تقدمها الأستاذة سونيا عبد اللطيف تونس تحت عنوان "جانب من الهوية الثقافة" في قصيدة المواكب للشاعر الفلسطيني حاتم جوعيه.
التعريف بالشاعر:
حاتم جوعيه أديب فلسطيني من المغار. الجليل. فلسطين. حاصل على الدكتوراة في الطب الصيني المكمل البديل وطب الأعشاب حاصل على البكالوريا والماجستير في عدة مواضيع. وعلى عدة شهادات في الموسيقى، الفلسفة، علم النفس، الصحافة والإعلام، رياضة الكارتيه... شعر... أدب. وحاصل على عدة شهادات تكريمية وجوائز وشهادات دكتوراة فخرية من عدة منظمات ومؤسسات وأكاديميات عالمية ودولية.. يفضل ممارسة هوايته وموهبته كل ما يخص الأدب والشعر والإعلام.. يفضل كتابة الشعر العمودي على كتابة النثر . له العديد من المشاركات في المهرجانات واللقاءات الأدبية الشعرية والثقافية والوطنية... له عدة إصدارات منها: 1- ديوان ترانيم الحب والفداء .كتب مقدمته الشاعرالفلسطيني الكبير المرحوم سميح القاسم.
2- ديوان:عاشق من الجليل .
3 - دراسات في الفلسفة واللاهوت وعلم النفس.
4- كتاب دراسات في أدب الأطفال - الجزء الأول..وسيصدر الجزء الثاني قريبا.
وله الكثيرمن الانتاج الشعري والأدبي والدراسات والأبحاث التي لم تطبع وتصدر بعد.
وكُتبت عن أعماله عدة قراءات وداراسات نقدية... وصدرقبل أكثر من سنتين كتاب ضخم يتناول عددا كبيرا من قصائد وأشعار الدكتور حاتم جوعيه من خلال الدراسة والتحليل – بقلم : الناقدة والشاعرة الفلسطينية القديرة "إيمان مصاروة " .
له عدة كتابات ومخطوطات بعضها على قيد الطباعة من بينها قصيدة المواكب التي ستكون محور حديثي، إذ وجدتُ فيها أحاسيس جياشة.. سامية تفيض حبّا، صدقا، رومانسية، تعالج قضايا كونية عديدة، مواضيع قومية، ذاتية وإنسانية مهمة.. تناول فيها الوطن والخيانة، التطبيع والحب والكراهية، الخير والشر، الدين والنفاق، فساد الأخلاق وانحطاط القيم... قصيدة ذات أبعاد كثيرة، تناولت الهوية الثقافية والوطنية والقومية بامتياز...
1 - عتبة العنوان:
"المواكب" اختار الشاعر حاتم جوعيه هذا العنوان متعمّدا، فهي معارضة لقصيدة "المواكب" للشاعر اللبناني جبران خليل جبران، ويقول: إنّهُ كتب اغلب أبياتها ارتجالا، ردّا ومسايرة لها إثر قراءته لبيتين منها، وجدهماعلى جدارالفايس بوك لأحد أصدقائه. هما: . (فجمالُ الجسم يفنى = مثلما تفنى الزهور وجمالُ النفس يبقى = زهرا مرَّ الدّهور
يقابله المثل الشعبي لدينا يقول: ما يعجبك في الدهر زينو ولا يغرّك فيه طولو الإنسان تذكرو أفعالو محال تذكرو بأقوالو. ومواكب هي جمع لموكب ويقال: موكب أو استعراض أو مسيرة.. يتكون الموكب من أناس يسيرون استعراضيا أمام جمهور للتعبير عن شيء ويكون ذلك غالبا في مكان عمومي: شارع، ملعب، وبزي خاص، موحّد.. وقد يكون الموكب قافلة لركّاب إبل... لنرى من يقصد الشاعر جبران خليل جبران في قصيدته "المواكب" ؟
ومن يقصد الشاعر حاتم جوعيه هو الآخر في هذه القصيدة المعارضة "المواكب".؟
يقول الشاعرالدكتور حاتم جوعيه إنه نظم قصيدته هذه على نفس وزن ونمط قصيدة جبران وبنفس الأسلوب والأفكار والمواضيع...
وحين اطّلاعنا على قصيدة المواكب لجبران وجدناها تتألف من 203 بيتا وتضمَّنت ستة مقاطع من بينها خمسة على وزن الرمل مجزوء والسادس على وزن البسيط.
في قصيدة جبران المواكب هم الأمات والبهائم الذين يسيرون خلف الآخرين دون وعي وقد تكون العادات والمعتقدات التافهة الزائفة... اما قصيدة حاتم جوعيه فإنها تؤكّد وجهة نظر جبران وتدعمها بأكثر توسع وشرح واستغراب وحزن وألم.. وتضمّنت قضايا اجتماعية ودينية ووطنية وثقافية وقومية وسياسية وتألفت من 540 بيتا.
القصيدتان ملحمتان في الهوية الثقافية، العربية والوطنية والسياسية والاجتماعية... كلاهما ارتبطت باللغة والأمكنة والازمنة والدين والسلوكيات والأشخاص... كلاهما تحفر في الهوية، تنبش في التاريخ والجذور، تتشبّث بالأخلاق والقيم... كلاهما تناولت موضوع الخير والشرّ، العدل والظلم، الدين والمعتقدات، المعرفة والجهل، الطبيعة والجمال والأرض والجذور فجمال البيئة والجغرافيا في الوطن والحنين والاشتياق له لما فيه من ذكريات الماضي الجميل وعبث الطفولة...
وقبل تناول قصيدة "المواكب" لدى الشاعر الفلسطيني حاتم جوعيه نسأل ما هي الهوية؟ فكرة الهوية كما وقع شرحها هي منتج وتصوّر بشريّ مرتبط بوعي وأفكار الإنسان والهويّة حسب رأي الفلاسفة لا يمكن أن تكون ثابتة أو جامدة فهي متحرّكة مع التقدم في التاريخ والحضارات وهي تراكمات لأعمال المجموعات وتجاربهم الحياتية وبحسب تفاعلهم مع الواقع وتطوره فالانغلاق على الذات لا يؤسس هويّة... يقول نلسن مانديلا عن الهوية: "من خلال التعرف على التراث الثقافي للآخرين نتعرف أيضآ على أنفسنا.. فالتّراث الثّقافي هو جزء لا يتجزّأ من منهجنا التّعليميّ والتّشكيليّ وهو يشكّل جسرا للتّفاهم والتّعاون بين الثقافات"
وللحفاظ على الهويّة لابدّ من تعزيز التبادل الثقافي وهذا يتمّ بالتّعرف على تراث وعادات ولباس وأكلات وثقافات الشعوب الأخرى.. ولابد من تعميق الإنتماء والهوية الثقافية بالحفاظ على التراث ونقله للأجيال اللاحقة.. ولابدّ أيضا من تكوين رؤيا أوسع للعالم ومسايرة العصر والتطور خاصة التكنولوجي الذي يعتبر أداة قوية للتواصل والتفاعل شرط أن يكون الاستعمال واعيا ومحكما ومسؤولا لأن التكنولوجيا تبقى وسيلة ولا غاية... والتحويلات الاجتماعية في العصر الراهن تجعل من الهوية تلبس ثوبا جديدا يجدر أن يكون منسجما مع الأصل بوعي وفهم وتأقلم وتأطير... وأكثر الأشياء المساهمة في تعزيز التفاهم الثقافي إلى جانب التكنولوجيا هو الأدب بفنونه وأجناسه فهو مرآة عاكسة لثقافات المجتمعات.. ومن خلال الاطلاع والتفاعل والتواصل تحصل الفائدة وتبنى هوية ثقافية حية وديناميكية...
قصيدة المواكب للشاعر حاتم جوعيه ذات طابع ملحمي تتكوّن من 540 بيتا، فهي جمعت قصائد عديدة، كُتبت في نفس الغرض، تعالج نفس المواضيع، تناول فيها صاحبها قضايا ذاتية، وجدانية، وجودية، اجتماعية، سياسية، وطنية، فلسفية،... وكان حضور الدين والإيمان بالله قويّا، ذلك يبدو من خلال تنقّل الشاعر من حالة الغضب والإنفعال الشديد كل مرة إلى الهدوء والسّكينة، وبتتفويض أمره لله واتّخاذ الصبر سبيلا. قصيدة المواكب لجبران كما أشرنا شملت عدة مواضيع: الخير والشرّ، العدل والظّلم، السّعادة والشّقاء، الدين والتّدجيل، العلم والجهل بأسلوب حواريّ فيه أبعاد فلسفيّة ورومانسيّة من خلال طرح مشاعره المتوهّجة، ومناجاته للطبيعة فهي بالنسبة له العالم المثاليّ، النّزيه، والفضاء المقدّس النّقيّ، فيه السعادة المطلقة والعدالة الحقّ، إلاّ أنّ الواقع يعيده لرحاه، فيعود به الشوق والحنين لبلده لبنان بجغرافيته الفاتنة ومناخه الجميل فإذا القصيدة صدى لأصوات عديدة: صوت صدى الواقع، صوت الغاب، صوت الناي، أصوات متقاطعة، متضادة، متشابهة، ثنائية وجماعية،.. يعتبر صوت الواقع، صدى للصّخب والضّوضاء، الكذب، النّفاق، الشّقاء، إضافة إلى الغطرسة والهيمنة والاستغلال والعنف المعنويّ والماديّ بين البشر، يقابله صوت الغاب، صوت النّقاء والحبّ والجمال والرّاحة والاستجمام،.. يتبعهما صوت النّاي بنشيجه وحزنه، بوجعه وأنينه ، هذا اللّحن هو نبض الشّاعر نلمس فيه اشتياقه لبلده لجمال طبيعته الخلاّبة وبساطة العيش فيه، غير أنّ الصّوت يتراجع، ليستسلم للواقع، مقتنعا بتغيّر الحياة والنّاس وفق تطوّر العصر، الذي يفرض مسيرته والتّأقلم مع جديده وقبوله كما هو.. يقول جبران خليل جبران في مطلع قصيدته الكواكب: ( الخير في الناس مصنوع إذا جُبروا = والشرّ في الناس لا يفنى وإن قُبِروا ) بحيث، لا مناص ولا مهرب من كدمات الدّهر فالتأقلم والانسجام معه أحسن الأمور، بهكذا موقف اقتنع الشّاعر الفلسطينيّ حاتم جوعيه، فكان تأثّره بجبران وبكلّ من شابهه وسبقه واضحا، جليّا، أدرك أنّ طريق الخير والعدل شائك وأحوال الناس لن تتغيّر، لذلك كتب ملحمته تكملة وربّما شرحا وتأييدا لمواكب جبران، ... فخطا بتؤدة متوخّيا نفس الأسلوب ونفس البناء ونفس الأفكار مستعرضا نفس المشاكل والقضايا بأكثر توسّع وشرح وتفصيل وبأكثر حدّة وغضب وانفعال، من الواقع، والمجتمع، والأقرباء، والمثقفين، والمسؤولين، والحكام، ومن كل شيء من حوله...
افتتح الشاعر حاتم جوعيه ملحمته بالبيت التالي:
(هذي الحياة كحلمٍ كلّها عِبَرٌ= إنّ اللّبيب بها من كان يعتبر ) .
إذا كان جبران قد استخلص أنّ الخير في العباد مفقود، لا أمل في إصلاحهم لأن الشرّ متجذّر فيهم ومن طباعهم.. فإنّ حاتم جوعيه آمن بذلك وخبِر الحياة واتّعظ واعتبر من همومها وأرزائها التي لا تنتهي.. ويتقاطع مع جبران كون الإنسان العالِم، المتعلّم منبوذ منذ الأزل في حين الجاهل الأحمق مرحّب به وعامّة الناس ينقادون لمثل هؤلاء دون وعي، يتّبعون خطاهم.. يلبسون تصرفاتهم، ينفّذون أوامرهم.. إذ يعتبرونهم قدوة، لذلك وقع تشبيههم بالقطيع والبقر وما شابهها من قبل الشعراء... ويعتبر حاتم جوعيه أنّ اللّبيب عليه التّرفّع عن كل إثم وعهر ويتّخذ الربّ مثالا ونبراسا فيتحلّى بثوب الفضيلة والتّقوى ليكون ثوابه عند الله الأجر الجليل.. وشبّه الدّنيا بالعيَر والدّولاب والرّحى لأنّها غيرُ مستقرّة على حال فكلّ شيء فيها إلى زوال، الناس ضيوف عابرون لا تدوم لهم قصور، لا يطول لهم عمر، لا ينفعهم مال، لا بنون، في النهاية هم زائلون كالقشور زائفون.. وإذا أقرّ جبران خليل جبران أن جمال الجسم فانٍ مثل فناء الزّهور... وجمال النّفس كالزّهور يطول.. فإن جوعيه يؤيّده أنّ جمال النّفس باق وشذاه كالعطور، ويقرّ بخلود الرّوح... يقول جبران: فجمال الجسم يفنى... مثلما تفنى الزّهور
وجمال النّفس يبقى... زهرا مرّ الدّهور
يقابله قول حاتم جوعيه :
وجمالُ النّفسِ يبقى... وشذاه كالعطورْ
جوهرُ الرّوح خلود... ليس تفنيه الدّهور
يرى جوعيه أن الردّ على المظالم يكون بالتجلّد والعودة إلى الإيمان والتشبّع بالذّكر والدّعاء والإكثار من الصلاة فقوّة الإيمان حصن وتحصين لذلك يدعو للصّبر ويفتخر بذاته، يمتدح صموده وثباته في تشبّثه بهويّته الدّينيّة وتقبّله لحكم القدر فهو راض بما أتاه ويستدل بصبر أيوب فيقول:
مثل أيُّوبٍ سنغدو.... سوف نرضى بالقضاء والسّعادة عند جوعيه لا تكمنُ في جاهٍ وقصور بل في ارتداء ثوب الطّهارة والإيمان والتحلّي بالأخلاق الحميدة والتّمسك بالقيم والمبادئ السّليمة والعمل بما جاء في آيات القرآن حفاظا على الدّين القويم والتّربية السّليمة التي ورثناها عن أجدادنا وينصح بعدم الركض خلف متاهات الدّنيا الزّائفة وبيع الهمّة والضّمير فنجده يكثر من التّمجيد والافتخار بذاته لأنه ما شابه المتملّقين وما وكب موكبهم، يكفيه اعتزازا أنّه يختلف عنهم في عزفه وعطره... بفضل عزمه وتحدّيه للمظالم والمآسي والفضل يعود لقوّة إيمانه بالله الذي خفّف من وطأة همومه وأعبائه وجعلها مثل سراب... والنّزيه في عصره يدفع الثّمن باهضا، يلقى العذاب والشّقاء فيوكل أمره للرّب... ويكفي العالِم الصّبور فخرا بمكاسبه المعرفيّة، ووعيه بمحيطه وجهل الآخرين، الذين هم على صراط الظّالين.. إذ الإنسان العالِم شبيها بالنبيّ في قومه، يعيش غربة وعزلة، فهو يختلف عنهم دينا وفكرا ومواقف وسلوكا، لذلك تنبذه العباد وتنفره، فيضطرّ للانزواء والاختلاء بذاته ويكثر من مناجاة الله ويصمّ أذنيه عن القيل ولا يكترث إن لاموا أو عذروا.. لأنّه يستلهم الطاقة والقوة من إيمانه وهو محصّن بملائكة الربّ... يقول:
وكلّ من كان صراط الربِّ ديدنهُ
فإنهُ رابحٌ في السّعي منتصرُ
يواصل جوعيه وصفه لعصره فيقول أنه عصرُ انحطاط ودجل وعهر لذلك هو كئيب وحزين جدا لأجل بلده الذي فقد هويّته، تخلّى فيه النّاس عن قيمهم، تنكّروا لتراثهم، لدينهم، وما صانوا عرض أراضيهم لا أهاليهم، في حين هو يشمخ بقوة شخصيته إذْ لم ينكّس رأسه لأحد فما عرف ضعفا، لا هوانا وما قبل أن يكون عبدا، لا قوادا، وما خاف حزبا أو ساسة، وما رضخ لسيطرة أوغاد وأوباش،وما هزته مغريات أو هدايا، فما تاجر بقضية ولا دنّس أخلاقا ولا ركع أو سجد لوحوش وما قبل أن يكون طعما في بطون القرش الكبير وما سقط في مجازات العولمة وما رضخ لها ولا للمنافقين المهيمنين كما تبعهم الآخرون الذين شبههم بالبهائم فيقول: في مجتمع الرّجس والأوغاد قد رتعت كلّ الزّعانف... كم أرغوا وكم نخروا
ويقول: ( ومعظمُ الناس كالقطعان سائرة = وراءَ وغدٍ وزنديق كما البقرُ )
ويسخر من المسؤولين الساهرين على الوطن قال عنهم أسود نيام... غطّوا في نومهم العميق تاركين الكلاب تصول، تجول... فمات فيهم صوت الضمير وصوت الحق... وجعل هؤلاء التافهين من المعتوهين، ضعفاء الهمّة حرّاسا لهم، عبيدا عندهم، فأوكلوا لهم الأعمال، واستغلّوهم لحسابهم ومآربهم الخاصّة لكيّ يقضوا حوائجهم الفاحشة، وهكذا صار الجهلاء في قومهم أسيادا وعظماء وفتاوى وزعماء.. يكرر الشاعر جوعيه استثناء نفسه كونه لا يشبه أحدا، ويستشهد بطوقان الشاعر الذي هجر وطنه حزينا جرّاء ما لقي فيه من اغتراب وتشرّد... كذلك فعل جبران.. وغيره... فكان حاتم جوعيه يفخر بهويٍته الثّقافيّة وجذوره كونه عربيّا، قوميّا، فارسا، مغوارا، مقداما، يرفض التّطبيع فما خان بلده، ولا سرق أو نهب، ما كان وضيعا لا حقيرا، لذلك نجده يهزأ ممّن باعوا ذممهم فيقول: ( كلُّ من يُعطى من التّطبيع تكريما أقولْ :
إنّهُ ساءَ صنيعا... إنّه ضلّ السّبيل ) .
الشاعرحاتم جوعيه شديدُ التعصّب لانتسابه لما ورثه من ثقافات وعادات وقيم، إذ الإنسان دون هويّة، دون نسب، دون أرض، دون وطن، ذليل، حقير، صغير.. يقول:
( لم اخنْ ميراثَ أجدادي = لم أبعْ اهلي وصحبي شاعرُ الأحرار أبقى = بين قومي كنبي
وبشعري يتغنّى = كلّ شهم وأبيّ
إنّ دربي من لهيب = منذ أن كنتُ صبي
اتغنّى باعتزاز = أنا دوما عربيّ ).
اعتزاز جوعيه بهويّته العربيّة القبائليّة، الصّحراوية، جعلت منه شهما، أصيلا، إذْ الصّحراء صفاء، وفجر ونور، وانطلاق في حياة تخلو من النّزاعات، والصّراعات، الفوائل مشحونة بالدّفء والحبّ، والأمن والأمان وهي ملاذ يرتع فيها الأصائل، تشدو فيها البلابل يقول:
إنّ صحرائي انبثاق = تهتدي فيها القبائلْ
هي فجر وانطلاق. ... ومسار للقوافلْ
وبها النّخلاتُ تسمو وكم ارتاحت رواحلْ
وبها النّسمات تصفو = والعصافير تغازلْ
وسهيل ضاء دوما = في لياليها الطوائل
لم تكدرها صراعا تٌ وأشباحٌ غوائلْ
هي حبٌّ وسلامٌ = هي شدو للبلابل
الوضيع التّافه في رأي جوعيه هو من يستسلم لاغراءات الحياة ويضعف أمامها أمّا الإنسان القويّ. الثابت يتجاوز الصّعاب كفهد ينطلق في الحياة تاركا خلفه كل ما فات ناسيا ما يعكر صفوه..... لكن كما يعود اليأس جبران ما يجعله يستسلم للواقع نجد جوعيه أيضا يعيش كل هذه التّناقضات، إذ يعود به اليأس هو الآخر من حين إلى حين، بسبب الوجع الذي ينتابه من جرّاء موجة الفساد التي تردح في وطنه فيشتدّ سخطه وتتضاعف نقمته على العملاء فيشتمهم وينعتهم بأسوإ النّعوت لا يستثني أحدا، لا سياسيّين، لا إعلاميين، لا صحفيّين.. هولاء يتكالبون ويركضون خلف الشّهرة فيسيرون في طريق العار والعهر والخزي، في جهالتهم ينعمون بجهالتهم، ويهزأ من كلّ موظّف عميل يقبل الإهانة فشبّهه بجرو ينتظر عظما... يرضى بفتات من سيّده، وتراه ينفش ريشه كطاووس... ويسير مبتهجا غير مبال بنجاسته.. فيقول جوعيه عنهم:
بيد الأوغاد طفلٌ = مثل كلب للحراسهْ
كم سياسي وضيع = عندنا باع الضّميرْ
محور الأكوان أضحى = قالها النّذلُ الحقيرْ
خلفه الأوباشُ تجري = مع حثالاتِ الحميْر والعضاريدُ صنُوجٌ = بهتافٍ ... وصفيرْ
عصر لكع وابن لكع = فيه قد ساء المصيرْ عصرُنا عصرُ انحطاطٍ = ليس فيه من نصيرْ
كم هبيل صحفي = صيته صار شهيرْ
إنّهُ نذلٌ عميل = ومع الخزي يسيرْ
ويواصلُ فيقول:
امّعات العصر سادت = أمرُنا أضحى عسيرْ
كلُّ رعديد جبان = صار مقداما جسور
ينفث الرّيش كطاوو س.. كما الثّور يمُورْ والصّناديدُ نيامٌ = كلّ رئبال هصُورْ
وضعنا قد يضحك الثّكلى ومن هم في القبورْ عصرنا عصرُ انتكاس= عصرُ خزي وفجور عصرُ لكع وابن لكع = قد دنا يوم النّشورْ
ليس في الغابات عدل = قال جبرانُ الحكيم
إنَّ عدلَ الناس زيفٌ = ليس يرضاهُ الفهيم
4_ هكذا يتقاطع الشّاعرالدكتورحاتم جوعيه مع الشاعر جبران في العديد من النّقاط، يتماهى معه فيما ذهب إليه وفيما استخلصه عن الحياة فيزداد غضبا لعدم وجود العدل بين النّاس لكثرة المظالم، فسارق الخبز من أجل العيش، ذلك اللّصّ الصّغير يُشهَّر به، يُحاكم، يُعاقب، يُفضح، يُودع السجن.. في حين لصوص البلد الكبار يَهابونهم، ويصيّرونهم أبطالا، فيصيرون أثرياء وعظماء... تنبهر بهم النّاس ويسيرون على نمطهم، يقول حاتم:
إنّ صوتَ الظلم يعلو = واختفى ذاك الضّياءْ // وحشودُ الشرّ تعدو = هي تمشي الخيلاءْ
لم يحجمها نظامٌ = لا ولا حكم السّماءْ
ويبقى الرّجاء أن العدل يوجد عند الله وحده لأنّ الدّنيا فقدت جمالها وعفّتها وعذريّتها منذ الأزل وايادي الأوغاد الدّجالين قد طالت كلّ النّعم فباتت الأرض مهدا للشّقاء ووطن العذاب.. ويقول: إنّ نهاية النّاس القبر والتّراب فلا ينفعهم أصل، لا فصل، لا جاه، ولا شأن.. فسلالة آدم خلقت للعداء والشرّ والتّكالب والتآلب، الخطيئة طبيعتهم، موروثة فيهم، وتفّاحتهم تفوح إغراء، هي شهيّة، بهيّة، وبرغم إنذارات الرّسل والأنبياء والكتب السّماوية للرّدع والتّحذير والتّنبيه ما ثابوا وما تابوا... إنْ الأرض منذ البدء، مكمن للحقد يسكنها أبالسة وأشرار ولو يدرون، عمر الإنسان قصير كالدّخان والسّراب فلا ندم يُجدي، لا بُكاء يُحيي... المساند الوحيد هو الله أحد، لا يشبهه أحد، لذلك يتشبّث الشّاعر جوعيه بالإيمان، مُتحلّيا بالصّبر، مواظبا على الصّلاة فهي تُخفّف من الأرزاء والأَوزار، مُعينة على النّكبات، والله وحده النّصير لمن اتّبعه نورا واتّخذه رفيقا، يجعل له ملائكة تحرسه، والمؤمن القوي لا تُرهبه أهوال. إن جعل الله سندا... يكون جزاؤه عظيما... يقول:
( من يجعل الله نبراسا له سندا =مآله سيكون النّصر والظّفر) . ظلّ حاتم جوعيه يعود إلى نايه وعزفه وحزنه وأنينه فهو أداته في الخلود وهو مزيل همومه وهو ماحي ذنوبه وسرّ هنائه ومصدر سعادته تماما كما فعل جبران إذ اتّخذ النّاي أداة للنّسيان، بل النّاي صوته ومرآته وذاته وطموحه... النّاي أداة نفخ.. ينفخ فيه الإنسان، يعطيه من نفسه وروحه فيصير مغرّدا، يصير متحرّكا، يصير كائنا يصدر أصواتا بعد أن كان جمادا، تماما كما نفخ الله في صورته وأعطاه من نفسه ووهبه الحياة فبات آدميّا وصار إنسانا، دبّت فيه المشاعر، فتحوّل من جماد وطين إلى لحم ونبض ودم.. وإذا اتّخذ كل من الشّاعريْن النّاي وسيلة للمضي في الحياة إذ هو رمز الحياة ونبضها وهو الكون والفضاء وهو الطّبيعة والصّفاء... النّاي رفيق الرّاعي في الفيافي، يؤنسه في وحدته، يلهمه، يطربه، يشجّعه، ينشّط الكائنات، فتغرّد طيور وتركض خرفان، وتضحك فراشات، وتفيق من سبات وتخفق شمس وتهفو نسمات.. وحده النّاي عازف الحياة، رفيق الذّات ، معيد لها الذّات، إلاّ أننا نتفاجأ بالشّاعر جوعيه يستدرج آلة موسيقية أخرى هي العود، والعود قديم قِدم الأجداد، عُثر عليه في قبور أور التّراثيّة والحضارات السّومريّة كذلك العربية إذ ازدهر في العصر العباسي الطّرب وزها الغناء.. فنجده يراوح بينهما، تارة يطلب هذا وطورا يدعو الآخر، أخرى يستدعيهما الاثنان معا، ليس حيرة واضطرابا إنّما فخرا واعتزازا بنسبه وهويّته، هروبا من واقع لا فائدة من اصلاحه، يقول : أعطني العود ومنّي. استمعْ لحن الخلود
إنّ صوتي علويٌ .... ساحر كلّ الوجود ْ
أعطني العودَ فإني = بغنائي سأجودْ
فيه أطيافُ التّمنّي = كلّ أنغام السّعودْ
إنّ صوت العود يبقى = بعد أن يغفو الوجودْ
كلُّ مجهول سيأتي = ما مضى ليس يعودْ
بقي الشّاعر جوعيه متنقّلا ببن ناي، وعود...، فهل أراد التميّز عن جبران كي لا يختصر على التّقليد في الأسلوب، والموضوع بتكرار نفس القاموس اللّغوي في قصيدة المواكب الملحميّة الشّهيرة فأراد تخليد اسمه مبدعا مجدّدا له بصمة تميّزه، ويقول عن العود مادحا برغم ما كتبه من ميزات عن النّاي الذي هو صوته وصداه : ( أعطني العود وغنّ = أيها الشّادي الأمين //
إنّ صوت العود أحلى = من صدى النّاي الحزينْ فيه تهذيبٌ وفنّ = وسموٌّ للفطينْ
السّؤال هنا، ما الدّاعي من إقحام صوت العود في هذه المعارضة؟ هل فعل حاتم جوعيه ذلك، حتى لا يقتصر على التّقليد كما ذكرنا، أم ليبرز أنّ النّاي كونيّ وعالميّ، عرفه الإنسان منذ بدء التّاريخ، رفيقه في حزنه وفي عزلته، في شدوه وفرحه... بيننا آلة العود، لها أصولها وتاريخها يعود صنعها لتاريخ عظيم، زمن ازدهار الحضارات وتقدّم المجتماعات ودليل الرّفاهة، لذلك أراد الفخر بهويّته وانتمائه الثّقافي الذي يعود لآلاف السّنين ، وأراد الترفّع كونه عازفا جيّدا يتقن العزف على العود إضافة للنّاي... ففي ألحان العود رقّة وجمال، هو فنّ راق مهذّب للنفوس.... ويقصي من هذا الفنّ غير الفطنين... ولا يفهم صوت العود إلاّ المتعلّم والمثقّف والعالِم والباحث الفهيم...
كرّر الشاعر جوعية مفردة العود في ملحمته سبع مرّات... كالآتي..
أعطني العودَ ومنّي تسمع اللّحن الطّروبْ
إنّ صوت العود يحلو بعد أن تبدو الدّروب
إنّ صوت العود يبقى بعد أن ينضو الشّحوب أعطني العود وغنّ أيّها الشّادي الأمين
إنّ صوت العود أحلى من صدى النّاي الحزين أعطني العود وغنِّ أطلق الصّوتَ الأصيلْ أعطني العود وغنّ فالغنا نور ونار
بينما استدعى النّاي طالبا إيّاه للغناء ما يقارب 75مرة، ضمن أبيات شعريّة أقحمها كلازمة للحفاظ على إيقاع وزن القصيدة، بالرغم أنّها عموديّة وللرّبط بين المقاطع الشعرية حين انتقاله من فكرة لأخرى... وهذا ما فعله من قبله الشّاعر جبران خليل جبران، الذي جعل نفس اللاّزمة َفي مواكبه " أعطني النّاي وغنّ... و." في إثر كل مقطع من مقاطعها السّتّة، فذكر الناي 35 مرّة...
5 ـ وقبل أن أنهي قراءتي هذه، وعلى ضوء اطّلاعي على القصيدتين... ألاحظ أن مواكب جبران كانت دقيقة، ثابتة، واضحة، مكثّفة ومختصرة، مدروسة بعناية فائقة، دراسة واعية وجيّدة، إذ تناول فيها صاحبها ثنائيّات من الأفكار في كلّ مقطع من مقاطعها الخمسة الأولى، متجنّبا التْكرار والعودة لفكرة تناولها، وجاء المقطع السّادس مختلفا عن البقيّة إعلانا عن نهاية القصيدة، وانتهاء القول، والعزف والغناء، فكان التّعبير عن الحنين والاشتياق لمسقط الرّأس لبنان، وعدم التنكّر لهويّته، فهو مقتنع بالمصير مُتقبّل الواقع... ، ناسيا ما قيل وقال، فيقول:
أعطني النّاي وغنّ وانس ما قلتُ وقلتا
إنّما النّطق هباء فأفدني ما فعلنا
هل اتّخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور
إلى أن ينتهي في هذه اللاّزمة بقول:
ليت شعري أيّ نفع في اجتماع وزحام وجدال وضجيج واحتجاج وخصام فالذي يحيا بعجز فهو في بطء يموت
وفي مقطعه السّادس والأخير يختم، فيقول :
لكن هو الدّهر في نفسي له م... آرب فكلما رمت غابا قام يعتذر // وللتّقادير سبل لا تغيّرها والنّاس في عجزهم عن قصدهم قصروا
في حين العزف في مواكب الشّاعرحاتم جوعية، كان إيقاعا، متقلّبا، مضطربا، صاعدا، منحدرا، قويّا، ضعيفا، مرتفعا، خافتا، غاضبا، هادئا، منتشيا، حزينا، متفائلا، متشائما، ... فالإيقاع ما ثبت وما استقرّ وما هدأ ، كان في كلّ مرّة يتغيّر، بحسب المقطع الذي سبقه والفكرة والموضوع الذي سبح فيه برغم الثّنائيّات والتّناقضات المتناولة وبحسب تأثيرها في شخصه وانعكاسها على نفسيته، فهو كلّما افتقد شيئا في وطنه، من هوية، وثقافة، وحضارة، يتألم فيكون عزفه صراخا، ويكون صدى الإيقاع عاليا، هائجا، كموج البحر، كصوت الضجيج، غير أنه ينزل وئيدا وتهفت حدّة انفعالاته، ويعود للهدوء، والسّكينة، بالتجائه للخالق، والإكثار من الدّعوات والصّلاة، وايكال الأمور له، فهو عالم الغيب وهو المدبّر، فقوّة الإيمان، تشحن النّفس بطاقة إيجابية، تجعلها، تتمسك بالأمل وتجعل صاحبها صابرا في قومه كنبيّ لا يعرف التراجع، أو التّخاذل أو الاستسلام... والتمسّكَ بالأصول والقيم والفخرَ بالانتماء والانتساب، هو اكتساب للهويّة وحفاظ من التشتّت والاندثار..
فهل يمكن القول أنّ صدى النّاي وما يطلقه من زفرات في صورة أنغام هو نداء وحفاظ على هويّة الإنسان الآدمية..
وصدى العود وألحانه هو نداء وتشبّث بجذور الأجداد وفخر بالانتماء لأصول عربيّة توحّدهم لغة الضّاد لغة كتاب القرآن الكريم، وترسيخ للهوية العربيّة القوميّة، وها هنا تبرز شخصيّة الشاعر الفلسطيني الدكتور حاتم جوعيه، ويبرز ابداعه شاعرا يعبّر عن هموم النّاس قاطبة من خلال صيحة الفزع هذه بتناول جميع القضايا الإنسانية، هي صيحة خاصة تعبّر عن شخص المواطن الفلسطيني الذي برغم طرده وتهجيره ومحاولة سحقه، هو متواجد في قلب العالم وهو بوصلته ووجهته، فمهما تشرّد وشُرِّد يظلّ انتماؤه لأرضه ووطنه، راسخا، متجذّرا... ويبقى وشما على الجبين، نقشا على جدار القلب، فالهويّة هي الإنسانية وهي الكيان ودونها، الإنسان والحيوان سواء...
0 comments:
إرسال تعليق