وين الملايين (الجزء الثاني)/ محمود شباط

  


الرأيُ قَـبـلَ شَجاعَةِ الشُّجعانِ

هو أوّلٌ وهي المَحلّ الثانـي

فإذا هُما اجتمعا لِـنفسٍ حُـرَّةٍ

بلَـغَـت من العلياءِ كلّ مكانِ

لم يَـقلها أبو الطيب المتنبي عبثاً منذ ما يزيد على التسعة قرون، ولكن البعض لا زال يعتمد صواريخ الغيب وأسلحة ما وراء الطبيعة معاندا المنطق والطبيعة معاً. 

مرَّت مصر الناصرية بمحطات مُضيئة ومُشـرِّفة في الصراع مع إسرائيل،  وقدَّمت كمّا هائلا من التضحيات تحت شعار "ما أخِذَ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوة" ولكن الفجوة الشاسعة علميا واقتصاديا بين مصر وإسرائيل حالت دون تحقيق الهدف المنشود، ما حدا بالرئيس أنور السادات للموافقة على اتفاقية سلام سُمِّيت "اتفاقية كامب دافيد" عام 1979، والتي كان من الممكن أن يوافق على مضمونها الرئيس جمال عبد الناصر لو بقي على قيد الحياة طبقا لمضمون شريطٍ مُسَرّبٍ نُـسِـبَ إليه مؤخراً.

دَأبَ عددٌ من الدول العربية بأنظمتها السابقة كسوريا وليبيا والجزائر والعراق واليمن، وعدد من الفصائل الفلسطينية، كما إيران الإسلامية على مُعارضة مُبادرات السلام، وحذا حَذوها لاحقاً تيارات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، إضافة إلى التيارات والأحزاب القومية والناصرية واليسارية، دأبوا على تحميل معتدِلي العرب مسؤولية التقصير في أدائهم حيال الصراع مع العدو بشكل عام، والقضية الفسطينية بشكل خاص. وكانوا يُصِرُّون على الإستمرار في السير بالخيار العسكري تحت خيمة "الرفض" في البداية، ثم خيمة  "الصمود والتصدي" ولاحقا تحت خيمة "محوَر الممانعة".

لم تكن قماشة تلك الخيم منسوجة بخيطان العروبة البريئة، حيث كانت تعارض لأغراض خاصة بها دون تقديم بديل عقلاني. إذ إنها تصدّت لمبادرة الملك عبدالله للسلام عام 2002 في القمة العربية التي عقدت في بيروت بخصوص حل الدولتين. 

لم يستطع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ، والذي كان يومها قد أصبح رئيس السلطة الفلسطينية حضور تلك القمة شخصياً أو عبر قيديو مُسجل أرسل به كي يعرض على شاشة عملاقة في قاعة المؤتمر لسببين : تهديد أرييل شارون له بأنه إذا خرج لن يسمح له بالعودة، والسبب الثاني هو عرقلة سوريا لعملية عرض الشريط "لأسباب فـنّـية".

تتلخص أهم متطلبات قمة الـ 2002 "الأرض مقابل السلام"  بالدعوة لإقامة دولة فلسطينية معترف بها دوليا ضمن حدود عام 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان. اعترضت سوريا بشدة على كلمة "تطبيع" بينما كانت هي في "تطبيع مستتر" ، ساندتها حماس في نفس اليوم بعملية إنتحارية في نتانيا أدت إلى مقتل 30 إسرائيلياً. أعقب ذلك تصريح لقائد حماس الشيخ أحمد ياسين "بأن المقاومة مستمرة ولا خيار آخر". 

عند كتابة هذه السطور ، أي بتاريخ 11-05-2025 ، يكون عمر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي قد قارَبَ ألـ  105 سنوات، إذا اعتبرنا بدء الصراع من الوقت الذي استشعَـرَ فيه الفلسطينيون جدِّية  تنفيذ مشروع "الوطن القومي اليهودي" ، حيث نشبت عام 1920 وعام 1921 اشتباكات دامية بين العرب واليهود في مدينة القدس، راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى من الطرفين.

تلا ذلك انتفاضات مُتقطعة  تُـوِّجَـت بـ "هَـبَّة البُراق" عام 1929 ، أطـلِـقَ عليها هذا الإسم تيمُّنا بحائط البُراق، الحائط الغربي للحرم الشريف، الذي يسمّيه اليهود "حائط المبكى" والذي يزعمون بأنه جزءٌ من أطلال "الهيكل اليهودي" هيكل سليمان.

انقضى ما يزيد على قرنٍ حافلٍ بالدم والترمُّـل والـتَـيَـتُّم والمآسي والحروب والتضحيات والتجارب مع إسرائيل ، تنتهي كل تجربة بأسوءِ من سابقاتها، ما يدفع للتساؤل عن عدم أخذ أحد بعبرة أو تجربة القرن، رغم أن مدة التجربة في عقود العمل لا تزيد على الثلاثة أشهر، فيأتي الجواب بأن من لا يجرؤ على مقاربة السلام يخاف من الإتهام بالعمالة و/أو التخوين.

في ظل الاجتياح الإسرائيلي في حزيران عام 1982 لما يقارب نصف مساحة لبنان، بما فيها العاصمة بيروت، شرعت إيران بإرسال مستشارين عسكريين من الحرس الثوري ، مع قوات برية إلى منطقة البقاع الأوسط والشمالي في لبنان عبر سوريا  تحت ذريعة دعم لبنان، فدربو وأسسوا البنية العسكرية الأساسية لما سمي في حينه أمل الإسلامية التي تحولت لاحقاً، مع عدد من الفصائل المماثلة، إلى كيان سياسي-عسكري اسمه "حزب الله"، الذي أفلح بإثبات حضوره العسكري والإجتماعي والإغاثي بسرعة ملفتة سيما في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، وأفلح في عملية طرد وتذويب القوى المناوئة له من شيوعيين وقوميين وسواهم  وطمس نشاطهم ووجودهم إلى حد كبير. 

 عبر ماكينته الإعلامية الهائلة نجح حزب الله في عملية تصفير عداد التاريخ النضالي في مقارعة إسرائيل،  جاعلا إياه مبتدئا يوم ابتدأ الحزب بعمله المقاوم، محا  شهداء وجرحى وأسرى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جَمُّول) وطمس دورها الحاسم في تحرير ثلثي مساحة الأرض التي احتلتها إسرائيل في العام 1982 أثناء اجتياحها للأراضي اللبنانية في 4 حزيران عام 1982، وخلال أسبوع، أي لغاية تاريخ 12 حزيران، الساعة الثانية عشرة ظهراً تماماً، كانت قد وصلت إلى تلال قرية عيحا في قضاء راشيا الوادي المشرفة على الأراضي السورية، وكذلك تلال قرية ينطا في نفس القضاء، المطلة على طريق بيروت -  دمشق الدولي المرئي بالعين المجردة من تلك الجبال.

في تلك العتمة الحالكة،  انبلج فجر جديد في شهر أيلول من عام 1982، أي بعد حوالي شهرين من بدء الإجتياح، انطلقت العمليات العسكرية لـشباب "جَمُّول" التي تم تأسيسها بمبادرة من الشهيد جورج حاوي والمناضل محسن إبراهيم، وجرى الإعلان عنها في منزل وحضور الشهيد كمال جنبلاط. 

استمر مناضلو جَمُّول في عملياتهم فحرَّروا لغاية نيسان 1985 ما يقارب الـ 2400 كم2 من أصل 3600 كم2، أي حوالي ثلثي الأراضي المحتلة خلال حرب عام 1982. بعدها بدأت محاربة جمول والتنكيل بعناصرها من قبل النظام الأمني اللبناني-السوري في حينه، ومجموعات حاربت "يعقوب" لغاية في نفس يعقوب، إلى أن أخمدوا جمر "جمول" ورقصوا على أطلاله حتى قبيل انهيار المعسكر الإشتراكي.

لم يُـكَـلِّـف هواة تصيُّد "التريند" من منتقدي العرب،عرباً وعَجماً، أنفسهم عناء تقدير أسباب هدوء الجبهات المصرية والسورية والأردنية والسلطة الفلسطينية وإقرارها بميول ميزان قوى لا يد لها في ميوله بحدة لصالح العدو،  بعدما أصاب تلك الدول العربية وشعوبها من دمار ونزيف بشري ومادي يفوق تحملها وقدراتها،  ويحد من تنميتها وتقدمها عداك عن الحد الأدنى من الحياة الطبيعية الكريمة. 

كما يقال باللغة المحكية "باختصار ومن الآخر" ، لا يلوح في الأفق المنظور بوادر انفراج  نتيجة إيجابية عبر الصراع العسكري، فهل نُصِرُّ على مناطحة الصخرقبل أن نصبح في وضع قوة  شبه متوازنة مع إسرائيل، والتعامل مع الواقع كما فعل البلاشفة في معاهدة "بريست ليتوفيسك)،  سيما حين نعلم بحجم إنفاق إسرائيل العسكري لعام 2024 المقدر بـ 46.5 مليار د. أ.  ، بينما إنفاق لبنان على سبيل المثال  635 مليون دولار. وحيث تتبوأ إسرائيل المركز الأول عالميا عبر إنفاقها نسبة 6.02 % من إجمالي الناتج المحلي على الأبحاث العلمية والتطوير طبقا لموقع Data.worldbank.com . وسوف نعرف مدى أهمية هذه النسبة من خلال مقارنتها ببلدان أخرى مثل: الولايات المتحدة 3.5%، ألمانيا 3.13%، مصر 1.03%، إيران 0.75%، لبنان غير معروف.

استمرت جبهة الرفض ، ولاحقا جبهة الصمود والتصدي في مغامراتها الطفولية العبثية في صراع عبثي خاسر أو خاسر. كانت أصوات في "جبهة المواجهة" ترتفع بمناشدات يشي مضمونها بأن "الذي يأكل العصي ليس كمن يعدها"، كانت مصر تعاني موجات تدمير لمدارسها ومصانعها، و تنزف خلال حرب الإستنزاف مدنيين ، عمال مصانع وطلاب مدارس، جنودا وضباطا، أبرزهم الفريق أول عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية،  الذي استشهد في التاسع من شهر آذار عام 1969 بينما كان يتفقد الجبهة على الخطوط الأمامية مع العدو. 

 وبعد أن "أبصر" زعماء "جبهة المواجهة" (مصر وسوريا والأردن) بأم العين والعقل والقلب هول الثغرة الشاسعة بميزان القوى العسكرية المستندة على ركن القوة الإقتصادية ، وبعد بلوغهم مرحلة اقتناع مجلبب باليأس من "رمي اليهود في البحر" ، ولاحقا ، عبر "محور الممانعة" اعتبار إسرائيل "أوهى من بيت العنكبوت"، و"إزالة إسرائيل بمدة سبع دقائق ونصف"، حذوا حذو مصر التي كانت قد وقّعت اتفاقية كمب ديفيد عام 1979، وسوريا بتوقيعها اتفاقية فصل القوات في الجولان عام 1974، ثم الأردن باتفاقية وادي عربة عام 1994، وفلسطين باتفاقية أوسلو عام 1993. 

بالنسبة للبنان، كان هناك اتفاقية "هدنة 1949" وهي أفضل وأكثر سيادية مما وصلنا إليه بعد الحرب الأخيرة. منذ توقيع تلك الإتفاقية ولغاية بدء النشاط الفلسطيني الفعلي عام 1968 عاش الشعب اللبناني ذروة ازدهاره اقتصاديا وأمنيا وتنموياً. مرت خلالها حروب عربية إسرائيلية دون تأثر لبنان بها مثل حرب السويس 1956، حرب حزيران 1967، وحرب تشرين 1973. 

بعد خفوت أضواء وشعارات كاللاءات الثلاث الشهيرة المنبثقة عن قمة الخرطوم المنعقدة بتاريخ 1 أيلول 1967 (لا صلح، لا مفاوضات، لا اعتراف). وبعد كل ما تلاها من رفض ومكابرة ومحاولات "صمود وتصدي". أدرك المكابرون المنفصلون عن الواقع بأن الشهداء ليسوا أرقاماً خُـلِـقَـت لِـمُجَـرَّدِ الإرتقاء، وليسوا دمى بلاستيكية، وأذعن المُعانِدون للواقع عَـبْـرَ توقيع اتفاقيات لا تختلف في مضمونها عما يفرضه القرار الدولي رقم 1701 بلاس الذي وقَّعه مؤخراً من انتقد العرب على جنوحهم للمهادنة.


CONVERSATION

3 comments:

  1. كلام واقعي ومنطقي لا يساير اهداف المزايدين لمصالح أخرى

    ردحذف
  2. سهام توضيحية لا لبس فيها، هذه هي حقائق ما جرى بالضبط وما يجري . احسنت ابا إياد سرداَ ووصفاً وهي بمثابة تأريخ دقيق يستطيع من يفتش على حقيفة ومجريات الاحداث أن يعتمد عليها.

    ردحذف