من خُضرة الضَّيعةِ ونبعِ الغَدير... من حُقول الحنطةِ، وزغردةِ العصافير، ... من حفيفِ الصَّنوبر وفيافي السنديان عند ساعات الهجير... من إغفاءة وردةٍ باغتها شُعاعُ شَمسِ الصَّباحِ، من رائحةِ التُربةِ حين تُقَبِلُ وجناتُها حَباتَ مطرٍ تتوقفُ لوصالٍ حميمٍ.
من هناك جاء سُليمان العيسى ... من غاباتِ الحَورِ التي تَفرشُ بساطَ لواءِ اسكندرونة، هناك حيث غسلت عينيه ألوانُ الخضرة وفسحةُ السَّماء وتنشَّقَت رئتاهُ عبيرَ القَرنْفُلِ وشَذا الرَّياحين.. وغازلَ سمَعُهُ صُداحَ البلابلِ وطيور الحسونِ.. تَشرَّبت روحُه نسائمَ النَّقاءِ، فجاءت كلماتُهُ وريقات نَرجِسٍ صافيةٍ،سقتها ينابيعُ الطِّيب في تُربةٍ سَخيَّةٍ.
عَشِقَ الأرضُ وهامَ بحنايا البساتينِ وأغوتهُ بغُنجِها سهولٌ ووهادٌ.. عِشْقُ الأرضِ لا يُدانيهُ عِشقٌ أو غرامٌ.. فالأرضُ وإن نهجُرُها لا تَهجُرنا.. نَخونُ عشرتَها، ولا تُفكرُ يوماً بِخيانتِنا.. نقسو عليها، نسيءُ معاملتَها، ولا تفكرُ يوماً بمعاقبتِنا.. وحدَها الأرضُ هي
الأمُّ وهي الحبيبةُ... كم يَصعُبُ أن تجتمعَ الاثنتانِ في واحدةٍ من غير شجارٍ ومن غير عويلٍ.
وما الحيلةُ إذا أرغمنا الباغي أن نهجُرَها قَسراً... أن يجعلَنا رَغماً عنَّا ننسلخُ عَنها.. وحينها جُلَّ ما نستطيعُ أن نفعلَهُ هو أن نُبقيَ شيناً من روحِنا بين حبيباتِ تُربتِها.. نُغطيه بِعنايةٍ كي لا يكتشفهُ الغاصِبُ ذات مرةٍ.. وتُرغِمُنا أعقابُ البنادقِ على حزمِ بضع حقائبَ عتيقةٍ، نطوي فيها دمعةً، وجحيمَ ذكرياتٍ يلسعُ حناجرَ من بُكاءٍ:
"أذنتك هل أمضي من دون وداعِ الحيِّ
ورنوةِ عاشقٍ للدَّار
سأخلفُ شطراً من عُمري
باللَّهفة خَضبٌ والتِّذكارُ"
أسيراً يصبحُ لواءُ اسكندرونة وشريداً يصيرُ سُليمان العيسى، يؤرِّقُهُ ألمُ الرَّحيلِ، والجِراحُ كثيرٌ، جرحُ وداعِ أرضٍ طَيّبَةٍ، وجِرحُ التَشرُّدِ والضياعِ:
"العُمرُ رحيلٌ والحُبُّ رَحيلٌ
والمَثوى إما طالَ رحيلٌ
أُلامُ إذا غادرتُ الدَّارَ
ورحتُ أطوفٌ في الأفاقٍ
ولا أدري سأحِطُّ رِحَالي
أين لا أدري"
يُلَملِمُ أوراقَهُ ويحتضنُ تحتَ إبطهِ حُزمةً من سُطورٍ وكَلماتٍ ويركبُ فوق ظهرِ غيمةٍ ويسافرُ إلى حُدودِ المَتاهةِ:
"تلٌ يغيبُ
وقمةٌ تبدو
روادٌ كالخيالِ كالُّلغزِ
يزدحمُ السُّؤالُ
على شفةِ السؤالِ"
وتشتعِلُ في أعماقهِ جَذوةٌ من ثَورةٍ، راحت تموجُ في حنايا حُروفِهِ المُلتهبةِ، تنتظرُ يومَ العَودةِ وتَهفو إلى أرضٍ يجمعُها الِّلسانُ ذاته، فيفيضُ نبعاً يُسقي نبتَةَ أملٍ، راح يرنو إلى رؤيةِ شَبابِها، ذات ربيعٍ يجيءُ حاملاً بشائرَ الغَدِ الآتي وحُلُمِ الوعدِ والِّلقاءِ:
" هو نهرٌ يا صديقي
هو نهرٌ كان أحمرَ
وتَمطَّى الآن أخضرَ
ووسامي الضَّخم
أن أسمع أنباء الحبيبةِ أبداً
تزرعُ في الأرضِ الحبيبة أبداً
تزرعُ أشجارَ الغدِ الموعودِ
ميلادُ العُروبةِ"
سليمان العيسى طَوفانٌ من حُبٍّ أبداً يفيضُ.. أبداً يَغرِفُ من أطرافِ الحِكايةِ.. من يرتوي من مَّعِينٍ، لا يُمكنُ أن ينضحَ بُغضَاً.. من يعشقُ الأرضَ والزَّهرَ ولونَ السَّماءِ، لا يقوى على غيرِ العطاءِ.. من يتشرَّبَ أطيافَ الجَمالِ.. من غير أن يدري ينسابُ منه حُلوَ الكَلامِ، ومن أجملَ من الأطفالِ؟ ومن أصفى من عيونِهِم، ولهذا يُتوّجُ طَوفانَ الحُبِّ ناثراً من مخازنَ لا تنضبُ أشعارَ محبةٍ يغرسُها في دفاترِهم مَرةً وفي قلوبِهم الرقيقةِ آلاف المَرَّاتِ.. تعيشُ فيهم، تنبتُ غَرسَةً في النُّفوسِ العِطشى، وتنمو باسقةً في الوجدانِ.. تُعمِّرُ كالأشجار تَتَوَحَّدُ في العيونِ وفي البُنيانِ.
يتكلم بلسانِ الصِّغار، طفلاً يصيرُ يبحثُ في اهتماماتهم الأثيرة، والطُّفولةِ والأُمومةِ صِنوانٌ، وأجمل أطراف الحِكاية يهتفُ معهم:
"ماما ماما يا أنغاما
تملأ قلبي بنِدی الحُبِّ
أنتِ نشيدي
عيدُكِ عيدي
بسمةُ أُمي.. سِرُّ وجودي
أنا عُصفورٌ مِلءُ الدَّارِ
قُبلةُ ماما ضوءُ نَهاري"
ينشئُ بريشتهِ جيلاً.. يرسمُ بالكلماتِ شعراً ودفئاً، وألحاناً عذبةً، وبايقاعاتٍ من حنينٍ يجمعُ أُسْرَةً من محبةٍ ووطناً من ضياءٍ:
أرسمُ ماما أرسم بابا بالألوانِ
أرسم علمي فوق القممِ
أنا فنَّانٌ
أنا صيادُ الَّلونِ السَّاحِرِ
أرضُ بلادي كَنزُ مَناظِر
دعني أرسمُ ضَوءَ النَّجمِ
دعني أرسمُ لونَ الكَرْمِ
أكتبُ شِعراً بالألوانِ
أحيا حُرَّاً.. أنا فَنَّانٌ"
وبعد.. تلك بضعُ كلماتٍ صغيرةٍ ما استطاعت أن تُحيطَ سوى بجزءٍ يسيرٍ من فيضِ عطاءِ الشَّاعرِ الكبيرِ سُليمان العيسى صَيَّادِ الَّلونِ السَّاحرِ الَّذي اصطادَ بريشتِهِ قُلوبَنا، فاضحينا أسرى لعُذوبةِ أشعارِهِ... حفظناها في حنايانا... وغداً نُوَرِّثُها للصِّغَارِ، أناشيدَ مَحبةٍ تُبدِّدُ عن النُفوسِ زَمنَ الجَفاءِ.
سليمان العيسى شكرا يا نبع السخاء.. ونحن على يقين أن لون الشمس قدره دوما دفء العطاء، وكل الاحتراقات تحتمل ما دامت تفضي الى دروب الضياء.
جورج مسعودعازار
0 comments:
إرسال تعليق