مما لا شك فيه أننا نمر بمعارك متطاحنة على المستوى الفكري و الأيديولوجي ، في السنوات السبع الماضية نتيجةً لبزوغ شموس متناحرة ما بين المنيرة و اللاهبة و الهدف منهن جميعًا الوصول إلى الحقيقة !!
أية حقيقة ينشدها البشر ؟
تلك هي المسألة ، حيث يقف شباب اليوم موقف هاملت أمير الدانمارك كما صوره وليم شكسبير في مسرحيته الخالدة و ذلك وقت بزوغ شمس عصر النهضة في أوروبا و التي بدأت بإنجلترا خاصةً بعد معركة الأرمادا التي إنتصرت فيها المملكة المتحدة سنة 1558 أمام إسبانيا وقت ملكة بريطانيا التي وُلدت سفاحًا لأبيها الملك هنري الثامن ، الملكة إليزابيث الأولى التي أُطلق عليها لقب ( المحاربة الذهبية ).
لقد مرت إنجلترا بعد الحملة الصليبية الثالثة التي شارك فيها الملك ريتشارد الأول المعروف بريتشارد قلب الأسد و مدى ربط الدين بالسياسة عبر القساوسة و الباباوات بمختلف درجاتهم في أوروبا ، أثناء تلك الحملة بزغت ثورة جديدة داخل جنود ريتشارد و هي علامة تلك الحرب التي حُمل فيها الصليب لواءً ؟!
مع جريان دماء الجنود ما بين علماء و فلاحين و عمال فُرضت عليهم الجندية بالجبرية ، بدأت العقول تتناحر مع كل مشهد قتالي في الميدان ليذهب العالم و الأديب و المفكر و الفيلسوف نحو لوغاريتمات جديدة و قالب شعري مبتكر و منهج حياتي يضفي على الظلام نورًا يهتدي به البشرية.
من هنا بعد الإنتهاء من المعركة بعقد صلح الرملة بين ريتشارد و صلاح الدين ، بدأت العقول الإنجليزية تطلق صرخاتها المدوية نحو الجديد من الفكر و العلم و المناهج في تلك الحياة الزاخمة من خلال نشوء كلمة هي قديمة في نشأتها منذ أرسطو المعلم الأول ، حديثة في تسميتها عقب تلك الحروب المشتعلة و التي و لدت من رحم رمادها ، تلك الكلمة هي (العلمانية).
من خلال تلك الحركة بدأت الصيحات التي تطالب الجميع بالفصل بين الدين و السياسة كي لا تختلط الأهداف و المآرب كما حدث في الماضي مما وضع أوروبا في ظلمات معتمة على عكس ما كانت تتمتع به الدولة الإسلامية من خلال التعمق في العلم و الحياة عبر دول مختلفة بمسيات شتى ، ذلك لأن الإسلام لم يكن منعزلاً عن الحياة ، مجردًا عن التجديد و ذلك من خلال أول كلمة أُرسلت على خير الأنام و هي اقرأ.
تنعكس الرياح بهبوبها حسبما تتماشى الأقدار مع مجريات الأمور الجديدة على ظهر البسيطة ما بين الشرق و الغرب ، الآن تنعكس الصورة المظلمة في قرننا الحالي حسبما كانت موجودة في العصور الوسطى بأوروبا ، تداخلت الأهداف و الأغراض باسم إحياء دولة الخلافة بعد سقوطها في العام 1923 على يد أتاتورك في إسطنبول و إعلان الجكمهورية التركية في العام 1924 بعد صعود تيار القومية التركية من خلال حزب الاتحاد و الترقي.
تناحرت الأهداف ما بين الدولة الأمة و الدولة الوطنية منذ عشرينيات القرن التاسع عشرة بعد حصول اليونان على إستقلالها سنة 1820 و توالت سلسلة الإستقلالات في بلاد البلقان من سلطة الخلافة العثمانية ما بين رومانيا ، بلغاريا ، كرواتيا ، صربيا لتبدأ الملحمة على فترات متقطعة حسب تغير موازين القوى عبر العصور و العقود.
تتابعت المسألة حتى القرن الماضي و بدأت لعبة الكراسي الموسيقية نحو أي هتاف يطلق من الأفواه؟
هل الهتاف باسم الدين و الخلافة؟ أم باسم الوطن و أراضيه؟
تناثرت الأجوبة ما بين الأصولية و الشيوعية و الوطنية المتطرفة لكي يقف المؤشر على المستقر للعباد و البلاد في آن واحد ، يخرج علينا ستالين في العام 1924 معلنًا أن ديدن نظامه الوطن ثم الوطن ثم الوطن مع إحراق الجميع بأمره للصلبان و الأيقونات ، ذلك لدوران عجلة العمل دون الغوص في غيبيات بعيدة المدى ؟!
كيف كانت النتيجة ؟
في العام 1941 عند إختراق هتلر لمعاهدة فرساي بينه و بين الدب السوفيتي و إحتلال بقاع شتى من روسيا أخذ ستالين يناشد الجميع بأن يموتوا فداءً للوطن و إذ برجل بسيط يخرج عليه قائلاً :
أنموت من أجل ذرات ترابية بعد أن قتلت فينا الروح ؟
هنا نخرج من النموذج الأوروبي الوسيط و االنموذج الأوروبي الحديث بأن الإنسانية وقعت بين شقي الرحا ، ما بين التطرف الوطني و التطرف الديني لتخرج لنا جماعات لا حصر لها تتراشق بالألفاظ بين أن يحيا الدين و بين أن يحيا الوطن.
هنا يقع الشباب فريسة بين متناقضين مما تؤدي لنتائج إقتراب خطر جديد قد يداهم رجال الغد كما داهم شباب بريطانيا في الستينات حيث العزوف عن الكنائس و إهمال التعليم بترك الفصول و إنتشار الإدمان كي ينسى الجميع مآسي الحرب الكبرى الثانية و التي تأرجحت بين السياسة و الدين حسبما لعب على تلك الوتيرة ونستون تشرشل و اللجوء إلى الديانات الوضعية بعد شعور الشباب بأن الديانات السماوية لم تترك سوى الدعوات المقدسة لقتل الجميع من أجل إرضاء السماء !!
هنا يقترب الخطر بعد تفشي داعش التي لم تنتهي كما يزعم البعض بل للحرب جولات و صولات ، فالطفل الذي يقتل في سنواته الثلاث هو حامل لواء الإحياء عبر السنوات القادمة كما يحدث في أفلام الحركة و التشويق لتبقى المنطقة على سطح من الصفيح الساخن إن لم نلحق بأنفسنا من السقوط في هذا الصراع المرير.
الدين أتى لنا كمشكاة تهدي النفوس و تريح القلوب و العقول ، لم يأتي لنا كي نمارس الصكوك و نزهق النفوس و نرقص على أشلاء الضحايا و كأننا نقدم القرابين كما كان يحدث في الماضي البعيد.
لقد أتى لنا الدين لكي نتعبد و عبر العبادة المنيرة للعقول من خلال التدبر و التفهم يأتي الإنجاز و يتحقق الإبداع حتى نرى في دنيانا جنتنا الصغرى و ليست جهنمنا الحارقة التي نرتشف منها يوميًا عبر صكوك الماضي السحيق في قلب حاضرنا التعيس.
0 comments:
إرسال تعليق