عندما سمعت المفكر عبد الله النفيسي يصف أم كلثوم بأنها "فنٌ للإيجار"، شعرت بقدر من الذهول. لم يكن ذهولي من نَقد فنّيّ، بل من اختزالٍ حادٍ لصوتٍ طالما ارتبط في وجداني، ووجدان ملايين غيري، بالكرامة والقرار والنضج العاطفي. هل يُعقل أن يكون هذا الصوت المتمكّن، القائد لفرقة من الرجال، القائل "أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي"، مجرد أداة في يد السلطة؟
منذ تلك اللحظة، بدأت أسترجع ما غنّته، لا من باب الحنين، بل من باب القراءة. قراءة لأنوثة واعية، تقرر ولا تذوب، تحب دون أن تتنازل، وتقاوم من مسرح غنائي، لا من منصة سياسية. من هنا وُلد هذا النص، لا ليجادل النفيسي فقط، بل ليُعيد الإنصات لصوتٍ لم يكن مجرد طرب... بل خطاب انثوي واعٍ. .
لم تكن أم كلثوم بحاجة إلى أن تُنادي بالمساواة كي تُجسّدها. وقفت على المسرح في منتصف القرن العشرين، تقود فرقتها المؤلّفة من رجال بنظرة، بإشارة يد، وبانضباط يسبق عصره. لم يكن ذلك مجرد تنظيم، بل إعلان رمزي: ها هنا امرأة لا تُقاد بل تقود، لا تتبع النوتة بل ترسمها.
كان صعودها إلى المسرح فعل تمثّل للسلطة، لكن من نوع آخر. سلطة ناعمة، لا تصرخ بل تُتقن، لا تستعرض بل تفرض حضورها بالثقة. وهذا الحضور، وإن بدا فنّيًا خالصًا، كان في عمقه إعادة تموضع لمفهوم القيادة في الوعي الجمعي العربي، في زمن كانت فيه المرأة تُطالِب بالحق في القرار، لا بالصوت فحسب، بل بالوجود كله.
في أغانيها العاطفية، لم تكن أم كلثوم تغني لتستسلم، بل لتفهم. لم تُقدّم الحب بوصفه نقيضًا للكرامة، بل امتداده النبيل. حين تقول: "أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي"، فهي لا ترفض الحنين، بل تُعيد تعريفه في حدود القرار.
في "فكروني"، تصف التعايش مع الغياب كفعل نضج، لا كعجز: "بعد ما اتعودت بعدك... غصب عني". أما في "بعيد عنك"، فحتى وسط "حياتي عذاب"، لا تفتح الباب للعودة، لأن الرغبة لا تتفوّق على احترام الذات.
هذا النمط من الغناء لا يبحث عن تبرير للضعف، بل يصوغ مساحة شعورية تقاوم الذوبان في الآخر. إنه حب على شروط الذات، لا على إملاءات الفقد.
في "للصبر حدود"، تقف أم كلثوم على الحافة، لا لتتوسّل، بل لتُعلِن. تبدأ الأغنية بتراكم الشجن، لكنها لا تنتهي بالبكاء، بل بالقطيعة.
أما في "حب إيه"، فالصيغة أكثر صدامًا :
****حب إيه اللي انت جاي تقول عليه؟ — سؤال لا ينتظر إجابة بقدر ما يُعيد تعريف العلاقة من أساسها. الأغنية لا تُنكر الحب، بل ترفض تزييفه، وتعرّي العلاقة حين تفقد شرط الاحترام. الصوت هنا ليس صوت محب خائب، بل صوت واعٍ يرى في الانسحاب انتصارًا.
في "هجرتك"، لا تنكر أم كلثوم الألم، لكنها ترفض أن تكون أسيرته. تقول: **"غصبت روحي على الهجران"**، وهي عبارة تختصر صراعًا داخليًا مريرًا، لكن محسومًا الهجر هنا ليس استسلاماً ،بل حماية للذات.
هذا البُعد يُظهر الحب في أكثر حالاته نضجًا: أن يُعاش بحسّ، ويُترَك إذا صار يؤذي. ليست هذه أغنية فراقٍ رومانسي، بل بيان استقلال عاطفي.
### "أنا لن أعود إليك": حين يصبح الحسم هو ذروة الحب
وفي أغنية " أنا لن أعود اليك "، لا تكتفي أم كلثوم بإعلان القطيعة، بل تُحمّلها بوعي أخلاقي وشعوري عميق. تقول: **"أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي"** — جملة تختصر صراعًا داخليًا بين الحنين والكرامة، وتنحاز بوضوح للثانية.
الأغنية لا تُدين الحب، بل تُدين من خان شروطه. تقول: **"أنت الذي بدأ الملالة والصُّدود وخان حبي"**، لتُعيد ترتيب المسؤولية وتُعلن أن العودة ليست ضعفًا، بل قرار لا يُمنح لمن لا يستحقه.
لم تكن أم كلثوم مجرّد حنجرة ذهبية تسافر بالأحاسيس، بل كانت مشروعًا كاملاً لإعادة تعريف العلاقة بين المرأة والعاطفة والسلطة. في زمنٍ كان يُطالَب فيه النساء بالصمت باسم الحب، غنّت هي **لتَختار لا لتُخضع**، **ولتُعبّر لا لتُستدرَج **.
من "أنا لن أعود إليك" إلى "للصبر حدود"، ومن "فكروني" إلى "هجرتك"، قدّمت نموذجًا للمرأة التي تُحب بكامل حضورها، لكنها لا تتنازل عن ذاتها. علّمتنا أن الكرامة ليست عائقًا أمام العاطفة، بل شرطًا لصحتها، وأن التخلّي أحيانًا هو أصدق أشكال الحب… لأنّه حبٌ موجّه نحو النفس أولًا.
وربما هنا يكمن سرّ استمرارها، ليس فقط كأيقونة طربية، بل **كخطاب أنثوي باكر، سبق زمنه، ورَسّخ في وجدان أمة كاملة فكرة بسيطة وعميقة: أن لا حب بلا كرامة، ولا أنوثة بلا وعي**.
0 comments:
إرسال تعليق