سقى الله أيام زمان
صادف التاسع من أيار يوم النصر على النازية، وهو عيد وطني كان الاتحاد السوفياتي، قبل انهياره، يحتفل به مستعيدًا ذكرى نصر جيشه الأحمر على ألمانيا النازية واستسلام قادتها بعد حرب أزهقت فيها أرواح عشرات الملايين من البشر وبضمنهم أكثر من عشرين مليون روسي .
أتذكّر اليوم كيف كُنا، في سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، نحتفل، ونحن بعد طلاب في الجامعات الاسرائيلية، بهذه الذكرى. كانت المشاركة مقصورة على الطلاب العرب اليساريين وعدد من حلفائهم اليهود غير الصهيونيين؛ في حين كان معظم الطلاب اليهود وبعض الطلاب العرب المحسوبين على التيار القومي، أو من غير انتماء سياسي، يقاطعون المناسبة.
كنا نتوجه إلى غابة تقع بجانب قرية "أبو غوش" القريبة من مدينة القدس، وكنا نستبق الاحتفال الرسمي بنشاطات تثقيفية وترفيهية نبدأها مع مغيب شمس الثامن من أيار، ثم نلتحق في غداته بعشرات الوفود المحلية والعالمية التي كانت تؤمّ الغابة لتحتفل بنصر قوى الخير على قوى الشيطنة والشر النازية.
لم ترُق هذه الاحتفالات لقادة إسرائيل في ذلك الوقت؛ وكان حضور الدولة الرسمي فيها شبه معدوم. يعود ذلك للخلافات السياسية العميقة التي كانت قائمة بين الطرفين والمتعلقة بمواقف "الاتحاد السوفياتي العظيم"، كما كنا نسمّيه، ودعمه الواضح لمصالح معظم الشعوب العربية وقادتها، وفي طليعتهم القائد جمال عبد الناصر .
عيد النصر على النازية كان بالنسبة لنا يومًا ذا معنىً فريد، ولقد شكّلت مناسبته عاملًا في تكوين فكرنا ومفاهمينا ومواقفنا السياسية، كما شهدت عليها أشجار السرو والصنوبر في "الغابة الحمراء" وهو الاسم الذي أطلق على موقع الاحتفال، تيمّنًا بأبطال الجيش الأحمر وبعلَمهم حامل المطرقة والمنجل والنجمة التي لا تنام.
كنا ننام في جبال القدس وأعيننا متجهة نحو الساحة الحمراء في موسكو، التي حسبناها، بعد أن أدمنّا الوهم، أنها لن تُمس ولن تقهر؛ وكنا ننتشي، بنشوة الفقراء، ونحن نشاهد الاستعراض العسكري الجبار وقادة الكرملين يقفون كأبطال من الملاحم والأساطير على منصة عالية ويحيّون فرق الجيش التي تمنّينا ألا تنتهي طوابيرها، بأيادٍ ممدوة لا تهتزّ ولا تتعب .
مرّت الأعوام وتحلّل الاتحاد السوفياتي وبدأت أقماره بالانسلاخ عنه وباستعادة تشكّلات عناصرها الأصلية من جديد؛ فمنها من استرجع معادنه السماوية البدائية، ومنها من استبعث تاريخه من أجل بناء دولة قومية نمت في الخفاء تحت ظلال الاشتراكية، ومنها ما زال يواجه أطماع قادة روسيا اليوم، وريثي أحلام القياصرة وأوهام شمس أفُلت فغاب معها أمل "المعذبين في الأرض وبؤسائها" وتعثّرت بعدها مسيرات الشعوب في الانعتاق والتحرر .
بوتين أهو المنقذ الشافي؟
لا أعرف كم من أبناء جيلي كان يتصور أن نحيا ليوم نرى فيه على "منصة أحلامنا" الحمراء رئيس روسيا وهو يقف محييًا جيش الدولة الحلم وإلى جانبه "يتطاوس" بنيامين نتنياهو، خاصة بعدما اقترفت يداه وما شهدته المنطقة من تداعيات ميدانية وسياسية خطيرة ؟
فزيارة نتنياهو إلى موسكو جاءت بعد إعلان الرئيس الأمريكي ترامب عن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الموقّع مع ايران وعزمه على الشروع بفرض عقوبات اقتصادية قاسية عليها؛ وبعد قيام الطائرات الإسرائيلية، وليست هذه المرة الأولى والوحيدة، بقصف مواقع عسكرية في عمق الأراضي السورية وايقاعها بعض القتلى من العسكريين الايرانيين وخسائر مادية كبيره.
لم يكن مشهد اصطحاب نتنياهو على منصّة الشرف التاريخية في عيد روسيا الوطني هو التفصيل الغريب الوحيد في هذه الزيارة، فأقواله وهو على الأرض الروسية كانت أكثر إثارة ومدعاة للتوقف ومساءلة أتباع بوتين المؤمنين بكونه مخلصهم الأوحد والمدافع الأمين عن مصالح شعوب المنطقة وعن الفلسطينيين بشكل عام وعنا كأقلية قومية تعيش في إسرائيل.
قد يقول البعض إن المخفي أعظم، فبوتين استدعى نتياهو كي ينهره ويُخطره ويوقفه عند حدّه لأنه قائد عنيد وحليف صادق لقضايانا ومؤمن بقيم الشهامة والمواقف التي لا تلين ولا تحيد؛ لكنني أخشى أن تكون تلك مجرد أماني وأحلام عاثرة، لا سيّما إذا سمعنا كيف تشاوف نتنياهو وهو في حضن روسيا حين قال " قضيت عشر ساعات بمعية بوتين واستعرضت أمامه وثائق الأرشيف النووي الايراني وأكدت أمامه بشكل عميق على حقنا وواجبنا للقيام بكل الخطوات من أجل الدفاع عن أنفسنا في وجه العدائية الإيرانية" . وأضاف: "لا يوجد لديّ سبب كي أعتقد بأن روسيا ستضيّق علينا حرية العمل في سوريا". كلام في منتهى الوضوح والخطورة.
لم نسمع من بوتين أو من غيره نفيًا أو تصحيحًا لما صرّح به نتنياهو، الذي عاد إلى إسرائيل ليقرأ أنّ قوته الانتخابية قد ازدادت مؤخرًا بشكل كبير، وأنه سيحصد ، لو جرت الانتخابات اليوم، 35 مقعدًا في الكنيست، بينما سيأتي بعده حزب يائير لبيد ب 18 مقعد فقط. فمن هو بوتين يا ترى؟
نتنياهو أهو ساحر أم تاجر حذق؟
لو نتوقف للحظة ونتذكر كيف توقعنا قبل مدة قصيرة نهاية نتنياهو الوشيكة وراجعنا تطوّرات الشهر الأخير في حياته، لوجدنا أنه نجح بإبعاد شبح الانتخابات عن صدارة الأخبار اليومية، ودفع إلى الهوامش تفاصيل قضايا التحقيق معه ومع زوجته.
بالمقابل فلقد استطاع اقناع دونالد ترامب بموقفه من ايران وبعد ضمانه تغيير موقف أمريكا، كما شاهدنا، توجّه إلى روسيا ليكمل لعبه مع الكبار، وكأنه يقول لمن يعاكسونه، كم أنتم أقزام ! أنظروا من هم أندادي فأين مني حضيض أنتم به؟
قد يغضب كلامي الكثيرين، فأنا أعرف من يرفضون التشكيك في نوايا النظام الروسي أو حتى مساءلته؛ لكنني أعي أن روسيا اليوم هي ليست ذلك "الاتحاد السوفياتي العظيم" وأعرف أن النظام السياسي العالمي المتداعي والمتشيّء هو ليس شبيه النظام الذي تقاسمته قوتان، يوم كان حذاء خروتشوف يهز أركان المعمورة ، واحدة أسميناها قوة الشر وفي مواجهتها وقفت قوة الخير وشمس الشعوب، حبيبتنا روسيا.
فهل فعلًا يلعب نتياهو مع الكبار ؟ انه بلا شك سياسي محنك وقدير، وقد نراه يحلّ حكومته بعد الرابع عشر من مايو / ايار ، يوم سيفتتح كالقادة الكبار، سفارة أمريكا في القدس، ويذهب بعدها إلى انتخابات عامة ستتوّجُه ملكًا على إسرائيل.
أعرف أنه يجب الانتظار لنتحقّق من نتائج زياراته الأخيرة ومن مصيره القضائي؛ فمن المستحيل التكهّن بما ستؤول إليه منطقتنا وكيف ستبدو ألوان أعلامها بعد شهور، ومن سيكون على كرسيّه في الحكم ومن سيكون على شرفة التاريخ.
كل الاحتمالات واردة وكم أتمنى أن تكون روسيا اليوم وأن تبقى صديقة مؤثرة لصالح فلسطين ولشعوب المنطقة لا حليفة لبعض حكامها الفاسدين والمستبدين؛ لكنني أعتقد أنّ ما نشاهده في منطقتنا وفي مناطق أخرى من العالم لا يتعدّى كونه صداماً بين مصالح دول كبرى تتدافع نظمها الحاكمة من أجل تعزيز نفوذها والسيطرة على مقدّرات تلك الشعوب والمناطق؛ ولعل بوتين ونظامه مثل نتنياهو وأشكاله من السحرة الماهرين في فنون المقايضات والتجارة؛ فكل من يحضر السوق يبيع ويشتري. لننتظر ونرى.
.
0 comments:
إرسال تعليق