الراعي شخصية لها موقعها في الموروث الشعبي الفلسطيني، وهذا الأمر ليس غريبًا في مجتمع كانت الاغلبية الساحقة منه تعتاش على المواشي والأغنام. وإذا كانت صورة الراعي في مجتمعنا وسواه من المجتمعات الأخرى انسحقت اجتماعيًا جرّاء المفاهيم الاقطاعية التي سادت في مجتمعنا الفلاحي الزراعي، لكنها في تراثنا الشعبي لها حضورها الجميل الرائع ومكانتها الابداعية.
في المفاهيم الطبقية الاقطاعية يمثل الراعي رمزًا للجهل والغباء والأمية، وقد انتشرت وعمت هذه المفاهيم في مجتمعنا لدرجة أن الأب الذي يحلم لابنه بمكانة اجتماعية مرموقة ورفيعة كان يقول له : تعلم لتكون معلمًا أو محاميًا أو مهندسًا أو طبيبًا وليس راعي غنم.!!
وفي مفاهيم العصر البرجوازية أستبدل راعي الأغنام بعامل النفايات او الحفريات وما شابه، أو ما يعرف بـ " العمل الأسود ". ولا يختلف هذا التشويه لصورة أو شخصية الراعي عنه في المجتمعات الطبقية والغربية، ففي المجتمع الامريكي الرأسمالي هناك صور بشعة لراعي البقر، فهو يجسد في الأفلام والأدبيات البرجوازية نموذجًا للعنف والهمجية والفوضى وعالم الاجرام.
بينما في مفاهيمنا الشعبية التراثية، فترتبط شخصية الراعي بالعطاء والتضحية والطبيعة والإبداع، وعودة إلى ينابيع تراثنا الفلسطيني يتجلى ذلك بوضوح تام، وذلك لما تركه لنا الرعاة من موروث شعبي أصيل في مجالات الغناء والدبكة والموسيقى والعتابا.
وشبابة الراعي هي آلة النفخ الأهم في تراثنا الشعبي، وهي مصدر آلات النفخ الموسيقية الحديثة كما المجوز والربابة.
ثم اليس الرعاة في الجبال وربوع الطبيعة الغنّاء من ابدع الاغاني التراثية والاهازيج الشعبية التي تحفل بالتشبيهات والاوصاف المدهشة والايحاءات والرموز وكل ما يعكس حياة الرعاة، الذين يقضون يومهم في الطبيعة مع المواشي " يشببون " أو يطلقون " الأوف " أو يؤلفون الحكايات والقصص الشعبية لتمضية الوقت، والاستعداد للسهر في الليل على ضوء القمر.
وفي ادبنا الفلسطيني الكثير من الأشعار عن الرعاة والشبابة، فهذا شاعرنا الفلسطيني طيب الذكر توفيق زياد، يتغنى بالشبابة في قصيدته " السكر المُرّ "، فيقول :
فلسطينية شبابتي
عبأتها،
انفاسي الخضرا
وموالي،
عمود الخيمة السوداء،
في الصحرا
وضجة دبكتي،
شوق التراب لأهله
في الضفة الأخرى.
أما شاعر فلسطين الكبير ابن بلدة دورا، الذي لا يفهمه أحد غير الزيتون، عز الدين المناصرة، فيقول في قصيدته " جفرا ":
جفرا، اذكرها في الوادي تحمل جرتها، اذكرها
تطلع في الباص واذكرها ترعى الماعز، آه الماعز
اسمر بين زهيرات الوديان ثغاء يملأ قلبي الآن
هنا في المنفى عشقًا للموت، اقبل نحو الموت
كمائنهم تبعد امتارًا وللقلب مشوق
من لم يعرف " جفرا "... فليشنق فرحته
في بار شتوي، القاتل وعدي والرعديد
المشنوق.
ويبقى الراعي من الشخصيات المحببة لدينا نحن الأجيال القديمة العريقة، التي كثر عنها الحديث في تراثنا، وكيف لا نحب صورة الراعي ونبينا الكريم محمد ( صلى اللـه عليه وسلم ) كان راعيًا..!!
0 comments:
إرسال تعليق