قليلٌ من الفساد قد يُنعش الطبقات المسحوقة، خصوصًا في ظل هيمنة مافيات نهب المال العام. قد يبدو العنوان متناقضًا، لكن ككل ما هو حقيقي في دول العالم الثالث، فإن الواقع غالبًا لا يُروى بالأبيض والأسود.
تشبيه الفساد بالملح قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى، لكن تمعّن قليلاً: الملح عنصر لا غنى عنه في الطعام، غيابه يُفقد النكهة، وربما يؤثّر على توازن الجسم… لكنه ليس غذاءً، ولا قيمة غذائية له. كذلك هو الفساد في بعض السياقات المتعثّرة عامل ثانوي، غير شرعي، لكنّه أحيانًا يُحرك عجلة مشلولة.
في بلدان تتآكل فيها الرواتب، وتستشري البطالة، ويتضخّم جهاز الدولة دون كفاءة، يصبح الفساد الصغير — رشوة بسيطة، عمولة، كأنه أكسجين رمادي يسمح للتنمية بأن تتنفّس ولو بشكل ملوّث.
موظف لا يكفيه راتبه ثمن وقود سيارته، لا يبتسم لمراجع إلا إذا تلقى "شيئًا ما". مواطن يضطر لدفع مبلغ تحت الطاولة لإنجاز ورقة رسمية… لا لأنه فاسد بطبعه، بل لأنه لا يريد أن يُهان أو ينتظر شهورًا.
لكن المشكلة ليست في رشّة الملح… بل حين يتحوّل الملح إلى الطبق نفسه, حين تصبح الرشوة شرطًا لا خيارًا, حين تتغوّل شبكات المحسوبية وتحوّل الدولة إلى شركة قابضة لمصالح الفئة الحاكمة.
نحن لا نبرّر الفساد الناتج عن هشاشة المعيشة، لكننا بحاجة إلى فصله بوضوح عن ذلك الفساد الذي تُنتجه الدولة وتُغذّيه عن سابق قصد.
هناك فرق جوهري بين فساد اضطراري يولد من ضيق الخيارات وضعف الأجور،
وبين فساد مُمنهج تُديره شبكات النفوذ داخل المؤسسات، وتحميه القوانين، وتُبرّره المصالح.
ولأن الفساد، في معظم البلدان النامية، تجاوز كونه سلوكًا فرديًا شاذًا،
وأصبح جزءًا من الممارسة اليومية،
فإن التصدي له يتطلب وعيًا عميقًا لا يُساوي بين العرض والسبب،
ولا يُحمّل الفقير وزر ما ارتكبته النخبة.
إنه أشبه بأداة بديلة لتوزيع الفرص والمكاسب حين تغيب العدالة المؤسسية.
يبدأ كاستثناء تفرضه الحاجة، ثم يتكرّس كقاعدة، قبل أن يتحوّل إلى عرف اجتماعي يمارسه الجميع — حتى أولئك الذين يعلنون رفضهم له.
لا تبدأ مكافحة الفساد من قاعات المحاكم وحدها، بل من جذوره العميقة في بنية الدولة.
نحتاج إلى إصلاحات جذرية تبدأ بتحسين الأجور والمنظومة الوظيفية، مرورًا برقمنة الإدارة وتقليص الاحتكاك المباشر بين المواطن والموظف، وصولًا إلى محاسبة كبار الناهبين لا ملاحقة صغار المرتشين.
والشفافية — إن لم تُترجم إلى ممارسة يومية واضحة — تظل شعارًا بلا أثر.
الفساد ليس قَدَرًا مكتوبًا، ولا خصمًا خرافيًا يُمكن قتله بخطبة أو قانون عابر.
إنه كالملح في طعام التنمية.
رشة صغيرة قد تمنح النكهة… لكن زيادتها تفسد الطبق، وتحرق المعدة.
وإذا أردنا تنمية حقيقية، فلابد من أن نُعيد توازن الطبق, نستبدل الملح بماء نظيف، وعدالة حقيقية… حينها فقط، يصبح للطعام طعم, وللحياة كرامة.
تشبيه الفساد بالملح، كعنصر لا غنى عنه لكن ضره يفوق نفعه عند الإفراط فيه، يضيف بعدًا تصويريًا جديداً وقويًا يعزز الحجة المركزية.
ردحذف