روش باش أبا الطيّب.
مَن ، مَن المتكلِّم ؟
صاحبك الذي لا ولن ينساك.
قال المتنبي متهكِّماً : أفلمْ تنم ليلتك الفائتة جيداً ؟ قلت بلى، نمت جيداً كما لم أنمْ من قبلُ. قال إذن ما الذي دهاك وما الذي أصابَ رأسك حتى أصبحتَ تهذي وتُخرِّف بكلام شبيه بالهلوسات. بأية لُغى نطقتَ ؟ يا سيدي أبا الطيب إنها ليست هلوسات، ما زال عقلي في رأسي والحمد لله سليماً قوياً معافى. إنما صبّحتك بلغة أحبابك وأحبابي الكُرد. هل نسيتَ صاحبك القائد العسكري الذي أتى الكوفةَ مأموراً من قبل مركز الخلافة في بغداد وأكرمك مع من أكرم من وجهائها الذين تصدوا للفتنة التي قام بها (( خارجيٌّ من بني كِلاب )) عام 353 للهجرة ووضعوا حدّاً لما وقع فيها من أعمال التخريب وأنقذوها من السلب والنهب والسبي والقتل والحرق ؟ قال تقصد القائد الكردي " دلّير بن لَشكَروز " ؟ نعم يا أبا الطيب، إنه هو بعينه. ألم تتعلم منه شيئاً من لغته الكردية وقد أغرقك ( أو غرَّقك ) بالهدايا النفيسة فقلتَ فيه قصيدتك التي إستفزّت وما زالت تستفزّ بعض القوم حدَّ إتهامك بالشعوبية ومعاداة العرب لأنك مدحت شخصاً غير عربي. كان وجهُ صاحبي جامداً لامعاً كطقعة رخام صقيل خلواً من أي تعبير. صمتَ بُرهةً ثم قال : تقصد قصيدتي التي مدحتُ فيها " دلّيْر " والتي بدأتها بقولي :
كدعواكِ كلٌّ يدّعي صِحةَ العقلِ
ومن ذا الذي يدري بما فيهِ من جهلِ
…
تُريدين لُقيانَ المعالي رخيصةً
ولا بُدَّ دون الشهدِ من إبَرِ النحلِ
قلتُ بالضبط، إنها هي بعينها. قال وما الذي أغاض بعض القوم في هذه القصيدة وما علاقتها وعلاقتي بالشعوبية أو معاداة العرب ؟ هل هم أكثر عروبةً مني أصلاً وفصلاً ونَسَباً وعلوَّ مُحتد ؟ دعهم في غيهم يعمهون. دعهم ككلاب الحوباء ينبحون القمر والنجوم. لا أضيّع وقتي مع هذا النفر الضال والأعمى والمقتول بالتعصب الذي تسمونه في هذه الأيام ( شوفينية ). خففتُ من إندفاعة صاحبي الذي أخذته العِّزةُ بالإثم كما يقال. قلت فلنعدْ لسؤالي الآنف : ألم تأخذ شيئاً من لغة هذا الرجل الذي أنعم عليك ووضعك في ميزانك الثقيل الذي تستحق عن جدارة وأنصفك رغم أنف خليفة بغداد والمتنفذين يومذاك فيها ممن كانوا يكيدون لك في السر والعَلَن من أمثال الوزير المهلّبي وصديقه الحاتمي وأضرابهما من المتشاعرين وزعانف الشعر. قال بعصبٍ بارد : وهل تريد مني أن أتعلّمَ لغة غريبة عليَّ في بحر يوم أو يومين ؟ ثم ـ وهذا هو الأهم ـ كان لسان الرجل " دِلّير " عربياً خالصاً وما نطق أمامي بحرف واحد من لغته الأصلية أو الأم، لغة قومه الكُرد. كيف إذن أتعلم اللغة الكردية من رجل لا يتلكم إلاّ العربية ؟ أشعل سيجارةً وأدخلَ نصفها دُخاناً في رئتيه ثم قال متهكماً متشفياً ساخراً : هل أتقنتَ أو تعلّمتَ أنت اللغة الكردية وقد أمضيتَ عاماً كاملاً في مدينة السليمانية ( 1973 ـ 1974 ) تُدَرِّس الأولاد في الجامعة ؟ سؤال وجيه يا أبا الطيب ولكن، كنتُ أقوم بمهامي التدريسية باللغتين العربية والإنجليزية. ومع ذلك تعلّمتُ بضعة كلمات للتداول اليومي من قبيل السلام صباحاً والسلام مساء وتحية الإفتراق وما شابه ذلك من أمور غاية في البساطة. قال وماذا عن التسوق وإبتياع ما يلزم المرء من حاجات معيشية تنفع يومه أو غده ؟ لا مشكلة يا أبا الطيّب، كان أصحاب المحلات المُنوَّعة يتكلمون العربية بهذا الشكل أو ذاك. عربيتهم بسيطة وكرديتنا أكثر بساطة ( عربية مُكسَّرة تقابلها كردية أكثر تكسيراً وكان اللهُ في عَون الجميع ). هم يبيعون ويجب أن يبيعوا، ونحن نشتري لأننا يجب أن نبتاع ما يُقيمُ أَوَدَنا وما يعيننا على مواصلة الحياة والتدريس في الجامعة. بيننا جسر متين إذن وقاسم مشترك. ثمَّ لا تنسَ لغة الإشارة، إنها لغة عالمية دَرَجتُ على إستخدامها حيثما وأينما كنتُ وسافرتُ في شتى أصقاع العالم شرقاً وغرباً، شَمالاً وجَنوباً. قال قد فهمت، بارك الله فيك. إذن نحن متساويان في التقصير. قلت لا تحزنْ يا أبا الطيّب ولا تبتئِسْ، ستكون الكردية لغة البلد الثانية. سيتعلّمها طلاب المدارس في مُختلف مستوياتهم التعليمية، وسيعم إنتشارها في العراق ولاسيّما في دوائر الدولة.
تركنا المكان وقمنا بجولة تمشٍ طويلة على الأقدام. إقترح المتنبي أن نتناول شيئاً من مُرطِّبات الصيف في هذا الشهر اللاهب الحرارة ( تموز، شهر الثورات ) فرأى أن نُطفيء حرارة الجسد واللسان بشيءٍ من ( الآيس كريم ). طلبَ (اليوغورت) Yoghourt وطلبتُ أل ( سترو بري ) Strawberry. شرعنا نتمشى في الطُرقات نتكلم حيناً ونترّشف ما في أيدينا من مخاريط المرطبات كما يفعل صيفاً سائر البشر المتمدِّن. كان صاحبي شديد الولع بما لديه. يغرسُ لسانه حيناً ويلطع أو يلحس أحياناً ممتِعاً نظره فيما تبقّى من الآيس كريم كأنه يخشى أنْ تنتهي محتويات المخروط. طلب مخروطاً ثانياً بأربعة كُراتٍ من الستروبري الأحمر اللون ثم إنتحينا جانباً للتمتع بقسط من الراحة إستعداداً لجولة جديدة من النقاشات الحادة. جلسنا على إحدى مصطبات المنتزه القريب الذي تظلله الأشجار الباسقة وتزينه الورود ونافورة الماء المتدفق بفخر وإستعلاء نحو السماوات العُلى. كنا قد أتفقنا من خلال البريد الألكتروني أن نناقش معاً موضوعة أكراد الحلة. كنتُ أعرف أن المتنبي يكنُّ للشعب الكردي كل الإحترام والود. كان هو في الحقيقة من إقترح أن أزوِّده ببعض المعلومات عن كُرد مدينتي الحِلّة. لم أعتذر رغم أنني لا أملك من المصادر ما يسمح لي أن أخوض في صلب هذا الموضوع الخطير. بلى، لديَّ مصدر واحد مؤلفه رجل جليل وصديق قديم ومربٍ فاضل تعرفه مدينة الحلة حقَّ المعرفة. إنه الشيخ ( يوسف كركوش ). إعتمد الشيخ كركوش على العديد من المصادر القديمة القيّمة فضلاً عن أحد أعداد مجلة المجمع العلمي العراقي ( المجلّد السابع، الجزء الأول، الصفحات 96 ـ 98 ). كما أقتبسَ الكثير من المعلومات المتعلقة بتأريخ الحلة ونشوئها والذين أسسوها ومصّروها من شيوخ وأمراء بني أسد من آل مزيد … إقتبسها من تأريخ إبن الأثير المعروف بالكامل ومن مصادر أخرى كثيرة. قلتُ لصاحبي : هل من مخروط ثالث بخمس كراتٍ من الآيس كريم ؟ قال كلاّ، لقد جمد لساني فأضحى الكلام في فمي صعباً. هل تحب الإضطجاع على هذه المصطبة ريثما ترتاح قليلاً ؟ قال كلاّ، بل أود أن نخوض في موضوعنا الذي خصصنا له كامل هذا اليوم. طلب مني ـ كواحد من أبناء مدينة الحلة ـ أن أقصَّ عليه أولاً ما أعرف أنا عن كُرد الحلة قبل الخوض فيما قال المؤلفون والرحّالة والمؤرخون. أجل سيدي أبا الطيب، أهل مكّة أدرى بشعابها. في الحلة محلة قائمة بذاتها تُسمّى [ محلة الكراد ]. ولست متأكداً هل أنَّ سَكَنة هذه المحلة هم جميعاً أو بعضاً من الكُرد أم مجرد تسمية، إسم بلا مُسمّى. ثم إني قضيت ربع قرن من حياتي في الحلة لم أتعرف على أي شخص حلاّوي يقول إنه كردي. نعم، تعرف الحلة عائلة ( العجمي ) المعروفة ببيع الحلويات والدوندرمة بل وحتى الهريسة في صباحات الشتاء المبكِّرة في مقهى سومر لأصحابها جبار ونجم عبود العجمي. وتعرف الحلة عائلة ( الهندي ) وعوائل نزحوا إليها من مناطقَ ومدن أخرى. فهناك عائلة ( الفلوجي / من الفلوجة ) وهناك محلة الجباويين وآل الجبّاوي ( من مدينة جُبّة ) ومنهم الصديق العزيز الطبيب الإختصاصي الدكتور حسن الجُبّاوي، ثمَّ محلة الهيتاويين ( من هيت ) وآل البيرماني ( من قصبة بيرمانة ) وعوائل أخرى من مناطق أخرى من العراق. لكنْ ـ وهذا هو بيت القصيد ـ ليس في الحلة من يتلقب ب ( الكردي ) على حد علمي. تنحنح صاحبي وكان طوال الوقت مغمض العينين يصغي لحديثي. قلت له قلْ ولا تتأخرْ، يبدو أن لديك إضافةً أو إعتراضاً . قال أجلْ، نسيتَ ذكر عائلة أصدقائك من آل كريدي ( فاهم ونادر وممتاز ). قلت على الفور : كريدي هو إسم جد هذه العائلة الكريمة ولا علاقة له بالقومية الكردية وإنْ أُشتُقَّ منها على صيغة التصغير[ كردي ـ كريدي ]. وهذا الأمر شائع في العراق إذ نقول بديوي تصغيراً لبَدَوي و عليوي تصغيراً لعلي و هنيدي تصغيراً لهندي وهكذا. ثم، لعلمك يا صاحبي، لي في الحلة قريب من جهة والدتي أخرس اللسان إسمه " تُركي " ولا علاقة له بالتُرك. قال إنما " الكُرد " هو موضوع حلقتنا لهذا اليوم، لا التركي ولا العجمي ولا الهندي، فلِمَ لا تتأكد من أصل تسمية " كريدي " من صديقك إبن الحلة الدكتور ممتاز كامل كريدي وهو معك في ألمانيا ؟ قلتُ سأفعل (( إتصلتُ صباح هذا اليوم، الأحد الموافق 31 / 7 / 2005 بالصديق الدكتور ممتاز كامل كريدي مستوضحاً فقال إنَّ والده عربيٌّ عزّاوي، من قبيلة عزّة الحلة )). وبعد، ماذا عن عوائل الحلة النازحة من أماكنَ أخرى ؟ في الحلة عائلة مسيحية كريمة جاءتها من الموصل زمن عبد الكريم قاسم هرباً من الإغتيالات التي كان يمارسها البعثيون والقوميون بحق كل من يخالفهم في الرأي والعقيدة. طاب لها المُقام وقد أُحيطوا بكل آيات التكريم والإعتزاز من قبل مجتمع أهل الحلة. ففي العائلة معلمون ومعلِّمات ( سالم وسامية وأميرة ) ومهندس إسمه " رمزي " وممرضة إسمها " إنجيل " وتدعوها والدتها بإسم " أنجيل ". هذا دأبُ أهل الحلة مع الضيوف الذين يأتون الحلةَ موظفينَ أو كَسَبةً أو تُجّاراً. يقيم الغريب بين ظهرانيهم ضيفاً مُعزَّزاً حتى لا يود الرحيل إلى مسقط رأسه وينسى إنه غريب. قال صاحبي وقد فتح عينيه وإعتدل في جلسته : قد قلتَ وأفضتَ وأحسنتَ. الآن، خذني في سياحة مع ما كتب عن كُرد الحلة شيخُك وصديقُك ( يوسف كركوش ). ما إسم كتابه ؟ إسم الكتاب يا محفوظ السلامة [[ تأريخ الحلة / القسم الأول : في الحياة السياسية ]]. قال ومن هو ناشر هذا الكتاب ؟ الناشر هو [[ محمد كاظم الحاج محمد صادق الكُتُبي، صاحب المطبعة الحيدرية ومكتبتها في النجف الأشرف ]]. قال ومتى تم نشر الكتاب ؟ ظهر الكتاب في عام 1965. قال هاتِ، سأصغي إليك وإلى صوت المربي والباحث الشيخ يوسف كركوش الذي ناله ما ناله من أذى على أيدي البعثيين والقوميين في زمن عبد الكريم قاسم. من أين أبدأ ؟ قال بل تبدأ من تأريخ ومبدأ نشوء مدينة الحلة، وما كانت وكيف كانت قبل تمصيرها وإعمارها وما كان إسمها في تلكم الحُقبة قبل التمصير.
شيء عن تأريخ الحِلّة
أجلْ، يا أبا الطيّب، أنت تعرف أنَّ الحلة قريبة من بابل وآثارها المندرسة. وأنَّ جدران بعض دورها القديمة بُنيت من أحجار بابل وعليها الكتابة البابلية. فالحلة بهذا المعنى قديمة قِدمَ مملكة بابل حمورابي ثم نبوخذنُصّر. ومن الطبيعي أنْ تكونَ إمتداداً جغرافياً وسكانياً وإقتصادياً لمركز المملكة وعاصمتها. فنهر الفرات يمر ببابل أولاً ثم يأتي الحلة. وكانت المنطقة برمتها مكتظة ببساتين النخيل خاصة لذا سمّاها العرب الأوائل بعد الفتح الإسلامي بأرض السواد، أي أرض النخيل الكثيف والماء الجاري بكثرة. وكان إسمها قبل ذلك ( سُورستان / أرض السريان… كما يقول بعض المؤرخين ). هل كان للحلة يومذاك إسم خاص بها ؟ لا أحدَ يعرف الجواب. ما كان إسمها بعد دمار مملكة بابل ( حوالي 500 سنة قبل الميلاد ) ؟ من الذي أطلق عليها إسم ( الجامعين ) قبل تمصيرها في القرن الخامس الهجري ولماذا هذا الإسم بالذات ؟ قال ياقوت الحموي في معجم البلدان عن الجامعين ( هي أَجَمة قصب تأوي إليها السباع والوحوش ). ( الجامعان أو الجامعين ) تسمية إسلامية ولكنْ في أي عهد أو زمن أخذت الحلة هذه التسمية ؟ الأمر المثير أنَّ في الحلة الحديثة منطقة أو حي يُسمّى ( الجامعين ) فيه وُلِد ونشأ المرحوم والدي وعمّي هلال السريراتي وعمتي كلثوم والدة محمد والحاج فخري والكثير من أقربائنا. يقع هذا الحي بالقرب من ساحل نهر الفرات. الشيء بالشيء يُذكر : في منطقة الجامعين قبران لشخصين معروفين بإسم المُنتَجَب والمُنتَخَب. حتى أنَّ في الحلة أهزوجة كانت معروفة في زماننا تقول (( بسوق المنتجب قصّوا خصاويةْ ). فهل الجامعان هما جامعا هذين الشخصين أو ضريحاهما أو قبراهما ؟ خلاف ياقوت الحموي، تقول دائرة المعارف الإسلامية ومؤلف ( بلدان الخلافة الشرقية ) [[ إنَّ الجامعين بالجانب الشرقي، مقابل الحلة، كانت مدينة زاهرة في موضع عامر بالخصب ثم تلاشى أمرها على إثر بناء سيف الدولة الحلة بإزائها بالجانب الأيمن للفرات / كتاب الشيخ يوسف كركوش الصفحة الأولى ]]. نفهم من هذا الكلام أنَّ الجامعين شيء والحلة شيء آخر. قامت مدينة الحلة فتلاشت الجامعين. هنا من حقنا أن نتساءل : لِمَ إحتفظت الحلة بحي كبير فيها إسمه ( الجامعين ) إذا كانت الجامعين منطقةً أو قصبةً أو مدينة قد تلاشت ؟ في رأيي المتواضع أنَّ الجامعين هي الحلة وإنَّ الحلة هي الجامعين ولا غير ذلك. وإنَّ أول حي قام في هذه البقعة على نهر الفرات هو (الجامعين ). إذن فإسم الحلة العربي الإسلامي القديم هو الجامعين ثم غدا في زمن غير معروف الحلة. ( الجامعين ) هو أصل الحلة وقاعدتها الأساس وأول حي فيها. وحين قامت الحلة في القرن الخامس الهجري مدينةً وعاصمةً لآل مزيد من أمراء بني أسد القادمين إليها من واسط ثم النيل إحتفظت بالأصل والأساس فتعايش الإسمان على مرِّ العصور. الحلة مدينة والجامعين حيٌّ فيها. اللاحق يركب أكتافَ السابق والإبن يأخذ إسم أبيه، يُزيحه ويأخذ مكان الصدارة. يبقى اللغز لُغزاً : من أطلق عليها إسم الحلة ولماذا هذا الإسم وليس سواه ؟ في الحلة قول يعرفه جيلنا مفاده إنها سُميت بالحلة لأنَّ عليّاً بن أبي طالب { حلَّ } فيها وأقام فترةً من الزمن. كان في الحلة حتى أواسط أربعينيات القرن الماضي مُقام رطب في بساتين كثيفة من أشجار النخيل في المنطقة المسماة ( باب المشهد ) يقول الِحليّون عنه إنه ( مَقام علي إبن أبي طالب ). شاهدت هذا المقام طفلاً وكنتُ أزوره مع باقي أطفال محلتنا المسماة ( عكد المفتي / محلة جبران ). وعليه فإنَّ كلا التسميتين إسلامية. الطريف أنَّ هناك أكثر من موقع يقال عنه ( حِلّة ) بين واسط والبصرة والأهواز حسب ما جاء في مُؤلَف شيخنا يوسف كركوش آنف الذكر. الحلة لغةً هي المكان الذي يحل فيه شخص أو قبيلة أو شعب، مكان للإقامة والحلول، إسم مكان للفعل حلَّ أو أحلَّ. يذهبُ بعض الناس إلى ما هو أبعد من ذلك في تأويلهم لأصل إسم الحلة. يقولون إن التسمية في الأساس جاءت من كونها [ حُلّة من حُلل الجنة ]. لا أجد هذا التفسير بعيداً من حيث الجوهر عن زعم القائلين بإنها سُميت كذلك بسبب إقامة أو حلول الإمام علي فيها. في أحد أسواق الحلة القديمة مكانٌ يَطلق الناس عليه [ الغيبةْ ]، يوقدون فيه الشموع ليلة الخميس / الجمعة من كل أسبوع. وفي جنوب الحلة بناء متين يقع على شاطيء نهر الفرات يسميه أهل الحلة ( مقام جعفر الصادق ). وقريب من هذه المنطقة مكان معروف بإسم ( النبي أيوب !! ). من جُماع هذه الأخبار يستنتج المرء أنَّ للحلة سِمةً وإعتباراً دينيين عريقين يمتد من عهد النبي أيوب ( ؟؟ !! ) حتى عهد الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب. ففي زمن أيِّ بابلٍ عاش النبي أيوب المزعوم، بابل الأولى ( بابل حمورابي ) أم بابل الثانية الكلدانية ( بابل نبوخذنُصّرْ ) ؟؟. كما أنَّ في الحلة قبورَ الكثير من الأولياء الصالحين ورجال الفقه وعلوم الدين والحديث والتفسير وغيرها من علوم الدين. أكبرها وأكثرها شهرة هو قبر ومسجد ( إبن طاووس ) القريب من المدارس التي تعلّمتُ فيها ( الشرقية الإبتدائية ثم متوسطة الحلة للبنين ) الواقعتين على نهر الفرات. ثم إنه يقع وسطاً بين محلة ( السَنيِّة ) وبدايات حي جُبران. ولكي تكتمل هيبة الحلة الدينية وتأخذ البعد الذي تستحق أضفتُ قائلاً : ولا تنسَ يا أبا الطيّب محيط الحلة، فأضرحة كلٍ من ( القاسم ) و ( الحمزة ) شديدة القُرب من هذه المدينة. وإلى جنوبها قبر ( ذي الكِفل ) الذي ورد ذكره في القرآن الكريم. وإذا ما توسّعت الدائرة قليلاً سنجد أنفسنا في مدينة النجف حيث ضريح الإمام علي، وفي مدينة كربلاء حيث ضريح الحسين بن علي بن أبي طالب. هل تريد المزيد ؟ سألتُ صاحبي. تثائب الرجل، ولمحت في وجهه أَمارات الملل وبعض الإعياء. هل أواصل كلامي يا أبا الطيب أم نؤجل جلجلوتية الحلة وكامل موضوعها حتى يوم غد ؟ لم يُجبْ المتنبي حتى حسبته نائماً. كان يفكر وما كان في سُبات. كررتُ عليه سؤالي فقال بل نواصل جولتنا فحديث الحلة حديث لا يَملُّ السامعُ منه. ثم لا تؤجلْ عملَ اليومِ إلى غدٍ.
متى تمَّ تمصير الحلة ومن الذي قام بتمصيرها وما هو دورالكُرد في كل ذلك ؟
سؤالك وجيه يا أبا الطيب، وإنه كما تعلمُ وأعلمُ محور حديثنا لهذا اليوم. في كتاب الشيخ الجليل يوسف كركوش معلومات ضافية وشروح وافية تزوِّدنا بالإجوبة التي نروم. قال هيا ولكن على مهل، لا تتعجلْ الأمور كعادتك، فالشيخ صديقك وليس صديقي. كرِّمهُ ولا تبخسْ حقه. قلتُ بل وسأخلِّد الرجل فأياديه بيض ومجهوده مشكور ستتذكره الأجيال الجديدة جيلاً بعد جيل. قال هيّا، خذْ رأسَ الشليلة وتوكّلْ على الله. يا أبا الطيّب، نقرأ في الصفحتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة من كتاب الشيخ كركوش ما يلي [[ كانت مجالات بعض بطون بني أَسَد بن خزيمة من أجيال مضر في القرن الرابع الهجري بين البصرة وواسط والأهواز، وبالضبط في ميسان. وكانت الزعامة لبني ناشرة بن نصر وهم بطن من بني أَسَد. وكان يتنافس على الزعامة بنو مَزْيّد الناشري وبنو عفيف الناشري، وقد إنشقّت بطون بني أسد إلى شطرين. علا شأن بني مَزْيّد بإتساع نفوذهم لكثرة أتباعهم من بني قومهم وغيرهم من حلفائهم من { الأكراد الشاذان والجاوان } فصار الخلفاء والسلاطين من آل بُوَيهْ يخطبون ودّهم ، فاعترفوا بهم أُمراءَ رسميين وبذلك إنتقلوا من المشيخة إلى الإمارة. وقد لعبوا دوراً مهماً في تأريخ الدولة العباسية دام نحوَ قَرْنٍ ونصف. كان أُمراءُ الأُسرة المَزيدية ثمانية أولّهم الأمير أبو الحسن علي بن مَزيد ]]. علّق المتنبي على الفور قائلاً : إنها واللهِ لقصّة طريفة. تأريخ طريف. لكأني أشاهد فيلماً سينمائياً بالألوان. عاشت جهودك أيها الشيخ الجليل كركوش. زجرتُ صاحبي قائلاً : لا تقاطعني يا إبنَ أُمّي، لا تقاطعني، تحلَّ بالصبر ونحن نتكلم عن الحلة. قال عاشت حِلّة حمورابي ونبوخذ نُصّر، جَدُ بني ناشرة بن نصر ( نُصّرْ ـ نَصرْ ). ثم إنَّ الفعل ( يتحلّى ) مشتق من الحلاوة، لذا ففي إسم الحلة طعم ومذاق الحلوى وكل السُكّريات المعروفة ولا سيّما بقلاوة ( هادي العجمي الحلي، عم جبار ونجم ). فمجرد تلفّظ إسم الحلة يستدعي كل ما في الكون من حلاوات تُسكِر الفم واللسان. مذاق الحلة حلو الطعم وموقعها الجغرافي وهيئتها وتأريخها. نعم، الحلة لغةً حلوة بعد أن سقط أو أُسقِط منها حرف الواو ( حلّة ـ حِل..و..ة ). قلت لصاحبي مُمتَعظاً لسنا يا أبا الطيب في شهر الصوم رمضان. قال ماذا تقصد ؟ قلت لِمَ كل هذا الشغف والإغراق والإستغراق في طعوم الحلويات، هل أنتَ جائع ؟ قال إنما أنت السبب. كيف يا أبا الطيب ؟ قال إستعملتَ فعل الأمر ( تحلَّ ) فأرجعته إلى أصله أو جذره اللغوي ثم ربطته بإسم مدينتك ثم بالحلوى فوجدت أنَّ الحلة تعني ـ فضلاً عن معانيها الأخرى ـ حلوة. لا فُضَّ فوك أبا الطيب، لأنتَ أنت صاحب اللغة وفيلسوفها الذي لا يُشقُ له غبار. قال وهل نسيت شعري الذي قلت فيه ( أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها …) ؟ قلت لم أنسَ، وباقي بيتك هو ( ويسهرُ الخَلْقُ جرّاها ويختصمُ ) قال أحسنتَ. أين وصلنا في الحديث ؟ قال أكملْ حديث شيخنا كركوش عن منشأ مدينة الحلة ودور آل مَزيد من بني نصر وحلفائهم الكرد في تمصير وتعمير هذه المدينة. نعم يا أبا الطيب. جرت حروب بين جناحي بني ناشرة بن نصر الأسدي، جناح بني مَزيد الناشري بزعامة الأمير أبو الحسن علي بن مَزيد والآخر تحت زعامة إبن عمه عفيف الناشري. وقعت هذه الحروب ما بين عامي 401 و 405 للهجرة ولأسباب لا أرى ضرورةً لذكرها. الأمر الهام هو أنَّ الأمير أبو الحسن علي بن مَزيد كان قد قاتل إبن عمه عفيفاً بجيش لَجِبٍ من العرب وقبيلتين من الكُرد هما الشاذنجان والجاوان. في إثر هذه الحروب التي خرج منها منتصراً، قرر أبو الحسن علي بن مَزيد ترك مناطق ميسان فإرتحل بعشائره وسائر أتباعه قاصداً ريف النيل حيث الأراضي الخُصْبة والماء الوفير فإنتشرت عشائره في أرياف الفرات في أرض بابل وأصبحت المنطقة التي تتغذى بماء نهر النيل عاصمةً لهذا الأمير الأسدي. النيلُ نهرٌ إحتفره الحجّاج بن يوسف الثقفي يأخذ ماءه من نهر الفرات في أعلى الحلة ويصب في نهر دجلة بالقرب من النعمانية. بقيَ الأمير أبو الحسن علي بن مَزيد أميراً في منطقة النيل حتى وفاته عام 408 للهجرة. خلفه على إمارة النيل وبني أسد ولده ( دُبيسْ ). خلعَ سلطان الدولة البويهي على دُبيس وأقرّه في أعمال أبيه ومنحه لقب ( نور الدولة ). نهجَ دُبيس نورُ الدولة نهجَ أبيه فأسّس جيشاً قوياً مؤلفاً من العرب والأكراد الجاوانيين. قصد الشاعرُ
المعروف ( مهيار الديلمي ) الأميرَ دُبيس ومدحه بقصيدة طريفة يقول فيها :
وأنَّ ببابلَ مِنكمْ لَبَحراً
لو انَّ البحرَ جادَ كما يجودُ
ويأبى اللهُ إلاّ مَزْيَدياً
على أَسَدٍ يُؤمَّرُّ أو يسودُ
إذا اشتبَهتْ كواكبكمْ طُلُوعاً
فنورُ الدولةِ القمَرُ الوحيدُ
توفي الأمير نور الدولة عام 474 للهجرة فخلفه ولده بهاء الدولة أبو كامل منصور. وبعد وفاة هذا في عام 479 تولى إمارة بني مَزيد ولده الأمير سيف الدولة صَدَقةْ. وسيف الدولة هذا هو أول من مصّرَ الحلة وإتخذها عاصمةً له في شهر مُحرَّم عام 495 للهجرة. قال ياقوت الحموي في مُعجم البلدان حرف الحاء واللام [[ كان أول من عمّرها ـ الحلة ـ ونزلها سيف الدولة صَدَقةُ بن منصور بن دُبيسْ بن علي بن مَزيد الأسدي وكانت منازل آبائه الدور من النيل / كتاب الشيخ كركوش الصفحة 22 ]]. كان صاحبي شديد الإصغاء لما كنتُ أقول. وكان بين الفَيْنة والفينةِ يهزُّ رأسه ذات اليمين وذات الشمال. كان خاشعاً صامتاً يتملّى هيبةَ وجلال تأريخ الحلة وسياق الأحداث الكبيرة في عمر البشر. جالت في سماء العراق وهوَّمتْ أسماء شهيرة لم تتكرر في تأريخ بلاد ما بين النهرين مثل جلجامش سومر وواضع القوانين حمورابي بابل ونبوخَذنُصَّرْ ثم الأمير سيف الدولة صَدَقة الأسدي. قال ألا من شاي ثقيل أُحرِّك به دماغي الذي سَحَرته حلّة بني مَزيد الأسدي ؟ تدللْ أبا الطيّبْ، سيأتيك الشاي فوراً وسيأتيك ما هو أكثر من الشاي. فتح عينيه واسعتين كأنما يتساءل عن هذا الأكثر من الشاي. قلتُ بعض الحلوى… أفلمْ تقلْ قبل قليلٍ من الوقت إنَّ في إسم الحلة مغزى ومعنى وطعم الحلاوة في الفم ؟ قال بلى، قد واللهِ قلتُ ولستُ نادماً على ما قلت. هاتِ شايك وحلاوتك أو حلوياتك الحلاوية… مصقول وحلقوم وبقلاوة طيّب الذِكر هادي العجمي. حلا يحلو والمؤمنون حَلَويون أو حِليّون، لا كبيرَ فرق. قال أتسمح لي أن أُدخِّن سيجارة ( لفْ ) ؟ قلت لماذا اللف أولاً، ثم ما عوَّدتني أن تطلب موافقتي لكي تُدخّن أبداً، فما خطبُك أبا الطيب هذا اليوم ؟ قال أنتم تقولون إذا طابت النفوسُ غنّت، أما أنا فأقول : إذا طابت النفوس { لفّتْ ودخّنتْ }…دخَّنَت سيجارة ( لَفْ ). بين الشاي والحلوى وسجائر اللف ظلَّ صاحبي يردد ويرسم بأصابعه في الهواء الرقم 495. لم أشأْ أن أسأله عن معنى ذلك لأنَّ الأمر كان شديد الوضوح : يؤرِّخ صاحبي عام وإبتداء نشوء مدينة الحلة. نام صاحبي لكثرة ما تناول من حلويات أهل الحلة. تركته ينام عميقاً وقلت فلأدخل مثله في قيلولة أو نصف قيلولة لعلّي أعود في أحلامي القهقرى ويسعفني الحظُ فأقابل سيف الدولة صَدَقة مقابلةً صحافية وأسجِّل له تسجيلاً صوتياً يحدثني فيه عن مراحل نشوء مدينة الحلة وكيف قام بتمصيرها وكيف كانت قبل نزوحه إليها. ما كدتُ
ألمح سيفَ الدولة طيفاً سريعاً في منامي حتى نهض المتنبي من نومه طالباً بعض الشاي وأن أواصل الحديث عن تأريخ الحلة ووضعها الإجتماعي في بدء تمصيرها.
نقرأ على الصفحتين 26 و 27 من سِفر شيخنا الجليل يوسف كركوش ما يلي :
[[ المجتمع الحلّي في عهد سيف الدولة ـ إنَّ المجتمع الحلي كان يتكون من عناصر مختلفة : عرب وأكراد ونَبَط سكان البلاد الأصليين. أما العربُ فكان أكثرهم من بني أَسَد ولهم السيادة. ويوجد طوائف من عرب خفاجة و عبادة وعقيل وغيرهم من عرب العراق. وأما الأكراد فهم قبيلة الجاوان. قال الفيروزآبادي ـ القاموس المحيط، باب النون فصل الجيم ـ : و جاوان قبيلة من الأكراد سكنوا الحلة المزيدية بالعراق منهم الفقيه محمد بن علي الجاواني، زاد عليه السيد مُرتضى الزبيدي في شرح القاموس " الحلي الشافعي ". وذكره السبكي في الطبقات وبيّن أنَّ مولده سنة 468 هجرية. كان الجاوانيون، قبل نزوحهم إلى الحلة، يسكنون الجانب الشرقي لدجلة حيال طريق خراسان. والظاهر إنهم إمتدّوا في السكنى على النهروان في شرقيِّ بغداد إلى جرجريا قرب الكوت / مجلة المجمع العلمي العراقي م 7 ج 1 ص 94 . وهذه القبيلة حالفت بني مَزيد الأَسَديين وشاركتهم في السرّاء والضرّاء قبل نزوحهم إلى النيل. وعلى ما يظهر أنَّ إتصالهم بالمزيديين يمتدُّ من عهد الأمير علي بن مَزيد حينما كان في ميسان. وكانت السيادة لبني مَزيد عليهم وعلى بني أسد ومن إنضمَّ إليهم. كانت قبيلةُ الجاوان شافعيةَ المذهب والمزيديون شيعةً إثني عَشَرية ولكن على ممر الأيام إندمجوا ببني أَسَد فصاروا شيعةً إثني عَشَرية، كما إستعربوا ولا تزال محلّتهم في الحلة تُعرف بالكراد الجوّاني. وفي عهد الأمير وَرام الثاني إبن أبي فِراس إنتقل الجاوانيون إلى أرض الجامعين ليؤسسوا الحلة مع أمير بني أَسَد صَدَقة، ومن بطون الجاوانيين البِشرية و نَرْجِس / مجلة المجمع العلمي العراقي م 7 ج 1 ص 96 ]]. نتابع ما قال الشيخ كركوش على الصفحة 27 [[ من الجاوانيين الأسرة الورامية نسبةً إلى وَرام بن محمد الجاواني الذي كان عائشاً في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري الذي كان له تحالف مع الأمير أبي الحسن علي بن مَزيد الأسَدي. ومما زاد في قوّة التحالف حصول المصاهرة بينهم وبين الأسرة المزيدية، فقد كانت أم الأمير صَدَقة من الوراميين. إنَّ وَرام بن أبي فراس خال الأمير صَدَقة…كان الأمير صَدَقة يعتمد على الجاوانيين وأقطعهم بلاداً في الأعمال الواسطية وغيرها ]]. كان المتنبي يُصغي لهذا الحديث خاشعاً مسحوراً مأخوذاً بما يسمع. كان كالغائب عني وعن الوجود. بعد فترة ليست قصيرة سألني : وماذا تستنتج من حديث شيخك كركوش ؟ قلت أستنتج ما يلي، ثم إنَّ لي بعض الملاحظات :
1- إنَّ قبيلة جاوان الكردية، بفرعيها البِشرية ونَرجِس، كانت في حوالي منتصف القرن الرابع الهجري قد غيّرت مذهبها الشافعي وإنتقلت إلى المذهب الشيعي الإثني عَشَري. ولما كانوا من مؤسسي مدينة الحلة مع حلفائهم وأصهارهم من بني مَزيد الأسدي، فإستنتاجي الأول هو أنَّ أكراد الحلة كانوا وما زالوا شيعةً إثني عشرية. فهل هم من الكرد الفيلية الشيعة الذين نكّل بهم مجرم العصور والدهور صدام حسين وهجَّرهم في ليل أسود إلى إيران ؟
2- ما زالت، حتى عهد غير بعيد، أكثرية غالبة من الكرد الشيعة تقطن في ضواحي ونواحي وبعض أقضية محافظة ميسان والكوت منتشرين شمالاً حتى خانقين وبعض مناطق محافظة ديالى. فمن تلك المناطق جاء كُرد الحلة مع بني مَزيد.
3- تحالف الكُرد والشيعة تحالف قديم، كان ولم يزلْ حجر الأساس في إستقرار العراق. ووضع العراق اليوم يقدم الدليل الأسطع على صحة هذه المقولة. يمثل الكرد والشيعة غالبية أعضاء المجلس الوطني المطلقة كما هو معلوم للجميع.
4- لم يُنصف شيخنا الجليل يوسف كركوش إذ قال عن كُرد الحلة الجاوانيين [[ ولا تزال محلتهم في الحلة تُعرف بالكراد الجوّاني ]]. لفظة الجوّاني لا علاقة لها بإسم قبيلة جاوان الكردية. المقصود بها الداخلي ـ التحتاني ـ أو البعيد عن الشوارع العامة. ففي بعض أحياء الحلة دورٌ تقع عميقاً في أزقّة شديدة الضيق وحيدة المدخل والمخرج. هذا النوع من هندسة البناء فرضته ظروف الحلة زمان أن كانت تغزوها القبائل المحيطة بها، ولاسيّما خفاجة وجنابة، بين فترة وأخرى. إنه نوع من الدفاع عن النفس. فما كانت تجرؤ فرسان الغُزاة على دخول مثل هذه الأزقّة الضيقة بخيولهم… وإلاّ فالأحجار كانت ستتساقط على رؤوسهم من سطوح الدور… هذا ما كانت تقوله المرحومة جدتي لوالدتي، والذي كان معروفاً وسائداً حتى آواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين. جاوان شيء والجوّاني شيء آخر.
5- إسم " نَرجس " هو إسم كثير الشيوع بين الكُرد الشيعة، يتلفظونه بشكل آخر : يقولون " نَركِسْ "… كما يلفظ المصريون حرف الجيم.
6- ليس في الحلة الحديثة أي ذكر لقبيلة الجاوان أو البِشْرية أو النرجسية أبداً.
فكيف ولماذا ومتى إختفى إسم القبيلة الكردية جاوان وفرعاها وفي الحلة كُرد معاصرون ومحلة تحمل إسمهم ؟
7 – لا علاقة لتشيع الكرد ( الفيلية ) بإيران إذن. فهم شيعة قبل الصفويين وشيعة منذ زمن البويهيين. تشيّعوا بالتحالف والمصاهرة مع رؤساء قبيلة بني أسد الشيعة ـ وإستعرب بعضهم ـ منذ منتصف القرن الرابع الهجري. أي أنَّ تشيّعهم وقع في زمن جليسي الشاعر أبي الطيّب المتنبي. أليس كذلك يا صاحبي ؟ هزَّ رأسه بالإيجاب والموافقة ثم قال يؤسفني أني لم أشهد حركة تأسيس وتمصير حلة الحلاوة والحلل والحليّ، ذاك لأني قُتلتُ في عام 354 للهجرة في بقعة تقع في وسط مناطق نفوذ وإمتدادات بني أسد وحلفائهم الكرد الجاوانيين. قُتِلتُ قرب النعمانية بين واسط وبغداد. قلت له مداعباً : لو كنتَ قد إنتقلت إلى الحلة مع الكرد الجاوانيين وبني أسد، فما كنتَ ، تُرى، ستفعل هناك وكيف كنتَ ستقضّي أيامك ؟ قال على الفور : كنت سألتحق بالأمير سيف الدول صَدَقة، مؤسس الحلة، نديماً وصديقاً ومادحاً. ولكنت واجداً فيه بديلاً لسيف الدولة الحمداني صاحب حلب، الأمير الذي صافيته الود فغدر بي وسكت عن تخرّصات خصومي من أشباه الشعراء. سألتُ صاحبي : هل لديك شيء تقوله أو تعليق أو إعتراض ؟ لم أسمع جواباً. غاب عني المفتون بالغيبة والغياب والحضور. كلّمتُ نفسي قائلاً : يحتاج هذا البحث إلى مراجعة وربما إضافة المزيد من المعلومات والتعليقات ثم الرجوع إلى الكثير من المصادر القديمة والحديثة. مصدر واحد لا يكفي لتغطية موضوع خطير كهذا. قلتُ عسى أن يواصل غيري من الكتّاب البحثَ في هذا الموضوع وفضلي الوحيد ـ وبمساعدة شيخي وصديقي يوسف كركوش ـ أني مهدّتُ لهم الطريق فليدخلوه آمنين.
سؤال أخير : أين سأنشر هذا البحث ؟؟ سمعت المتنبي يقول : أُنشره في الكثير من مواقع الإنترنت. ليقرأه الأخوة كُرد كردستان. ليقرأه جلال وبارزان. كُرد الحلة غير معروفين هناك.
ملاحظة أخيرة : ذكر المسعودي (( أكراد واسط )) في أحداث عام 329 الهجري في الجزء الرابع من مؤلفه الشهير [ مروج الذهب ومعادن الجوهر، الطبعة الرابعة 1981، دار الأندلس / بيروت، الصفحة 260 ]. فهل كان هؤلاء من أكراد قبيلة جاوان أو غيرهم ؟ فهؤلاء جاءوا الحلةَ من هناك.
0 comments:
إرسال تعليق