كم هو رائعٌ هذا الصباح، إذْ تناهى إلى علمي صدورُ كتاب، حول شربل بعيني، بعنوان:"شربل بعيني رائد المسرح الطفولي". هكذا ينضاف لقبٌ جديدٌ إلى البعيني، وهو الشاعر المبدع بالمحكية اللبنانية، وهو الشاعر ذو النهج "النزاري" بالفصحى،وهو الأديب والناقد المجلّي، وهو الإعلامي الذي يرصد الحراك السياسي والإجتماعي والفكري للبنان المقيم ولبنان المغترب. ولعل سمة الإنسان الإنسان هي الغالبة، بل الأثيرة لدينا، ونحن نتكلم على البعيني أو نلهج بذكره.
.. وكم هو جميلٌ أن يكون واضعُ الكتاب أو مُعِدُّه صديقًـا، أعتزُّ بصداقته، وإن لم أَشرُفْ بعدُ بلقائه، كما بلقاء البعيني، عنيتُ الطبيب والأديب اللبناني الأسترالي علي بزّي، الذي نمَّ عن علوّ كعبٍ في ميدان النقد الأدبي. وقد أصابتني "طراطيش" من مُبدع نقده، في مراجعته كتابي "شربل بعيني بين الفصحى والعامية" (صدر في سيدني 2020)، إذْ رأى إلى لغتي "لغة بسيطة حتى الإندهاش وقوية حتى الذهول!". هكذا وفّر عليّ عناء إكتشاف ما تستبطنه لغتي من جدل الطبعيّة والقوة، واضعـًا إياي في مصاف من وُسمت لغتهم بالسهل الممتنع!.
ونعود إلى "شربل بعيني رائد المسرح الطفولي" (صدر الكترونيًا في سيدني2021، بالعربية، وعلى أن يصدر ورقيًا في الآتي من الأيام).
هذا الكتاب المتميز هو الثاني للدكتور بزي، حول البعيني، إذْ سبق أن وضع مؤلفًا، عنوانه "كلمات سريعة كُـتبت عن شربل بعيني"، وقد صدر بطبعتين (2010و2020).
في الكتاب/ مضامين وأبعادًا:
يتألف الكتاب، الذي نُقارب، من قسمين، الأول عبارة عن مقدّمة مُسهبة، بقلم المؤلّف، تضعنا على أبواب القسم الثاني، الذي ضمّ ستًّا وأربعين مقالًا بالعربية، وثلاثًا بالإنكليزية، تدور حول المسرحيات الأربع عشرة التي وضعها شربل بعيني بين عامي 1987و2005، ولُعبت على مسرح معهد سيدة لبنان في سيدني، التابع لراهبات العائلة المقدسة المارونيات.
وإذْ يكشف المؤلف عن الدافع إلى إعداد الكتاب، يقول إنه عند وضعه كتابه، آنف الذِكر، وجد مقالات كثيرة عن مسرحيات البعيني، قام بلعب أدوارها "جيش" من أطفال معهد سيدة لبنان. هكذا عقد العزم على أن يُفرد حيّزًا خاصًا لهذه المقالات، فكان هذا الكتاب. وقد تساءل: لماذا لم يتم التكلّم على شربل بعيني المسرحي الناجح بالقدر الذي تكلموا عليه كشاعر مبدع؟
بإزاء عِظم المهمة، التي ندب المؤلف نفسه لها، فقد إختار من عشرات المقالات تلك التي حبّرتها أقلامٌ مهجرية معروفة، تاركًا ما تبقّى لباحث آخر، علّه يُوفّي الفنان والكاتب والمخرج المسرحي حقّه.
بيد أن البعيني، بحسب المؤلّف، لم يكتفِ بمسرحياته الأربع عشرة، بل وضع مئات من الأغنيات للأطفال، جُمعت، في كتاب، أسماهُ: "غنّوا يا أطفال"، وقدّم د. علي بزّي لهذا الكتاب. علمًا أن البعيني عمد إلى نشر الأغنيات الطفولية، التي غنّاها طلبة معهد سيدة لبنان، ضمن مجموعة ثانية، عنوانها "لبنان بس".
هذه الأغنيات، يرى الناقد بزي "أن قيمتها تكمن في النواحي التربوية والمعنوية والإنسانية والتاريخية، خاصة أنها تؤرّخ لأكثر من ربع قرن من حياة المعهد، وتسلّط الأضواء على شخصيات مهمة، استقبلهم الأطفال".
ولأهمية الدور، الذي أدّاه البعيني في هذا المعهد، حُقَّ للناقد بزي أن يتساءل: "هل سيمرّ في معهد سيدة لبنان شربل بعيني آخر؟"، فنجيبه من فورنا، وبشكل جازم: "الله خلق شربل بعيني وكسر القالب، وليس من إمكانية ليكون من الأشباه أربعون!".
وعن الكتب المدرسية، التي وضعها البعيني للأطفال، وقد تمّ ترخيصها من قبل وزارة الثقافة والتعليم الاسترالية، فقد كان جُلُّ همّه، بحسب الناقد بزي، أن يُسعد الأطفال، وليغدو بمنزلة الأب الحنون لهم، بعد أن حُرِمَ نعمة الأُبُوّة!.
وفي تثمينٍ لدور البعيني مسرحيًّا، يستلُّ بزي شهادة من سيادة المطران يوسف حتّي، في يوبيل شربل بعيني الفضي (1993)، إذْ يقول: "شيءٌ آخر لفتني في مرحلة شربل بعيني التربوية: إهتمامه بالمسرح. وكلنا يعلم ما للمسرح الطفولي من تأثير على سلوك الآباء قبل الأبناء. فالموعظة المسرحية تأتي موجعة، مؤنّبة، خاصةً إذا كان الواعظ طفلًا صغيرًا، وكانت اللغة لغته الأم، وكان المتلقون لموعظته أهله أو أقرباءه وأبناء شعبه".
ولا شك أن البعيني ما كان ليُبلّغ رسالته المسرحية لولا الدعم الذي لقيه من ثلاث راهبات رئيسات، تعاقبن على معهد سيدة لبنان، وهن: الأخت كونستانس الباشا، والأخت ايرين بو غصن، والأخت مادلين بو رجيلي.
وإذٰ يُعزى الفضل لأهله، فإن د. بزي، ما كان ليُنجز كتابه لولا موسوعة: "شربل بعيني بأقلامهم" الالكترونية، التي جمعها المرحوم كلارك بعيني، إبن خال شاعرنا.
ووضعًا للأمور في نصابها، ومن منطلق الصُدقية والموضوعية، يُشير د. بزي، في نهاية مقدمته، إلى أنه لم يؤلّف هذا الكتاب، بل "قام بجمعه وإعداده، كي لا تضيع هذه المقالات الرائعة، التي سلّطت
الأضواء على رحلة شربل بعيني مع المسرح الطفولي في المهجر الاسترالي".
وفي تقييم عبقرية البعيني، وفق د. بزي، إقحامُه بين 300و600 طالبًا وطالبة، في كل عرض مسرحي، تتراوح أعمارهم بين ثماني وثلاث عشرة سنة.
ومما يُثير العجب أن البعيني يضع كلمات المسرحية، وهو المخرج والمنتج ومهندس الديكور، بل المشرف عليها من ألِفها إلى يائها!
ولعل أهمّ ما خلّفه البعيني من فِعال أن ثمة أجيالًا، في المغترب الاسترالي، غدت "أجيال البعيني"، إذا جاز التعبير. فهذه الأجيال، التي هي اليوم في العقد الرابع أوعلى مشارف الخامس من عمرها، تدين لشاعرنا ببعض من تشكيلها الفكري والفني واللغوي. وإلى ذلك فقد شرّع لبعضهم أبواب المسرح والفن، بمختلف ألوانه!.
خطاب المسرح لدى شربل بعيني:
أربع عشرة مسرحية، وضعها البعيني، وهي على التوالي:
"فصول من الحرب اللبنانية"(1987)،
"ألو..استراليا"(1988)،
"الطربوش"(1989)،
"ضيعة الأشباح"(1990)،
"هنود من لبنان"(1991)،
"يا عيب الشوم"(1993)،
"الله بيدبّر"(1995)،
"المدرسة"(1996)،
"شارع اللبنانيين"(1997)،
"جارنا ابوردجيني"(1998)،
"طلّوا المغتربين"(2000)،
"عصابات وبس"(2002)،
"يا مار شربل"(2004)،
"الكنز المسحور"(2005).
وإذْ أكببتُ على قراءة المقالات، التي قاربت هذه المسرحيات، فقد تحصّل لنا الآتي:
أ- بلغ عدد المقاربات 46 بالعربية، وثلاثًا بالإنكليزية. وقد ترجّح المقاربون، وهم مهجريون، بين مطران وسفير وراهبة وأديب وناقد وشاعر وأكاديمي جامعي وفنان وإعلامي، وليبلغ عددهم 26: المطران يوسف حتّي، بطرس عنداري، جوزاف بو ملحم، ميشال حديّد، كامل المرّ، جورج يمين، عفيف نقفور، انطونيوس بو رزق، أنور حرب، د.جميل الدويهي، جوزيف خوري، الشاعرنعيم خوري، فؤاد نمور، نجوى عاصي، ممدوح سكرية، أنطوني ولسن، أنطوان قزي، الأخت ايرين بو غصن، هاني الترك، شربل بعيني، الشاعر شوقي مسلماني، د.بيار رفّول، السفير روبير نعوم، دونالد اوفرييه، جيمس واكيم، ريمون عرّاج.
وقد كان أغزرهم كتابةً أنور حرب (6 مقالات)، وليليه جوزيف خوري (4 مقالات)، ونجوى عاصي (3مقالات)، وانطونيوس بو رزق (3 مقالات) وعفيف نقفور (3 مقالات)، ومقالتان لكل من: د.جميل الدويهي ، والشاعر نعيم خوري، والأخت ايرين بو غصن، والاستاذ هاني الترك. وعن الباقين، فلكل منهم مقالة واحدة.
ولقد أوسعت الصحف الأسترالية لهذه المقالات، وهي: النهار، البيرق، التلغراف، صدى لبنان، مجلة ديالا، صوت المغترب، العالم العربي، مجلة الفراشة، مجلة أميرة، الهيرالد.
ب- في الوقوف على أبرز ما جاء في هذه المقالات، توصيفًا وأبعادًا، للمسرحيات الأربع عشرة، وما تبعث به من رسائل، فيمكن ايجازها، على النحو الآتي: هي مسرحيات، أغلبها، يندرج تحت باب النقد الإجتماعي، بأسلوب أدبي، يميل أحيانًا كثيرة إلى السخرية، وعبر قالب فكاهي. وهي تسلط الضوء على معاناة اللبنانيين، جرّاء زعبرات السياسيين وديماغوجية العقائديين، والنافخين في طبول الحرب، وانتقال معاناة لبنان المقيم إلى لبنان المغترب.وهي مسرحيات، تتسم ببساطة نصوصها، تتناسب وأعمار أبطالها، بحيث يُنطق كل واحد بلسان عمره. وهي تتطرق إلى هجرة اللبنانيين الى استراليا ومعاناتهم، وحنينهم الجارف إلى الوطن. وهي تأتينا بمشهديات من الإستبداد التركي، مع السفاح جمال باشا وتنكيله بأبناء الجبل اللبناني، إبان الحرب العالمية الأولى. وهي تكشف عن حالة الإنحلال الأخلاقي الذي طاول العائلة اللبنانية في المغترب الاسترالي بخاصة، والعربية بعامة. وهي تبعث برسالة حول نبذ العنصرية المقيتة، عبر إدانة النظرة إلى الابوردجينيين، شعب استراليا الأصلي. وهي تدين الطائفية إذٰ "بعدنا منشرب طائفيـا، ومناكل طائفيًا، ومنشتغل طائفيًا، ومنكذب ع الله طائفيًا. وإذا منضل نقسم المدن، ونكتب ع مدخلا هيدي قلعة المسيحية وهيدي قلعة الاسلام، قولوا ع لبنان السلام".
وعند شربل الخبر اليقين:
في حوار، أجرته الفنانة نجوى عاصي مع شربل بعيني، حول مسرحية "طلّوا المغتربين"، كان له أن يُجسّد عبره الخطوط العريضة لفلسفته المسرحية، وقد نمّ عن خبير في علم النفس التربوي، وفي أصول تعليم اللغات. فالمسرح، بحسب البعيني، يُعلّم الطفل كيفية النطق بلغته الأم، إذْ أن معظم الطلاب المولودين في استراليا، يجدون صعوبة في التحدث بلغتهم الأم. فما النفع إذًا من تعليمهم القراءة والكتابة، باللغة العربية، ولسانهم مربوط عند التكلم بها؟
ويتابع البعيني: هنا يأتي دور المسرح، في تنمية مواهبهم وصقلها وزرع المفردات العربية العامية، بدون تكلّف، على ألسنتهم الطرية. والى ذلك فهو، عبر الأطفال من أبناء الجالية، يوجه رسائل الى أهليهم: "أوجّه النقد البناء، بقلب محبّ، وهم يتقبلونه من أطفالهم، بإبتسامة عريضة!"
"شربل بعيني رائد المسرح الطفولي" كشفٌ جديد، أتانا به الطبيب والناقد الأدبي علي بزّي، كي نتدبّره بعناية، كونه يضع لَبِنةً مكينةً في عمارة الصديق شربل بعيني الأدبية المتشامخة، والتي لا تعدِلها عمارة أخرى مهما تسامقت عُلُوًّا!
0 comments:
إرسال تعليق