كان ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها، بعد الخامس من حزيران من سنة 67 وقد رفعت الضفة الغربية بكاملها، وقدس الأقداس، الرايات البيضاء، كما استسلم قطاع غزة والجولان وسيناء... هاجر الناس وهجّروا من بيوتهم، وقطعوا الشريعة حفاةً عراةً لا يلوون على شيء، كنت ترى القوافل البشرية مشرّقة... وبيوت عزاء مستمرة في البيوت جميعها، دموع تهطل بلا انقطاع... قرى عمواس وبيت نوبا ويالو هدّمت وأصبحت أثراً بعد عين، كما هدم حي المغاربة في القدس... وفرض منع التجول على الناس من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً... وعاش الناس في خوف وترقب وقلق... عاشوا تحت احتلال جديد قديم...
كنا في البيوت والطائرات تزمجر في السماء، والعجائز يدعين " إن بقيتِ طيارة عربية الله ينصرتش، وإن بقيتِ يهودية الله يتشسرتش" وهاجمت طائرات الميراج بيوت شعر عزّب أهلها في السهول، قتلوا فيها أبرياء وجرحوا... عندها خرجنا من البيت إلى الحقول، واختبأنا تحت أشجار المشمش... إلا أبي وأمي رحمهما الله، أقسما أن لا يخرجا من البيت ولو هدّوه فوق رأسيهما...
حزن وفقر واحتلال... قهر وهزيمة... في ذاك العام كانت السهول في أقصى غلالها من الحبوب... والمشمش حامل... والخوخ والجرنق... وكذلك الزيتون يحمل برزاً هائلاً... تحول إلى ثمار فيما بعد...
لكن كيف نسوّق مشمشنا؟ وكيف نحصد غلتنا، ومناجلنا مهمومة، وأرواحنا سقيمة...
كنا نحمّل الحمير سحاحير المشمش، وندور بها ما وسعنا الدوران في طرق التفافية اكتشفناها حتى نصل بها مدينة نابلس... نصلها بعد ساعات مشياً على الأقدام... ونبيع بضاعتنا بثمن بخس... قروش معدودة، ثم نلوي راجعين...
مزرعة الدجاج في البلدة انقطع العلف عن دجاجها، فاضطر صاحبها أن يبيع الدجاجة بقرش إلا ربع... وبالمجان في أحايين كثيرة... لكم مين عندو نفس يوكل؟ عزاء في كل بيت ونواح وعويل...
صورة القوافل المشرّقة نحو الشريعة كانت تقطع نياط القلب... كيف يهرب عربي من أرضه ويرحل؟ يترك بيتاً، ويقطع البراري والقفار، كي يعيش مغترباً في خيمة أو بيت مسقوف بالزينكو؟ مأساة القرن والله...
كان والدي رحمه الله يحمل منجله ويتحدى منع التجول ويسرح إلى قمحه قبل السادسة صباحاً... ويوصي بأن ألحقه بالزوّادة والشاي بعد السادسة... سلقت والدتي رحمها الله بيضتين، وضعتهما في كيس خيش، ورغيفيْ خبز، وبجانبهما صرّة ملح، ووضعت زرّي بندورة وفحل بصل، وبرّاد شاي، كتب عليه " صبرٌ جميلٌ " وكاسة فارغة، حملتها في يد، وحمّلتني في الأخرى إبريقاً تنكيّاً فيه ماء، حملت البضاعة إلى والدي... في الطريق وكأن الكيس ضرب في حجر في الشارع، وأنا (ألولح) فيه يمنةً ويسرةً... فشعرت أنه ينقّط شاياً، عدّلت (قعدة) البرّاد... ومشيت... وصلت والدي الذي رحب بي من بعيد، وأنا أحمل له الخيرات، وقبل أن أصل صحت بأن الكيس ينقّط شاياً، ركض باتجاهي، وعاين الحدث، وإذ به يصيح، وأنا أهرب أمامه، ويلحقني بالكدر(التراب المتجمع) كاسر البرّاد يا... كاسر البرّاد... وهربت لا ألوي على شيء... انكسر صبر جميل... عندما وعيت على الدنيا عرفت أن ثمن البرّاد وما حوى من شاي لا يزيد عن عشرين قرشاً...
وخسارة الوطن كانت أكبر... كانت مصيبة، بل فجيعة
0 comments:
إرسال تعليق