلَ معكَ ابن عمكَ محمّد الحسيني، من تينستا وسألَك متى ستعودُ؟ فقلتَ له سوفَ لن أعودَ اللّيلة، سأبقى عند خالي السّرياني، فضحكْتُ بعمقٍ وقلتُ لكَ يا شيخ إيّاك أن تتحدَّثَ هكذا معَ محمّد الحسيني، سيذهبُ بعيداً ويظنّني خالَكَ عن حقٍّ وحقيقة؟! فضحكْتَ وقلْتَ يا ريت لو كنتَ خالي، كي تؤمِّنَ لي كأسات العرق كلّما زرتُكَ! فقلتُ لكَ حتَّى لو كنتُ خالَكَ من بابِ المداعبةِ، لدي الاستعداد أنْ أؤمِّن لكَ ما تشاءُ من كأساتِ العرقِ كلّما حضرْتَ إلى ربوعِ ستوكهولم! سهرنا سهرة بديعة، وعندما حانَ وقتُ النَّوم، قدَّمْتُ لكَ سريري الكبير، ونمْتُ أنا في الصَّالون. كانت دواوين الشِّعرِ متناثرةً حولَ أطرافِ السّريرِ والوسائدِ. قلتُ لكَ هذهِ الكتب دائماً هي حولي، دواوين بابلو نيرودا وطاغور وجبران ودواوين أخرى. هل يغيظُكَ أن تعانقَكَ هذهِ الدَّواوين وأنتَ نائم؟ فقلْتَ لا، بالعكس اتركها في مكانِها كي تعانقَني وأتصفَّحَ بعضها وأنا في أوج انتشائي، .. ثمَّ غصنا في نومٍ عميق!
ودّعتُكَ في اليوم الثَّاني، ثمَّ وجَّهْتَ انظارَكَ نحوَ غوثيمبورغ (يوتوبوري)، وبعدَ أيامٍ اتصلتَ بي قائلاً، كم كانت فوضى السَّرير رائعة، مكتنفة بالكتبِ والدَّواوينِ الجميلة، فقلتُ لكَ هذه هي الفوضى الخلّاقة، فضحكْتَ وقلتَ فعلاً هذه هي الفوضى الخلّاقة، ثم أضفتُ مركَّزاً على اصطلاح الفوضى الخلّاقة المنبعثة من مذاقِ الكتبِ الرّصينةِ والشّعرِ والإبداعِ الخلّاقِ، وليس كما قالوا الأميريكان "الفوضى الخلّاقة" عندما دمّروا البلاد فوقَ رؤوسِ العبادِ في العراقِ ودنيا الشّرقِ؟! فتلكَ الفوضى هي فوضى حرَّاقة وليس خلَّاقة! ثمّ عدْتَ تضحكُ من جديدٍ. أشعرُ الآن وكأنَّ رنين ضحكاتِكَ يتناهى إلى مسامعي، وأنتَ تدلِّلني مردَّداً رائع يا خالي السِّرياني!
وهكذا يرحلُ الشُّعراءُ ويتركونَ خلفهم قصائدهم ترفرفُ فوقَ أجنحةِ الرُّوحِ، وتبقى كتاباتُهم وحروفُهم أجمل ما في الحياةِ، ويبقوا معنا عَبْرَ الكلمة إلى أجلٍ طويل وعلى مرِّ الأجيالِ!
وداعاً يا صديقي وداعاً، إلى أبهى ما في زرقةِ السَّماءِ، ستبقى مرفرفاً في رحابِ الذّاكرةِ والخيالِ ما دامتِ القصيدةُ تنسابُ في أوج انبعاثِها من أصفى تجلّياتِ بوحِ الرّوحِ!
24. 8. 2022
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
0 comments:
إرسال تعليق