سلمى جبران شاعرة فلسطينية مقيمة في حيفا يغمر شِعرها الحب والحنين، وهذا ما كنت أشعر به دوما فيما يتاح لي أن أقرأ لها، وفي ديوانها الأخير "صبا الروح" والذي استمد اسمه من أحد النصوص في الكتاب، والذي صدر في 2023م عن الأهلية للنشر والتوزيع/ عمَّان، في 120 صفحة من القطع الصغير وستين نصا وبطبعة أنيقة وغلاف أنيق، ضم في منتصف الغلاف الأول تحت اسم المؤلف والعنوان لوحة معبرة للفنانة الفلسطينية سيسيل كاحلي بينما الغلاف الاخير كان صورة للشاعرة وأبيات من نص لها، كان الحب والحنين ينثال من الروح هامسا للأرواح بجماليات وصور جميلة، في محاور شعرية متعددة سأعمل على القاء الضوء عليها في هذه القراءة للديوان.
يلاحظ أن الشاعرة بدأت ديوانها بالحديث عن المحور الأول وهو محور الحب بنص "الحب الفج" والفج في لسان العرب: "الطريق الواسع بين جبلين"، ومنها اشتقاقات عديدة وتقارب في المعنى، فهل أرادت الشاعرة القول أن الحب كان بين جبلين متقابلين لا يلتقيان؟ علما انها وصفت الآخر بالقول: "داهمني وحملني بخيوط حرير/ تأبى أن تتقطع" ولكنها اصبحت كما تقول لاحقا: "أصارع ظلا يغمرني ويحول/ كل حياتي جزءًا آخر"، وهذا الصراع بعد احساسها وقولها: "وغدوت اكابد بعدا عن روحي" وتشير في نهاية هذا النص أنها انتصرت في الصراع بقولها: "فتجدد بصري، لأرى/ طفلة عمري تتعافى، تتنامى،/ تركض خلفي وأمامي/ وتعيد الروح إلي"، وهذا الانتصار سنراه في النص الثاني وعنوانه "وهم الرجولة" حيث أن هناك حسب قولها: "شكا يساورني وينعاني" وبالتأكيد فمتى دخل الشك للقلب فهذا بداية النهاية ولذا نرى انها تقول في نهاية النص: "كسحت به وهم الرجولة/ أسقطته من حسابات المكان/ ومن حسابات الزمان"، وتؤكد على ذلك في نص "معنى الرجولة" بقولها: "شبح الرجولة يغرق/ الكلمات في كلماتي/ ويغيظ فيَّ أنوثتي/ ويعيد لي ذاتا بذاتي"، وفي نص "نفسي تعيى" نجد الشاعرة تستعيد الماضي وذكريات الحب فتقول: "لكن جذورا فيها تتشبث بالحب/ الرابض في قلبي، فيجادلها".
في نص "أيقونات" نجدها تقف و"تنفض كل غبار/ عن عقليات قبلية" وهدفها "حتى تبقى أيقونة عشقي/ لا مرئية"، ويظهر الحب جليا في نص "طفولة ناضجة" بقولها: "حبي توهج في الخريف ربيعه/ فحبوت يغمرني غرامي" فهل تجدد الحب في خريف العمر؟ هذا السؤال يثيره المقطع الأسبق "وأنتفض يا عُمرُ/ وامنحني حياتي"، وفي نص "أتصادق مع قدري" كان هناك صورة جميلة عن الحب بقولها: "حين اختارك لي قلبي/ وكياني أشرق فرحا/ لم أعرف أني بوجودك/ أتصادق مع قدري"، وهذه الجمالية في لوحات الحب المرسومة بالحروف نجدها أيضا في نص "إني عشقتك" حيث تبدأ النص بالقول: "إني عشقتك/ فامّحت من خاطري/ صور الرجال"، ولكنها في نص "هل أعشق الغياب؟!" نراها تخرج من رسم اللوحات إلى التساؤل بقولها: "هل يحتويني حُبه!؟ هل أدمن الحياة في غروبها"، بينما في نص "قلقي يعاتبني" نجدها تقاوم القلق وتصر على الحب فتقول: "وأعدتُ لي نفسي تعانقُ/ حبي المغروس في قلبي"، وهي ترى في هذا النص أن عمرها: "عمرا تعتقَ وانجلت نورا/ خمور الحب فيه".
الحب يأخذ أشكالا وصورا في نصوص سلمى جبران ففي نص "أحياه ظلا" نراه بصورة أخرى في قول الشاعرة: "يتضور خجلا مني، يهرب،/ يتركني لجنوني أنعم فيه وأعاني!!.."، وكذلك في نص "اللاشيء" حين تقول: "وسمعت صوتا في كلامي/ نبرة منه ومعنى/ يسبقان قصيدتي/ ويحددان بياني"، وفي نص "حوار الحواس" يتمازج الحنين مع الحب بقولها: "أغرق بين اللاوعي وبين الوعي/ حيث أسترجع لي حبا عانقني/ ولمست الدفء بحضرته"، وفي نص "أتناسى تعبي" تقول: "يأخذني حب يسكن قلبي، يستنفذ مني كل قواي.." وهذا وصف جميل ولكن نجد الشاعرة تخاطب الآخر في نهاية النص وتقول: "لكن.. تتعلم مني/ كيف تعيق حياتي"، فتحيل الحب من جمال يسكن القلب إلى ما يعيق الحياة، بينما في صورة أخرى حين لحظات الغضب في نص "غضبي" تقول: "أحتمي في عمق نفسي/ بين آيات تساكنها/ وآمال تعري ضعفها/ وتحيطها حبا يواسيني.."، وهذا ما نراه بنص "حياة في موت" حيث ترى أن الموت يحدق بها من كل زوايا الكون فتقول: "فيُحوَّل حبي غما".
من الجميل تصوير الحب بلوحات من كلمات بأشكال مختلفة وهذا ما نراه في نص "إضاءة داخلية" حين تصل إلى يقين: "أيقنت أن الحب يصارع في هذا العالم/ ألف معاناة.. ألف مخطط"، بينما في نصها "إبحار ذاتي" تتكلم عن المعاناة بقولها: "عانيت الحل وعانيت الكره"، وتلوم نفسها على الحب الزائد بالقول: "وتبدى لي أن كياني/ صارع واستشفى/ وتعاطى الحب بجرعات زائدة"، وتعود لجمال الحب في نص "الخلاص" بقولها: "كتبت معاناتي سؤالا/ وتعمدت روحي بنهر الحب/ كي أحظى من الأيام آخرها"، وكذلك نجد هذا الجمال في الحب في نص "العالم يجري" بقولها: "وأنا أتشبث بدقائق من نور أعشقها/ تتخفى تحت وفوق وخلف السرب/ وتأخذني حبا/ وتلقن روحي ما قل ودل"، وفي نص "نورس حب" تبعد الخيالات التي تتسلل لها أحيانا لتعود للحب في قولها: "فانزاح خيال يعبث بالدنيا/ ويحيل حياتي نورس حب"، وتتمرد في نص "مفاتن الروح" وتصر على الحب واستمراريته كحب متمرد بقولها: "وانتفض الحب/ وصار عاشقا لروحه المقدسة/ فسطر الحكاية"، وفي نصها "مقام الصبا والحب" تؤكد على ذلك بقولها: "وتحول في دنياي مقاما/ ينشد حبا ويقاوم في الهَون".
في المحور الثاني وهو محور الحنين وفي نص "طيف الأم" تقول: "وأبقى رهن طيف الأم في روحي/ يساجل بالمحال"، بينما في نص "صبا الروح" نجدها تقول: "هَزمَتْ فؤادي صحوةٌ/ صدته عن عرش تفرده/ فقيدني حنيني"، ويتجلى الحنين في نص "ح (و) ريّة" والذي تركت العنوان مبهما بوضع حرف الواو بيت قوسين، فهنا تركت القارئ بين احتمالية: حرية لو شطب الواو وحورية لو أبقاها وإن كنت أميل الى كلمة حرية لأنها في النص قالت: "فوجدت نورا يستفيق بداخلي/ ويعيد لي حريتي"، بينما الحنين كان واضحا في مطلع النص "أترك سؤالك يستنير بعتمتي/ ويثيرني ويعيد لي أطلالي"، وفي نص "رقصة دائرية" والذي بدأ بالشطرتين: "وانتثرت أوراق خريفي/ تنفضها الريح وتجمعها" تتحدث كيف يفعل الحنين بها بقولها: "لكني أقعدت حنينا كان يراودني دوما/ ليجدد فيَّ نداءات/ تصدمني اليوم وترفض أن تحيا/ حتى في قلب قصيدة"، بينما في نص "وأتوقُ لِعَرَقٍ" يقطر من عمرها ويحاور وجدانها حتى يتسنى لها أن تحيا ترتيلة فرح فتقول في النص: "بثمار يانعةٍ/ يتكامل فيها قلبي/ ويزغرد حبي/ نورا وحياة"، ونفس الفكرة نجدها في نص "جُنَّت حياتي" بقولها: "جُنت حياتي في مفارقها/ وراحت تنتفي عمرا/ تآكل وانطوى، وتحيله/ حبا، ربيعا في فؤادي".
في نص "أمومة عنيدة" يتجلى الحنين بقول الشاعرة: "أوقفت همي/ وخطته حروفا في قصيدة"، وكذلك في نص "هذي الحياة" بقولها: "هي جمرة ترتاح/ تحت رمادنا لا تنطفي/ فتحيل كل زماننا الآن" وفي النصين نلمس الحنين خلف الكلمات حتى وإن لم يظهر علنا، وهي تحن للماضي في نص "مسار ذاتي" فتقول من بعض النص: "كوناً آخر أسبح فيه/ يسبح بي/ يتعذرني ايقافه"، وكذلك في نص "عبث الوجود" نجد نفس الفكرة بالحنين للماضي بقولها: "عمرٌ يعايشني/ ويقتصر السنين/ فيستقي منها الحنين" وهذا الحنين للماضي نراه في نص "في بيداء الماضي والآتي" حين تقول الشاعرة: "تتشنج ذاتي الأولى/ تتذكر حبا أفناها/ وحنينا رافقها/ لحنان ولد معاقا"، بينما في نص "إبحار ذاتي" نجدها تقول: "فضاعت مرساتي/ ما بين جفاء وحنين"، ويستمر الحنين للماضي في نصوصها كما نص "وتشردت قيم" بقولها: "عبثا أحاول أن أغني ماضيا/ هجرته روح/ وانطوى في لُبَّهِ ثارُ".
وهكذا نرى كم كان الحب يعتمل روح الشاعرة وهي تكتب بوح روحها، حب صورته بلوحات مختلفة حتى كدت أشعر بمعاناة مختلفة عبر الزمن مع الحب، فكانت هناك حالات تتناقض مع غيرها، ولكنها في الحنين كانت تحن لكل ما هو جميل مر في حياتها وخاصة في الماضي، وإن كان الحب والحنين المحورين الرئيسيين في ديوان الشاعرة، لكنها وعبر بعض نصوصها تناولت قضايا مجتمعية أشارت فيها للأمومة في نص "أمومة عنيدة" وفي نص "أصغي إلى صمتي" وفي نص "يحاور لوعتي"، وتحكم التفكير القبلي في النساء في نص "قرابة الدم" ونص "بين فكي القبيلة" و"عقود الخوف" ونص "قروية" وأهدته إلى إمرأة مقتولة، وتحدثت عن "مساخر التقاليد"، كما أكدت في أكثر من نص على فكرة تمردها ومن هذه النصوص "وتعود تنشد ما تقول"، والوطن كان له حضور أيضا فنجدها في نص "قمح أسطوري" تكتب للمدن العربية التي ابتليت فتقول: "كانت بيروت قصيدة/ والشام وبغداد/ كانت ألحانا يعزفها الحب"، وفي نص "عبث الكمال تقول: "في بيتنا صمدت حكايات/ وماتت أسطر"، وكان الوطن كذلك في نص "روح تُشَبه بالوطن"، وكذلك كان لها فلسفة خاصة وردت في نصوص مختلفة مثل: "حوار الحواس"، "أرواح عارية"، "مكتبةٌ- قبر"، "وتحولت قمم إلى أرجوحة"، "تجتث منها جذورها"، "قدري اختيار"، عبث الحياة"، أحاور روحي"، خمر الروح"، "تحدي القلق"، "لحظة تأمل"، "تحكي صامتة"، "الجهل"، فوضى الروح"، "سِفر العزلة".
تناولت كل ذلك بحرف قوي وبلغة مبسطة ابتعدت عن التعقيد وكانت أقرب للهمسات الروحية، وكانت النصوص قصيرة ومكثفة اللغة بدون إطالة قائمة على الحشو غير المبرر، فتشد النصوص القارئ ليواصل القراءة بمتعة وشغف، وفي النهاية لا بد من ملاحظات يجدر الاشارة إليها ومنها عنونة أحد القصائد "أيقونات" وهي كلمة ليست عربية بل يونانية وهي مصطلح يوناني قديم "eikōn"و يعني الاشارة لشيء بالتناظر معه أو تجسيده، وكان الأجدر أن توضع بين قوسين سواء بالعنوان أو في داخل النص، كما أن الشاعرة لجأت لاستبدال التاء المربوطة بالهاء المربوطة عند التسكين في كل النصوص، علما أن التاء المربوطة تكتب كما هي وتلفظ هاء حين التسكين حسب أراء علماء اللغة العربية، ولا أعلم إن كان هناك من شذ عن هذه القاعدة، فالهاء المربوطة والتاء المربوطة حرفين مستقلين تماما.
0 comments:
إرسال تعليق