بقلم مكسيموس بن تيانوس
جامعة هلسنكي
هذه ترجمة عربية للقصة التالية بالعبرية التي نُشرت في الدورية أ. ب. أخبار السامرة ع. ١٢٥٠، ١٥ أيلول ٢٠١٧، ص. ٣٥-٤١.
”في سجن في حَسّپين في مرتفعات الجولان
كيف وصلت صُدفة إلى هذا المكان اللعين، سِجن حسپين الضيّق والرطب في مرتفعات الجولان؟ كيف لم أتمكّن من السيطرة على غريزتي؟ كيف لم أقدِر على العمل ضدّ إرادتي؟ أنا الذي رأيت كلّ العالَم، كيف وصلت إلى هذا المكان النائي، منتظرًا بخشوع وخوف، ما سيحدُث لي في صباح اليوم التالي من قِبَل مبغضيّ، الذين عزموا على قطع لساني من فمي؟ وبخاصّة تحت نظَر عيون أخويّ الشابّين المغرورقة بالدموع وبحُضور أُختي الجميلة كالقمر.
كيف وصلتُ إلى هنا؟ أنا الذي كانتِ الناس تسجُد لي عند مروري، وتمسِك بأطراف عباءتي ويُتمتمون همسًا ينضح تبجيلًا: ”أيّها القدّيس مكسيموس باركنا، أرِنا النور، هو الأب العظيم!“. وأنا كنت أضع راحة يدي بشفقة كبيرة على رؤوسهم، وأنطِق بكلمات العزاء.
وهكذا ذهب وولّى مجد هذه الدنيا؛ إنّه لساني الذي لا يعرف الراحة، قد جلب عليّ كلّ هذه المصيبة. غدًا ستحِلّ نهاية هذا اللسان المرّ، الذي ما زال يُلعلع في فمي، وذلك أمامَ الجمهور الغفير الذي سيحضُر المعرِض الأسبوعي في حسپين في ميدان القرية. سِكّين الجلّاد في الكتيبة الرومانية الحادّةُ والطويلة، ستُغرس داخل فمي وتقطع لساني. حُكم عليّ أن أكون أبكمَ من الآن وإلى الأبد.
يا حسپين ويا قرية صِباي ومنطقته في الجولان؛ المكان الذي قضيت فيه أيّام صباي في بيت أبي في فِناء الكنيسة. ما أقلّ تلك الأيّام، ولكن ما أحلاها. وُلدت عام ٥٨٠ م. ولكن قبل أن أتجاوز جيل الصبا، وبينما كنت ابنَ ثمانية أعوام تيتّمت من أبي العزيز تياونوس. وبعد ذلك بسنة رحلت ماري أمّي عن هذا العالم مكتئبةً على فقدان بعلها المحبوب. وهكذا قد تيتّمت من أبي وأمّي قبل أن أبلُغ عشر سنين من العمر.
ولولا إشفاقُك علينا، عليّ وعلى شقيقيّ وشقيقتي الطفلة، أيّها الأب الطيّب الكاهن مرطيريوس، لحُكم علينا أن نُلقى في بئر النفايات. أنت ضممْتنا إلى حِضنك وكنت أبًا لنا.
مصير مُرّ
يُوجعني قلبي حينما أتذكّر ما ينتظرني غدًا صباحًا، وما مرّ عليّ منذ أن فتحت عينيّ، وميّزت بين الخير والشرّ. إنّهم جنود في الجيش الروماني، يتطلّعون إلى الفرصة المؤاتية لقطع لساني، واعتادوا تسميتي بـ”الكافر“، إلّا أنّني لست أنا الكافرَ بل هم، لأنّ دم النبلاء تجري في عروقي، دم يُكسبُني الحقّ في رفع رأسي بافتخار مقابل عيني المضايق المضطهد.
وبالطبع يسأل السائل، كيف حدث ذلك لـ ”مكسيموس الكافر من حِسْپين“ كما يُسمّونني وبسبب هذه الكُنية حلّت عليّ كلّ هذه المصيبة التي ستنفّذ في الصباح. إنّ أشواقي الشديدة لرؤية شقيقيّ وشقيقتي في حِسپين وعدم تقديري لمدى كراهية خصومي لهم، أدّيا إلى إلقائي في البئر الرطبة هذه، أجلِس في مكان ملوّث ونتِن وأُعاني من عضّات الجراذين، وانتظر تنفيذ فِعلة المسيئين إليّ.
كلّ هذه الأمور حصلت لي لخضوعي لغريزتي. نعم، سيّدي الطيّب، الأب مرطيريوس، الجالس بجانب باب سِجني يسجّل أقوالي. وأنت تعلم أنّ والديّ أيضا المحبّين، مَرمرا حياتهما لأنّهما ٱنصاعا لغريزتيهما.
إنّك تعلم أيّها الأب مرطيريوس بأنّك ربّيتنا، أنا وشقيقيّ وشقيقتي برحماتك الوفيرة، كم كانت صعبةً حياة والديّ اللذين رحلا عن هذا العالم قبل أوانهما. لسوء حظّهما لم يحظيا برؤيتي بالغًا وبنعم الخالق مُنعا من مشاهدة مصيري المرّ، بهذا العار الكبير وأنا أنتظر تنفيذ الحكم عليّ.
سجِّل، سجِّل أيّها الأب مرطيريوس الطيّب، ودوّنه في كتاب كي يعلم الجميع تاريخ حياة تلميذك ذي الحظّ التعيس، مكسيموس المقدّس، كيف وصل إلى العظمة وكيف سقط إلى بئر سفلية في السجن.
سامريّون ومسيحيون في قرية عسكر
يبدو أن أوائل الأمور تنمّ على أواخرها. كنت حقًّا ابنَ ثماني سنين عندما مات أبي. كنت لبيبًا منذ صباي لدرجة أن أبي الطيّب تياونوس اعتبرني بالغًا بما فيه الكفاية لسماع شرحه، كيف وفي أيّة ظروف جئت إلى هذا العالَم. وما لم أحظَ بسماعه من أبي عوّضتْه أمّي، التي ما فتئت تتحدّث عن أبي خلال السنة الواحدة التي عاشتها بعد وفاته.
أبي في الأصل لم يكن مسيحيًا بل سامريا، كان ابنَ عائلة نبيلة من قرية عَسْكَر بجِوار نابلس، مركز السمرة. اسمه الأصلي كان اڤنه. لم يرغب أبي في التحدّث عن الفترة التي سبقت تنصّره، ولم يذكر لي اسمه الأصلي قطّ، ولكن بناءً على تفاصيلَ جمعتها من هنا ومن هنا، عرفت أن أبي الطيّب ينتمي لأسرة نبيلة جدّا.
وعليك أيّها الأب الطيّب مرطيريوس، أن تعرف أنّ قرية عسكر، اشتهرت في ذلك الزمان نتيجة لميزتين: مركز سامري لتعليم الدين، وكانت فيه دور كثيرة للدراسة. لا أدري في ما إذا كان الوضع هكذا اليوم أو دُمّر كليًّا في أحد التمردات الكبيرة، التي قام بها السامريون ضدّ البيزنطيين، الذي حصل قريبًا من سنة ولادتي.
الخاصّة الثانية التي ٱشتهرت بها قرية عسكر، ربّما أكثر من جميع قرى السامريين ومدنهم في الأراضي المقدّسة، هي كرهها للمسيحيين. من الممكن فهم هذه الكراهية على خلفية الأحكام القاسية، وقمع التمرّد الكبير الذي قاموا به عام ٥٢٩، حيث سقط منهم عشرات آلاف الجنود، ومثلها بيعوا عبيدا. ولكن لم يكن من الممكن فهم عِظم كراهية السمرة للمسيحيين ودرجة التطرّف التي وصلت إليها.
أقول لك يا أبي الطيّب إنّ كراهية سكّان هذه القرية، الواقعة بجانب سُفوح جبل عيبال الشرقية، كانت شديدة لحدّ كبير. كان سكّان القرية يسيرون بمشاعل قشّ مشتعلة، ويحرقون أماكن داستها أرجل المسيحيين لتطهير أرض القرية.
والسامريون يكنّون كراهية شديدة ليسوعَ الناصري، ولكلّ ما يتعلّق به، لدرجة أنّه حينما كان المسيحي يخاطبهم حوّلوا الوجه جانبًا كيلا يصل زفيره النجسُ في اعتقادهم إلى وجههم. ولذلك هم يدأبون على عدم الردّ على أسئلة المسيحي؛ فسُرعان ما ييأس ذلك المسيحي ويتركهم لحالهم.
وأقُصّ عليك هذا الشيء، كما قصّ عليّ أبي الذي اعتاد آنذاك مثلهم، لكونه واحدًا من هذه القرية. هكذا تصرّف هو وأصدقاؤه في القرية إزاءَ وفد من المسافرين المسيحيين، الذين زاروا القرية لدرجة أنّهم لم يحترموا أنطونيوس فلقنطينوس، رئيس الوفد، ليعلمَ الجميع مدى عِظم كراهيتهم للمسيحيين.
إنّ انفصالَ السامريين عن المسيحيين، وعلاقة الكراهية لهم يتجلّيان بنحو خاصّ في شؤون الشراء والبيع. إذا جاء مسيحيّ ليبتاع منهم شيئًا ما فيحرّم عليه لمسُ أيّ شيء قبل دفع ثمنه لهم. وإذا لمسه المسيحي شعروا للحال بالإهانة، لأنّه كما يقولون دنّس المسيحي الشيءَ في لمسه بيده وجعله غيرَ صالح للاستخدام.
وإعطاء المال تُظهر ازدرائهم للمسيحي؛ ففي كلّ حانوت زُبدية كبيرة مملوءة بالماء؛ وعند شراء المسيحي لبضاعة من عندهم، عليه إلقاء الثمن في الزبدية لتطهير النقود من لمسه. وبغية درء أيّ ريب في الأمر، كان السامريون يُطلعون كلَّ مسيحي يدخل قرية أو مدينة لهم على طريقة الدفع.
ولذلك تفهم أيّها الأب الطيّب مرطيريوس، وأنت مرافقي في ساعاتي العصيبة، كما في الساعات الحلوة، الخلفية والبيئة اللتين عاش أبي فيهما، ولم يختلف في سلوكه وأنماط حياته عن أبناء قريته. جلس على مقاعد المدرسة كباقي أبناء قريته، واسْتدعي مثلهم للالتحاق بالتمرّد الكبير ضد البيزنطيين.
وقد تمكّن من الرجوع إلى قريته سالمًا بعد انتهاء التمرّد. وفي ذلك الحين، شاخ والداه واضطرّ لمغادرة قريته بحثًا عن الرزق، إذ تدهور الوضع الاقتصادي في منطقتهم من جرّاء التمرّدات.
أبي تاجر القُماش
إختار أبي مزاولة تجارة القُماش. دأب على التنقّل من قرية لأُخرى لعرض بضاعته. وفي القرى، لم تتوفّرِ النقود ممّا أرغم أبي على الذهاب بعيدًا حتّى المدن الكبيرة في شمالي البلاد، صفد وطبريا. امتازت بضاعته بالجودة في أوساط كلّ سكّان طبريا الذين أكثروا من خياطة البذلات لهم، وعُرف عن النابلسيين أنّهم أفضل حاكة الأراضي المقدّسة.
كانتِ المنافسة بين التجّار والباعة المتجوّلين شديدة، إلّا أنّ أبي عرف كيف يَرشي چناديوس، حاكم طبريا، بالهدايا من القُماش وبنعومة اللسان، فحصل منه على موطىء قدم واسع في شوارع طبريا وفي بيوت نبلائها اليهود والمسيحيين على حدّ سواء.
كان نجاح أبي في التجارة باهرًا، وسُرعان ما أقام له هناك متجرًا، اشترى نَوْلًا للحياكة وأنتج بضاعته بنفسه فابتهجت كلّ نساء طبريا. وشاع اسم أبي الطيّبُِ أڤنه في كلّ المنطقة؛ وكان أحد زبائنه الكبار جارَه تسدوك الطبراوي اليهودي، ففي كل شهر دأبت نساء بيته على المجيء إلى المتجر، لشراء أقمشة جديدة حاكها والدي. وكانت شنده أمَته الفارسية أكثرَهن زيارة لمتجر أبي. دأبت زوجة تسدوك على إرسالها أسبوعيًا للاطّلاع على ما استجدّ من أنسجة أو قماش مطرّز، كان أبي يجلبه من صور وصيدا؛ وفي بعض الأحيان كانت تبعث معها ملابس للتصليح.
أمّي شندة الفاتنة
كان زائرو متجر أبي في طبريا كثيرين، ومع هذا لم تستصعب شنده على جذب انتباه أبي، مع أنّها لم تنو ذلك في البداية. تلك التي غدت لاحقًا أمّي كانت أجملَ نساء المنطقة؛ أبوها فارسي وأمّها يونانية، وهذا الخليط منحها جمالًا نافس القمر عند الهلال. وشعرها الأشقر مسترسل بنعومة على كتفيها، عظام وجنتيها كانت عالية، أنفها صغير مستقيم، شفتاها ممتلئتان. وكانت عيناها الواسعتان الزرقاوان السماويتان كزرقة بحيرة طبريا، أكثر شيء جذب انتباه الناظر. تمتّعت بصوت عذب ناعم وأكثرت من الغناء.
تعوّد أبي أڤنه الطيّب على إيداع متجره في أيدي المخلصين له، سكّان مدينة طبريا لمُدَد طويلة، كان يقضيها في منزله في كفر عسكر بمعية والديه ولإعالة أفراد أسرته، لا سيّما في فترة الأعياد والحجّ إلى جبل جريزيم. كان جدّي يُسهب في التحدّث معه أنّه آن أوان العمل، من أجل بيته هو، ولكن في نهاية كل محادثة كهذه، كان أبي الطيّب يُنهيها بقوله لجدّي: ”العمل وافر وأوقاتي ليست بيدي، ربّما في مجيئي القادم للقرية “.
كانت الفترات القصيرة، التي مكث فيها في متجره في طبريا، كافيةً لشنده الفارسية الفاتنة لجذب قلبه. وسُرعان ما لاحظت هي أنّ التاجر الثريّ قد ”حطّ عينه عليها“. ومن هنا كانت الطريق لوقوع الاثنين في شِباك الغرام والحبّ قصيرة. لم تمض أيّام معدودة، ولم تطُل محادثات المحبّين الصامتة، وفي عليّة متجر أبي كان يبات عند تواجده في طبريا وثمة جرت أفعال ممنوعة منعًا باتًّا بموجب توراة موسى، نبيّ بني إسرائيل.
لن أُطيل الكلام أيّها الكاهن الطيّب پرطيريوس ولكنّي أذكر فقط شيئًا ممّا سمعته من أمّي، أفضل الأمّهات، أنّه بالرغم من عدم تواجد شهود على عمل العشيقين، إلّا أنّها حبلت شنده الفاتنة مثل نساء الورى، أخذ يكبُر الجنين فيها إلى أنّّ تعذّر إخفاؤه. أمّي شنده، التي لم تكن في عداد البلهاوات، أخبرت أبي المحتار أنّه لم يتبق لهما سوى واحدة من اثنتين: إمّا أن يشتريها من تسدوك اليهودي وعندها تصبح أمته، وإمّا لا مناص من إبلاغ سيّدها تسدوك بالأمر.
انكشف السرّ
استجاب أڤنه أبي لطلبها فورًا فافتداها من سيّدها اليهودي. ولكن إذا ظنّ أنّه بذلك ستنتهي مصائبه فقد أخطأ، لإنّها في الواقع قد بدأت. ولأجل إخفاء سبب الشراء، أخذ أبي شنده أُمّي وأحضرها إلى قريته. أقاربه في القرية، الذين استغربوا شراء أبي لأُمّ حامل من جهة، ووهنه الروحي من ناحية أُخرى، بدأوا يشكّون في إمكانية حدوث أمور غير شرعية. وكان أبي الذي، على كلّ حال، قدِ ٱستصعب كتم سرّه، قد كشفه في إحدى حفلات التسلية مع الأصدقاء في القرية، وفيها أكثر من احتساء المشروبات الروحية.
بعد ٱنكشف السرّ، أصبحت القرية كالمِرْجل: كيف يحتفظ ابن القرية أڤنه بامرأة زانية نجسة؟ غضب كلّ أهل القرية جدّا. اشتدّ الهيجان لدرجة جعلت كلّ أبناء القرية تتجمّع في مدخل بيت والدَي أبي، وطالبوه بإخراج شنده لحرقها لأنّها حامل بالزنا. اشترطوا عليه: ”إمّا تسليمها للوأد وإمّا مغادرة طائفتنا وقريتنا عسكر ولا ترجع إليها أبدا“.
حاصر متهوّرو قرية عسكر بيت أجدادي، وطلبوا قتل أڤنه وشنده، ولكن أبي سبقهم؛ صرّ صرّة النقود بيده، رزم بعض الحاجيات، أخذ شنده وأسرع هاربًا من الفتحة الخلفية نحو طريق جبل عيبال متوجّهًا إلى شمال البلاد.
أسرع أبي الطيّب وشنده طَوال الليلة إلى قرية حسپين، وهي طلبت أن تبات الليلة في بيته. وفي مدخل القرية اتّفق أن كنت سيّدي الكاهن مرطيريوس، وأخبرتنا عن وفاة ذلك الصديق الشهير. تفرّست بعينيك المفعمة بالحكمة في اثنينا، وبدون أن نقول شيئًا، كنت قد علمتَ بتشخيصك الذي لا يُضاهى نصفَ مغامراتنا.
التنصّر
كان أبي تحت رحمة الكهنة في نابلس طالما بقي سامريًا، وهم قد أصدروا حكمهم بإعدامه مع وأمّي. وعلى ضوء نصيحتك أنت يا سيّدي الكاهن مرطيريوس، ولكونك مُقربًا من الحاكم چناديوس، صديق أبي، قبل أبي وأمّي التنصّر ليحظيا بحماية الحاكم وليكونا في كنف أبناء قرية حسپين.
أعفى الحاكم چناديوس الفارّين من العقاب. وبتنصّرهما انتفت قدرة السامريين على إدراكهما، إذ تواترت عليهم الأحكام التي منعتهم من إلحاق أيّ أذى بالمسيحيين. وعند معموديّتهما تقبّل أبي وأُمّي أسماء جديدة؛ سُمّي أبي أڤنه بالاسم تياوناس وأمي شنده أجمل النساء دُعيت ماري.
وبعد وصولهما إلى هناك في مستهلّ العام ٥٨٠ ولدت أنا، وفي مراسم المعمودية أُطلق عليّ الاسم موسكايون وبعد ذلك ولد شقيقاي وشقيقتي.
بعد وفاة والديّ قبل أوانهما، في البيت الذي منحتَنا إيّاه في قسيمة بجوار بيتك، عّيّنت ولي أمر العائلة اليتيمة. وبعد مدّة قصيرة، بعثتَني للدراسة في دير ناءٍ لدى المعلّم فنطلوان، وتفوّقي الفائق في الدراسة غيّر اسمي من موسكايون إلى مكسيموس.
الفهم وتنفيذ الحُكْم
ومن هذا الدير، رحلتُ بعيدًا إلى قبرص، شمال إفريقيا وروما. عدتُ إلى الأراضي المقدّسة بعد بضع سنوات من دراسة الكتاب المقدّس، وكتابة كتب دينية مسيحية ذات مستوىً عالٍ في الجدال لدرجة أن كرّستني الكنيسة مرشدًا للتائهين الذين لما يكتشفوا النور المخفيّ.
وفي العام ٥٧٢ كنتُ في الأراضي المقدّسة، وعارضتُ الموارنة وعقيدتهم التي تناقض أُسُس عقيدتي. وقد أدّى نشاطي الكبير ضد الموارنة، الذين سمّوا باسم قدّيسهم مارون، جعلهم ألدّ أعدائي؛ لم يعتبرني الجميع مكيسموس المقدّس. أكثرَ الموارنة من وصفي معارضًا وكافرًا ولا بُدَّ قطع لسانه بسبب أقواله اللاذعة ضدّ الكنيسة المارونية.
لم يطرأ على بالي في غُضون السنوات الجمّة التي قضيتها خارجَ الأراضي المقدّسة، بأنّ قرية صباي كانت مقرّ الموارنة وحصنهم. وقد نزلت من السفينة التي أوصلتني إلى قيساريا، توجّهت نحوَ حسپين لتفقّد أقاربي في القرية، هل أقاموا عائلات، ولا سيّما ما جرى لشقيقتي. وفي مدخل القرية قبض عليّ جدعانان (أباضيان) وصوّبا سيفيهما إلى رأسي وصاحا ”ها هو مكسيموس الكافر، ها ألقينا القبض عليه“.
هذه هي المصيبة التي حلّت بي؛ يا أيّها الكاهن سجِّل هذا الكلام، يا أيّها الكاهن الطيّب والشيخ موطيريوس، انقله لأبنائك ولأحفادك. ألا أسمعُ استعراضَ الجنود المارونيين الآتين لأخذي إلى ميدان القرية؟ أتسمع أنت أيضًا وقعَ أرجُلهم، صديقي الطيّب مرطيريوس؟
القاصّ: مكسيموس بن تيانوس.
وأضاف المحرّر بنياميم صدقة يقول : إنّ وصف علاقة الكراهية المتبادلة بين السامريين والمسيحيين، هو واقع لا ريبَ فيه، ويرد في شهادة الرحالة أنطونيوس من فلقنطيه من العام ٥٧٩م. وعقاب قطع اللسان كان أمرًا عاديًا آنذاك، أفضل من الموت“.
0 comments:
إرسال تعليق