من حق القارئ علينا أن نقوم بكتابة نبذة مختصرة عن الشاعرة المبدعة التى قرضت الشعر منذ نعومة أظافرها أى فى عمر مبكر من مسيرتها الأدبية عندما شبت وتعلمت كيف تنهل من كتب التراث من مكتبة والدها الذى نشأ وترعرع على القراءة والكتابة وجمع الكتب النادرة من التراث العربى وما استطاع أن يلملمه من كتب التراث العالمى القديم والحديث .
سلامة (بتشديد اللام) هى سلامة حمادى علاوى الصالحى شاعرة وأديبة عراقية وطبيبة استشارية ولدت فى مدينة الديوانية عام 1964 وأكملت دراستها الأبتدائية والثانوية فيها، كانت بداياتها الأدبية فى المرحلة المتوسطة حيث كان نشاطها بالقاء القصائدفى وقفة المدرسة يوم الخميس .
فى بدايتها قرأت محليا عبد الوهاب البياتى وبدر شاكر الثياب ونازك الملائكة وفوزى كريم وشاذل طاقة ، وعربيا قرأت أدونيس ، أنسى الحاج ، عباس بيضون ، أمل دنقل عبد الرحمن منيف ، الطيب صالح ونجيب محفوظ ، طه حسين ، أحمد المدينى وجبران خليل جبرانوجبرا وميخائيل نعيمة وسلامة موسى ، وعالميا قرأت ، ديستوفيسكى وبلزاك ورامبو ، بوشكين ،جان جاك رويو ولوركا ، ووايتمان ، فوكنر ، اليوت ، بورخس ، عابريل غارسيا ، مركيز ، بودلير وفولتير . أول قصيدة كتبتها كانت ( هل تحب الأرض) وألقتها فى الجامعة عام 1948 .
حاصلة على شهادة البكالريوس يالطب والجراحة البيطرية من جامعة بغداد 1987
حاصلة على الدكتوراه الفخرية من جامعة فرنسية عام 2017 ، ومن الجامعة البريطانية العربية 2017 ، وعلى لقب سفيرة النوايا الحسنة للسلام والمصالحة بين الشعوب 2016
عملت مستشار ثقافى فى مكتب رئيس وزراء لمدة 3سنوات ومدير تحرير جريدة المصالحة الوطنية صدرت لها خمس دواوين شعرية عن دار نينوى بدمشق ووزارة الثقافة العراقية ( ذاكرة الجرح 2007 ، ألم الرماد 2008 ، جنوب تنحته الأنوثة 2009 ، غيمة الشيطان 2010 ، ثيابها ماء 2015، كتب عنها نقاد وأدباء عشرات المقالات والدراسات النقدية وتم نشرها فى الصحف والمجلات العراقية والعربية ،عضو اتحاد الكتاب
أختيرت كأفضل شاعرة عراقية باستفتاء مؤسسة عيون فى بغداد عام 2012
كرمت ضمن عشر نساء عراقيات من قبل الجامعة التكنولوجية عام 2017 ، كما كرمت ضمن عشر نساء متميزات من رابطة الجواهرى الثقافية عام 2017
نشر لها العديد من المقالات والدراسات النقدية فى بعض المجلات والصخف العراقية ( الصباح ، المصالحة الوطنية ، مجلة عيون ، والديوانية ) لها تحت الطبع دوواين شعرية وروايتين .)
مما سبق يمكننا القول اننا أمام قامة أدبية شعرية كبيرة نشأت وترعرعت بمدارس شعرية مختلفة منها المحلى كما وضحنا بالسيرة الذاتية وكان من أبرز هذه المدارس مدرسة الأديبة الشاعرة والأستاذة الجامعية نازك الملائكة التى أول من حررت الشعر من معاقله فنادت بالشعر الحر الذى لايخرج أبدا عن الألتزام بالموسيقى الشعرية والوزن وعلم العروض الذى جاء به الخليل بن أحمد ، الأمر الذى دفع الكثير من هواة ومحبين الشعر والقارضين له الأنتماء الى هذه المدرسة فى أرجاء الوطن العربى ، الا أن بعد سنوات مرت على هذه المدرسة عادت مؤسستها نازك الى الوراء وأصابها الأكتئاب والندم على انشاء هذه المدرسة التى استغلها الدخلاء والجهال بالشعر وقالوا ماقالوا دون التقيد أو الألتزام بالقواعد الثابتة لتعاليم هذه المدرسة والشعر عموما ، فنادت بتوقفها والغائها ، الا أن العابثين والمخربين استمروا فى غيهم ، فأصبحت الساحة مليئة بالغث من أشياه الشعراء حتى يومنا هذا .
نعود لسلامة التى لم تنجرف الى الأنزلاق فى هذا التيار العبثى لكونها حصنت نفسها بقرائة الأدب المحلى والعربى والعالمى وكتبت الشعر العمودى ودرست كل مدارس الشعر التى كان أولها علم العروض ، ونهلت من كل المدارس وتمكنت منها جميعا حتى الشعر الحر الذى أخذته عن معلمتها الأولى نازك الملائكة ، كما كان مثالها الأعلى هو الشاعر الفطحل الجواهرى والتى نالت جائزة باسمه ، ثم تأثرت أيضا بشعراء وفلاسفة اليونان قبل وبعد الميلاد ، وهذا واضح فى دواوينها الخمس التى سنتعرض لها أثناء الدراسة النقدية .
الواضح أن الشاعرة فى كل أعمالها تمكنت منها النزعة العروبية والمقاومة ، فبحكم نشأتها وولادتها فى العراق ، الوطن الذى عانى كثيرا من الأستعمار والأحتلال الأجنبى ، الذى أنهك قواه على مدى فترات كبيرة من التاريخ ، رغم أن بغداد كانت مركز الخلافة الأسلامية على مدى ستمائة عام واكثر ، بغداد التى انارت العالم بثقافتها وعلمها وعلمائها ومبدعيها وأدبائها وشعرائها وفنانيها والتى مازالت حية فى قلوب الأجيال لمن يقرؤون التاريخ ، العراق منارة الشعراء والفن والموسيقى فأول من صنع العود واكتشفه وعزف عليه ذرياب ، وأول حركات الترجمة بعد العصر الأول للاسلام وكبار الفقهاء الذين عاصروا الخلفاء وكذلك فطاحل الشعراء ، ويشهد بذلك حقبة حكم هارون الرشيد الذى فى عهده كانت أكبر الفتوحات الأسلامية شرقا وغربا كما فعل سليمان القانونى .
نقول هذا كله بسبب نشأة سلامة المقاومة بمهدها الأول ، ألا وهو العراق ، الذى لم يسلم حتى من حكامه على مر التاريخ الا النادر والقليل منهم ، سواء كانوا من المحتلين أو كانوا من أبنائه بعد الثورة ، وبعد ازاحة المستعمر من وطنها ، ولدت الشاعرة فى كل هذا الخضم من الأحداث وشاهدت بأم عينها وهى صبية وشابة وطالبة جامعية كثيرا من الأحداث التى خزنت بذاكرتها ، الأمر الذى دفعها المثول لملاكاتها المحبة العاشقة لوطنها أن تدون بقلمها على صفحات أوراقها أدبا وشعرا يخفف من آلامها وهمومها وتداوى به أوجاعها ، لم تعطى نفسها فرصة أن تكون مثل أى فتاة تتمتع بفترة صباها وشبابها ، مرت عليها هذه الحقبات وهى تحمل هموم وطنها ، تنظر فى عيون أبويها وأخواتها وأولاد عمومها وأصدقائها ، وتتأسى بأوجاعهم وآلامهم ، وتترجم ذلك فى قصائدها ، كتبت عن أخويها ، وعن أبيها وأعمامها ، وكتبت عن كيفية اختيار أبيها لأسمها ، وكان تأثرها بآلهة اليونان وشعرائها رمزية بين ثنايا أبيات شعرها ، سنتعرض لهذا كله بالنقد والتحليل فطبيبة الشاعرة المبدعة التى حباها الله بالمشاعر الرقيقة لكونها طبيبة بيطرية ، تعاملت مع الحيوانات كما تعاملت مع بنى جنسها ، كانت تحب الخيل بالدرجة الأولى ، فكانت تهمس لها بأشعارها ، وهذا يؤكد قول الناقد والشاعر الكبير ت. س. اليوت الذى أكد على أن القلب هو مصدر المشاعر لا العقل ، فالشعراء والروائيين والمبدعين عموما يبدعون بأعمالهم الراسخة على مر الدهور بما تمليه عليهم مشاعرهم وأحاسيسهم ، وهذا ينطبق تماما عى مبدعتنا سلامة قولا وعملا ويرى وردز وورث 1850 م أن الشاعر انسان ، يتحدث الى أناس آخرين عن المشاعر التى أحدثتها قيمة مواقف وأشياء عادية ، دون ان يخضع لغير قواعد عبقريته الفردية " الشعر فيضان المشاعر القوية عفويا ، ومصدره شعور نتذكره فى لحظات الهدوء ، ونتأمل هذا الشعور حتى يختفى الهدوء تدريجيا ، كنوع من رد الفعل ، وينتج عته على مهل شعور يشبه ذلك الذى كنا نتأمله من قبل ، وهو ماكان يوجد فى القلب والعقل معا " فاذا أردنا أن نطبق هذا على سلامة فهى بالفعل كانت لديها ذكريات فى أطوار حياتها خزنتها الى أن اكتملت عواطفها وثرى عقلها بالثقافة والعلم والأدب بكل فروعه فشرعت فى تفريغ المخزون عندها قديما وحديثا لتؤكد مسيرتها الأبداعية وتقف فى صفوف كبار الشعراء والروائيين .
الآن يمكننا أن نتناول بعض دواوين سلامة بالنقد والتحليل ولنبدأ بديوان ( خيمة الماء ) ونذكر قراؤنا بما سردناه عن الشاعرة بأعلى هذه الدراسة كمقاومة عروبية تأثرت بهموم وطنها منذ نشأتها وعى طوال فترات حياتها وكذلك بعبئ التراث المحلى والأقليمى والعالمى ولا ننسى أنها قرأت النص جيدا وتفهمت حروفه ومعانيه ومقاصده وكان لها عبارات كثيرة من وحى هذا النص المنزل على محمد بن عبدالله ، ففى قصيدة " تبرأ "تقول
أبرأ من كل اشتياق / أغترب وأرحل من كل ذكرى ...
أرمى دفاترى فى نهر... عميق / حتى لو أرسلت أسراب طيورك ... أو غيماتك المثقلات حزنا لن يوقف رحلتى .. قميصك ... المخضب ...حتى لو أعاد لى البصر ... أو وعد بعرش جميل أنااااااا زاهدة حقااااا / أنااا ابنة الماء ...صديقة الكهنة ... أنااا المقتولة بك .. والعائدة للحياة بك
وفى قصيدة جنية الصباح تقول :
حفنة رماد ينثرها الصباح بوجهى / أنااا ماتبقى من الحروب والخيبات
أناااا ماتبقى من خيبات ومكابرة / أواجه الشمس بالضحكات
وهناك ترقد ألف عتمة / من لى بقميص الرغبات ... أرميه بوجه حزنى
كى يبصر ماليوسف من عواء الذئاب / ويبتل وجه توابعى من الجن بالخجل
أنااااا متبوعة بقطة سوداء وجنية ... تأكل فى ماتبقى من عافية / نم أيها الصباح ..فالفريسة قادمة
ماذا تريد أن تقول الشاعرة فى تلك القصيدتين ، فيهما نوهت عن القميص الذى احتفظ به يوسف سنوات طوال وبالحدث فى ذاكرته الى أن جاء اليوم الذى أرسله الى أبيه ليعيد به بصره الذى فقده حزنا عليه ، فلقد ظلا يحملان هذا الهم والحزن فى قلبيهما الى أن جاءت ساعة النصر والفرج المبين ، وكذلك سلامة تتحدث عن وطنها المنكوب وآلامها ومعاناتها ومعاناة أهلها وشعبها ، فهى ماتبقى من خيبات ، هى ابنة الماء الزاهدة لأنها مقتولة ومفتونة بعشق وطنها ، هى العروبية المقاومة داخل وطنها العراق ووطنها الكبير المنكسر دوما أمام الأعداء بسبب السلاطين الذين حكموا البلاد وأكثروا فيها الفساد .
تقول فى قصيدة " وسادة" من نفس الديوان :
الحكاية تبدأ ...مثل حبة تنفجر من غلافها / تستطيل زهرتها وتخلع ثوبها .. الثياب البالية
الحبة تكبر فى قصر السلطان / وتصير باقته اليومية ..بهجته ...نشوته الأولى
ويثمل السلطان / وتخلع حبة ثانية ثيابها / والأرض تستجيب ... وتكبر شهوة السلطان
وفى قصيدة ماء الرغبات تقول :
لاعسل فى الجرة / وقد نفد الخزين ..وزوادتى كسرات خبز ..وحنين
أسير فوق ماء الرغبات / بلا وتد أو خطايا ...وأعبر كأنى موسى ...ولا نجاة معى لقومى
فقد سكنوا قصور الفراعنة ..واحتسوا الأكسير .. ووحدى أحمل عصا الترقب ..
بلا شهوة ... بلا قبل ...بلا آلهة ... بلا أوثان ..بلا أردية من قصب التباهى ...
فأنااااا امرأة ...أمكث بالحبل شهور / وألد ..بقيت يدى العارية .. تشير الى هاوية ..
يسير اليها قومى
أشارت سلامة الى السلاطين الذين لاعمل لهم غير اللهو والعبث مع النساء واشباع الشهوات والغفلة عن مصالح البلاد ونبذ الشعب ومصالح العباد وراء ظهورهم ، ومع ذلك لاتريد أن تتخلى عن قومها لتوصله الى سبيل الرشاد ، فاتخذت من عصا موسى التى فلق بها البحر لنجاة قومه من طغيان فرعون ، هى كذلك حملت هذه العصا بلا شهوة وبلا قبل وبلا أوثان ، هى امرأة بعدما ولدت وليدها أشارت بيدها العارية الى قومها الى طوق النجاة ، وهى فى نزاعها تحمل هموم وطنها ، تدافع عن قومها وكأنها أرسلت اليهم لتفرق بينهم وبين الطغاة ، ماأروعها سلامة وهى تخوض بفلسفتها فى عمق الكلماااات ، وتبحر فى أعماق المحيطات لتستخرج منها اللؤلؤ والمرجان .
لذلك وجب علينا أن نؤيد مانقول بما أدلى به كل من أفلاطون وأرسطو خاصة أن الشاعرة تأثرت بالفلسفة والفلاسفة والشعراء اليونان قبل وبعد الميلاد ، وهاهو أفلاطون يرى أن الشعر مهما كان الهاما كنوع من الجنون ، أو احتدام الهى غير منطقى ، والشاعر يحاكى أشياء هى بدورها نسخ مجردة من الأفكارالمطلقة ، ويرى أرسطو أن الأدب يشكل التجارب العفوية الأنسانية ، فالتاريخ يحكى الخاص ، والشعر وهو أكثر فلسفة ، يحكى العام ، والشاعر ليس مجنونا أو بلا أخلاق ، ومحاكاته ليست مجرد نسخ للأفكار المطلقة ، ويجب أن نحكم عليها من خلال مواهبه المنسجمة مع البيئة التى صورها ، وبذلك يكون أفلاطون وأرسطو يصفان المعنى النظرى والعملى للشعر ، وتسمع صدى هذا الوصف عبر كل أنحاء العالم القديم ، عند هوراس ،وكنتيليا ، وأفلوطين .
الشاعرة انفعلت فى قضايا احتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية وربطتها فى ثنائيات صورتها بريشتها فى الجنس والفكر ، الجنس والفلسفة ، الجنس والموروث الدينى ، الجنس والموروث الثقافى ، الجنس والأجتماع ، وفى ديوان " ثيابها ماء " نجد بعض القصائد التى تحاكى هذه الثنائيات كما كان فى الديوان السابق ، ولنرى ماذا تقول فى قصيدة " قصة اسمى "
جئت الى الدنيا بعد مخاضات العسر / سلمت أمى من موت أكيد
أسمانى خالى الشيوعى سلام .. فالسلام شحيح فى العراق
فاعترض أبى الأقطاعى وشدد الللام ارضاء / لصديقته المطربة زهور
وأغنيتها العتيدة ... سالمة ياسلامة / ونهض متشفيا بخالى الملحد
وقال اسمها سلامة / فثأرت منى الدنيا وقامت حروب طويلة ... وأحزانا عنيدة
ثارت سلامة على أناها عندما استخدمت ثنائية الجنس والفلسفة فى أبياتها التى صورت فيها بعمق فلسفى شديد ، الحرب بين الأب الأقطاعى والخال الملحد ، كما كان ينعته الأب وبعض أفراد العائلة والمعركة اشتعلت بينهما على الفرق بين كلمة مكونة من أحرف تعطى معنين اذا ما شددت اللام أراد الخال أن يسميها سلام ، والسلام نادر ولا محل له فى بلادها المشتعلة بالحروب ، وبين سلامة التى عانت الأم فى ولادتها وكانت ستؤدى بحياتها وتكون سببا فى يتم الأشقاء ، هنا مزجت الشاعرة ببراعة المبدعة أكثر من صورة فى مجتمعها ، الأقطاع ، الماركسية ، الحرب المتأججة دوما بلا انقطاع ، الأب العاشق للمطربة والتى من أجلها خذل الخال ، وشدد اللام على السلام ، الذى لاوجود له فى بلادها ، كما صورت بدقة شديدة ثنائية الجنس والموروث الثقافى فى نفس القصيدة .
وفى قصدتين أخرتين فى نفس الديوان هما " صلاة ، والموت " يأخذ العمق الفلسفى مداه فتقول :
الشهداء الذين لم يكملوا صلاتهم / اختبئوا فى عينيك
وحين يداهمك حزن الجنوبين .. يصير قلبك ... سجادة من حرير / يصلى بها الله
وتنسكب من عينيك القناديل / التى صلت جماعة ... خلف صوتك البهى
وفى قصيدة " الموت " تقول :
رأيته ....يسير مسترخيا فى شوارعنا / لايأبه بشيء
ثملا برائحة الدماء .... يقهقه فوق أكتاف الطفولة
يأخذ ما يريد / ويختزن ما تبقى / لأيامه القادمة
فى الأولى " صلاة " كانت ترثى الشهداء الذى كان على رأسهم عامر الخزاعى ، وترثى نفسها وتكبكب على وطنها الذى لايمر عليه يوم دون شهداء وكأن دمهم رخيص لايساوى شيئ عند المحتلين والأرهابين الذين عاثوا فسادا فى بلادها ، والذين خلفوا هذا الكم من الشهداء الذين لم يكملوا صلاتهم التى أكملوها فى عينيك بعد أن توقفت وسقطت وأنت تأمهم لصلاة الجماعة التى كانت بمسجد بالبصرة فداهمهم المسلحين قبل اتمام ركعاتهم ، فصلى الله عليهم والجميع من حولهم يسكبوا الدموع كالقناديل المحترقة ، وصوتك البهى يتجلى بآيات لم تكتمل أيها الخزاعى .
فلننظر كم من ثنائية هنا فى أبيات قليلة ، الجنس والموروث الدينى ، الجنس والفلسفة ، التى ظهرت بعمق كبير فى تصوير هذا المشهد المؤلم الحزين ، وفى قصيدة " الموت نرى التماهى الشديد للفلسفة فى قصة الموت التى رأته بأم عينها وهو يسير مسترخيا فى شوارع بلادها فى كل مكان لايأبه بأى شيئ ولايعمل حساب لأى انسان مهما كان قدره ، يترنح من شدة الثمالة التى تفوح منه رائحة الدم العفنة يحصد مايشاء من الأطفال والنساء والشيوخ ، ويبقى على البعض لحين عودته مرة أخرى ، هى ترقب وتشاهد وتصور وتخزن فى ذكراتها تلك المشاهد الحية المؤلمة والمؤسفة على ما آلت عليه بلادها من مصائب تقسم الظهر ، فمهما بكت ومهما قالت وعلا صوتها وهى تشدوا بموسيقاها وأشعارها ، لن يلتفت الى صراخها واستغاثتها أحد ، فالطغاة كثر لا يأبهون بشيئ ولا بقيمة الأنسان مثلهم مثل الموت .
الأديبة والشاعرة من الواضح أنها قرأت واستوعبت بعض أعمال " اليوت " الشعرية والنقدية وآخرين عاصروه ، فانعكس ذلك على أعمالها الأدبية والشعرية ، وسندلل على ذلك ببعض الآراء عند " اليوت " الذى اهتم بصنعة الشعر الذى هو وثيق الصلة بالنزعة الجمالية ، مؤكدا استقلالية الفن وتنزهه عن أى عوامل سياسية أو اجتماعية أو اخلاقية ، وفى نهاية العشرينات بدأ يناقش مشكلات التوصيل مع القارئ، والوظائف الأجتماعية للشعر ، وصلة الشعر بالأخلاق ، ومشكلة الخير والشر ، كما بحث عما يمكن أن يسهم به فى خلق الشعر الحديث ، وذلك بازاء خلفية فكرية فلسفية تتطرق من دراسة دانتى الى دراسة بعض المشاكل المتصلة بطبيعة الخلق الشعرى ، ووظيفته ، والصلة ، بين الشعر والأعتقاد ، ثم يذهب اليوت الى أن للشاعر أصواتا ثلاثة ، صوته وهو يتحدث الى نفسه ، وصوته وهو يتحدث الى الجمهور ، وصوته وهو يحاول خلق شخصية درامية تتحدث نظما وتخاطب غيرها من الشخصيات ، فليس هناك شك فى أن سلامة قد نهجت مثل هذا النهج تأثرا به وبمن سبقه ومن جاء بعده حيث أن اليوت تربع على العرش كأكبر شاعر وناقد مائة سنة وما زال حتى اليوم بشهادة معاصريه ولاحقيه .
فى ديوان " جنوب تنحته الأنوثة " تتغنى الشاعرة بموسيقى الحزن فى كل قصائد هذا اليوان فنرى ذلك فى قصيدة " معطف أكلته الريح " وفى " مرثية آخر الأنبياء " وفى " توق الله " ونزيف العتمة ففى الأولى تقول : الزمهرير هبة السماء للمشردين / على دكات حوانيت الليل يرقدون
عشاؤهم فتات ما تركته القــطط / موسيقاهم عواء كلاب تائـهــــــــة
أحلامهم ... أخبار دفئ خالمــــة / الريح غضب الله
تصرخ بالنائمين على حواف المدن / متخفية تحت رداء المــــــــــــوت
جنية تشق بلاط الموت / ثوبها طرقات الليل ... الفضفاضة
وجدته أسلم للريح يديه ..كفنته بالضوء .. عفرته بزعفران الجن
غسلته بخمرة الحب ... قرأت له ... وصايا الل للبشر
الشاعرة تسرد مأساة شعب ، ترثى وتسكب الدموع على ما آل اليه وطنها ، تعزف موسيقى حزينة كحزن الليل الدامس الظلام ، انسان يعيش فى الشارع وعلى الأرصفة تأكله عوامل الطبيعة ، يموت ويحيا عاريا من قلة الغذاء ، فغذاؤه غذاء ما أبقته القطط ، وعندما يموت تكفنه بالضوء وتعفره بزعفران الجن وتقرأ عليه وصايا الرب .
وفى المرثية الثانية تقول سلامة :
مثكولة بولد فى سن السبعين طفلا / من يدرى أن الجثمان بقلبى ممحمولا لوعة
والبدوى وحيدا فى الصحراء يموت / يشرب من دمعى ويبات غريــــبا
دمشق المفجوعة دوما بالأبنـــــــناء / مزقت آخر ثيابها ومنحتنـــــــــى العراء
أكتب معك آخر دمعة لبغداد .... بغداد شرق المتوسط دوما ... لكنك ترحـــــل
والرحلة كانت بلا قلق ... ولا عسس الجلاد .. كان الموت خجولا منك / أمام جلال الأنبياء
منيف ... اقترح الموت عليه / أن يترك حزنه للأرض .. فالسماء لا تدخلها الأحزااان
ترك منيف حزنه فى خجــل / لتشربه الأرض ويورثه للأبناء
هنا تترنح سلامة بين صحراء دمشق وصحراء بغداد ، بيداء الشام المليئة بالشهداء والمفجوعة بأبنائها ، هنا بين دمشق وبغداد يرحل صديقها الأسطورى عبد الرحمن منيف ، فترثيه وترثى كل شهداء الوطن فى ثيابها التى مزقتها رياح ورمال الصحراء ، كان منيف عنيدا عندما جاءه ملك الموت يستئذنه فى الرحيل ، أبى وقاوم حتى يحقق النصر لبلاده ، لكنه استسلم لأقتراح الموت عندما أشار عليه أن يترك أحزانه للأرض ، لأن السماء تأبى أن يدخلها الأحزان ، فترك منيف حزنه فى خجل لتشربه الأرض ويورثه للأبناء .
وفى مرثية "توق الله" التى رثت فيها قاسم عبد الأمير عجام وبها ترثى العراق كله تقول :
قالوا ذبح النور ببابل .. وانطفأت القناديل ،، وبكت عصافير المدينة
والعراق الحزين مفجوع فيه وقد سمعت الأنين / والليل فيه موحش وطويل
أبداما ذبح النور ببابل .. كان الأله يتوق اليه واشتياق / وضم النور الى النور وماجت الحياة
وكيف تجرأ الموت منك وأنت خافق للمحبين ، وأحضن فى رحيلك وجه العراق الحزين
وتمزق بوجه قميص نبيك الجميل / هو الذى حمل البشارة للمحبين
هو الذى فى حلكة الليل كانت قناديله / ضفائر للنجوم كى تستضيئ
قالوا ذبح النور هناك / وناحت أسراب حمام وناح الياســـــــــــمين
أما فى قصيدة " نزيف العتمة " من نفس الديوان اذ تهديها الى الموتى القادمين تقول :
الزمن ... مفقود فى مدينتنا / تائه كولد لايجيد الكلام
عثر عليه ولدان تائهون / استعانوا به لعبور الضفة الخاوية من النهر
كان النهر مزدحما بالغيض / ضاق بصراخ أمهات مثــــــــــــكولات
أنكر انه رأى أولادهن ..جسده المائى خال من بقاياهم ..
لكنه أخبرهم انه يحمل ذكريات خوفهم ..المرمية فيه من زمن لايعرفه
جاءت معهم مومياء بآخر رمق / شاركتهم رقصة المهزلة
الدائرة تنفتق تخرج منها أحشاؤهم المتعفنة / الولد التائه لايعرف بعد سر اللغة المعطلة
لقد تأثرت الشاعرة بكل هذه الأهوال التى داهمت بلدها من قبل 2003 وما دبر لها من كل الأعداء الحاقدين الحاسدين سواء كانوا اقليمين أم عالمين ، سكبت دموعا تملأ نهرا فى كل شطر من أبيات قصائدها ودواينها ، ثالت دموعها على رموز كبار مبدعين وعلماء أغتيلت فى وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من الخونة والعملاء ، علاوة على الشهداء الذين لا حصر ولا عدد لهم والذين يدفنون فى مقابر جماعية والذين يقذف بهم فى الأنهار ، لتكون شاهدة عليهم وهى تخبئ لهم ذكرياتهم ولتسمع وترى بأم أذنيها عويل وصراخ الأمهات الثكلى على أبنائهن اللاتى لا يمكنهم معرفة فلاذات أكبادهم بعدما ضاعت ملامحهم . هذا بعضا من كثير ممكن يقال بالنقد والتحليل عن أديبة شاعرة متمكنة بثقافتها وعلمها وعروبتها ومقاومتها للمعتدين والمحتلين لوطنها منذ صباها ، فكتبت عن والدها الأقطاعى وخالها الماركسى وكل ما يدور من حولها محليا واقليميا وعالميا .
0 comments:
إرسال تعليق