جامعة هلسنكي ـ
الزواج هو طقس سماوي حيث فيه يتّحد معًا نصفا الروح اللذان انفصلا قبل نزولهما إلى الدنيا. ذكر في التلمود وفي مواضع كثيرة أخرى بأنّ يوم القِران يُعتبر كيوم الغفران بالنسبة للعروسين، إذ فيه تُغفر خطاياهما وتفتح لهما صفحة جديدة، يمنحان قوى خاصّة، وكل عرس هو بمثابة تصديق وتأكيد على قران الله ببني إسرائيل عند إعطاء التوراة في جبل سيناء. في التراث الديني اليهودي ينظر إلى العريس كأنه ملك والعروس ملكة. يمتنع العروسان عن اللقاء قبل الزواج بأسبوع.
يعتبر الزواج في الشريعة اليهودية (الهالاخاه)، السبيل الوحيد للقيام بالفريضة ”أُنموا وٱكثروا“ (سفر التكوين ١: ٢٨ وينظر ٢: ٢٤؛ تثنية الاشتراع ٢٤: ١)، وعليه فهذا واجب على كلّ يهودي، وينقسم اليهود إلى الكهنة، اللاويين والإسرائيليين. وقد ورد في ”فصول الآباء“ أنّ عمر الزواج هو الثمانية عشرة سنة والحدّ الأقصى عشرون عاما. ويُذكر أنّ التلمود يُثني على الزواج المبكّر، بعمر أربع عشرة سنة حتّى، درءً لأفكار تؤدّي إلى إرتكاب آثام. تكون الفتاة صالحة للزواج عند بلوغها اثنتي عشرة سنة ونصف السنة، عندها تكون بالغة. في عام ١٩٥٠ قرّرت مؤسّسة الربّانية الرئيسية بأنّ الحدّ الأدنى لزواج الفتاة هو ستّ عشرة سنة. في اليهودية يستطيع الرجل أن يتزوّج من أكثرَ من امرأة، ولكن منذ ألف سنة حرّم ذلك. يتمّ الزواج اليهودي في مرحلتين كالعادة لدى شعوب كثيرة أخرى، الخطوبة (قيدوشين بلغة العهد القديم وإيروسين بلغة المشناة، التوراة الشفوية) والقِران. فترة الخطوبة في حقبة المشناه والتلمود، القرون الميلادية الستّة الأولى، امتدّت لسنة ولكن منذ القرون الوسطى قُصّرت لبضع دقائق.
ثمّة عناصر أساسية وضرورية لإجراء طقوس الزواج اليهودي كما ينبغي: التوقيع على وثيقة الزواج (كِتوبّه)، تِلاوة بركات الخطوبة والقِران، تقديم المحبس أو قيمته للعروس وحضور شاهدين متديّنين. كلّ شيء آخر من عادات وتقاليد مراسم الزواج مثل نصب المظلّة (حوپّاه)، تلاوة وثيقة الزواج، حضور الناس، كسر الكأس يكون اختياريًا. هنالك بالطبع فروق طفيفة بين مكان لآخر، بين راب لآخر وبين طائفة وطائفة، وباستطاعة العروسين إدخال بعض ما لديهما من عادات وتقاليد. في بعض الطوائف اليهودية الشرقية، على سبيل المثال، تجلب عائلة العريس يومًا قبل العُرس الحِناء إلى منزل عائلة العروس لطلي كفّي العروس وقدميها في حفلة جميلة يحضرها الأقارب والأصدقاء. كما وتطلى كفّ يد العريس بالحناء نفسها التي اشتراها العريس.
عادة يتمّ التوقيع على وثيقة الزواج قبل الحوپاه ويستغرق قرابة الربع ساعة، يجلس إلى الطاولة في جانب من جوانب مكان الاحتفال، العريس والراب، شاهدان وأحيانًا ينضمّ إليهم والدا العروسين وجدّاهما. يراجع الراب والعريس نصّ الوثيقة ويسجّل التفاصيل الناقصة ويوقّع عليها الشاهدان. يناول الراب العريسَ قبل التوقيع محرمة فيمسكها بيده اليمنى، يرفعها ويُعيدها للراب. ترمز هذه الحركة لصفقة تبادل، فمقابل المحرمة يتعهّد العريس باحترام ما في وثيقة الزواج من فروض، وعليه لا حاجة لتوقيعه على الوثيقة، إلا أنّ العادة في البلاد إضافة توقيعه عليها. يذكر أن وثيقة الزواج هي وثيقة قضائية تستوجب التدقيق فيها، يُسجّل مثلًا التاريخ العبري للقِران، مكان العرس ومبلغ التعهّدالمتّفق عليه، أسماء كاملة للعريس ووالده والشاهدين.
تغطية العروس ودخول الحوپاه/المظلّة
أولًا، معنى لفظة ”حوپاه“ في هذا السياق هو قطعة قماش مفروشة على أربعة أعمدة، بشكل مظلّة/عريشة مفتوحة من كلّ جوانبها (canopy) وترجمت للعربية في الكتاب المقدس بلفظة ”خِدْر“ وترد في سياق العروسين وينظر في المزامير ١٩: ٦؛ يوئيل٢: ١٦. ويقول أبو عمران، موسى بن ميمون بن عبيد الله القرطبي المعروف بالاختصار رمبام (רמב’’ם, רבי משה בן מימון)، النسر الكبير (١١٣٥-١٢٠٤) بأنّ الحوپاه هي اختلاء العروسين في غرفة العريس وهذه علامة بداية حياة الزوجية (لا اختلاء كهذا لدى اليهود السفارديم). هنالك فروق بهذا الشأن لدى الطوائف المختلفة، فلدى بعضها ثمّة عادة الذهاب إلى المقبرة قبل الحوپاه لدعوة أقارب العائلة الموتى للمراسم. الإشكناز مثلا يُقيمون الحوپاه في الهواء الطلق، تحت قبّة السماء للتبرّك، كما ورد في سفر التكوين ٢٢: ١٧ ”فأُباركك وأُكثر نسلك كنجوم السماء...“ وكثيرون يقيمون ذلك في ليلة البدْر.
يتوجّه العروسان أحيانًا معًا إلى الحوپاه، وهناك من يفضّل الدخول على انفراد. يتقدّم أولًا العريس نحو العروس الجالسة على كرسي العروس ويغطّي وجهها وشعرها بقطعة قماش (لقاء رفقة وإسحاق، أنظر سفر التكوين ٢٤: ٦٥: فأخذت رفقة البرقع وسترت وجهها) شفّاف ثم يسير إلى الحوپاه برفقة أصدقائه الراقصين أمامه، ثم تأتي العروس محاطة بإشبيناتها وأهلها وصاحباتها. هذه التغطية (הינומא) ترمز إلى أنّ العريس لا يتزوّج العروس لجمالها الظاهر فقط الذي سيتلاشى مع الزمن، ولكن بسبب الجمال الداخلي الأزلي؛ زد إلى ذلك أهمية التواضع، حجر الزاوية لدى المرأة اليهودية. تستمرّ التغطية حتى نهاية الحوپاه. هناك من يعطي الإشابين شموعًا مشتعلة رمزًا للنور والبهجة للعروسين. وفي حالة مشي العروسين معًا فإنّهما يتوقّفان خطوة قبل دخول الحوپاه وتتمّ هناك تغطية الوجه والشعر. ومن المعتاد بعد توجّه العريس ومرافقيه إلى الحوپاه أن تتلو العروس برَكة العروس وفيها طلبات شخصية وجُمل تدور حول تمنيات السعادة الزوجية. وللعروس إمكانية إمّا تلاوة النص التقليدي للبركة وإمّا قول بركة شخصية من تأليفها. وهناك في التقليد اليهودي اعتقاد يقول بأنّ وقت ما بعد تغطية وجه العروس وشعرها هو وقت نعمة، ولذلك هنالك من يُعطي بيد العروس قُصاصات ورقية كُتبت عليها أسماء مرضى لتصلّي من أجل شِفائهم. في بعض الطوائف الإشكنازية هنالك عادة دوران العروس وأمّها وأمّ العريس حول العريس الواقف تحت الحوپاه ثلاث أو سبع مرّات ( ثلاث مرّات إشارة إلى جعل الفتاة عروسًا بالمال، الوثيقة والجماع ومن جانب العريس تعهّده إزاء العروس بطعامها وكسوتها ومعاشرتها، سفر الخروج ٢١: ١٠؛ أنظر يهوشوع ٢: ٢١-٢٢؛ إرميا ٣١: ٢١)، ثم تقف العروس إلى يمين العريس ووالداها أو الأُمّان بجانبها، ويقف بجانب العريس والداه أو الأبوان وبجوارهم الراب والشاهدان. يذكر أن عادة الدوران هذه لم تعد شائعة.
الخطوبة
تفتتح الحوپاه بتعهّد العروسين بالإخلاص الواحد للأخرى، والشراء الحاصل عند التقديس ليس شراء العريس للعروس بل هو بمثابة خطوة قضائية فيها تعهّد اقتصادي وزوجي. تقديس العروسين يتمّ عبر بركة الخطوبة المصحوبة ببركة الخمرة. يقف الراب بجانب العروسين ووالديهما وبيده كأس الخمرة، رمز الوفرة والفرح ويبارك بما معناه: مبارك أنت يا الله إلهنا ملك العالَم، خالق ثمر الكرمة … مبارك أنت يا الله، مقدّس شعبه إسرائيل بواسطة حوپاه وتقديس“. بعد ذلك يقدّم الراب الكأس ليشرب منها العروسان، وبمقتضى العادة تسقي الأمّ ابنتها العروس. ثم يدعو الراب الشهود للدنوّ من العروسين ويريهم المحبس وقد يسألهم ويسأل العريس حول ثمنه، كيفية ابتياعه وتعيين الشهود. تمدّ العروس بنصر يدها اليمنى نحو العريس الذي يردّد كلمات التبريك ”ها أنتِ عروس لي بهذا المحبس وفق ديانة موسى وإسرائيل“ ويلبّسها محبسها أمام أعين الشهود المرددين: عروس، عروس، عروس.
بركة الذي أحيانا والتدثّر بالطاليت/عباءة الصلاة
تُتلى هذه البركة في مناسبات خاصّة للتعبير عن البهجة والامتنان للاشتراك في ذلك الحدث، وهناك من يتلوها عند عقد القِران. ولدى الطوائف الإشكنازية نجد عادة إهداء العريس طليت جديدة يتدثّر بها ويتلو بركة ”الذي أحيانا“ عليها وعلى الزواج، وهنالك حالات تشارك فيها العروس مع العريس في الطليت والبركة على مَحْبسها. يقول العريس أو العروسان ”مبارك أنت يا الله إلهنا ملك العالَم الذي أحيانا وأقامنا وأوصلنا لهذا الزمن“. وهنالك من يُجرون عملية كسر الكأس في هذه المرحلة، وآخرون يقومون بذلك في أعقاب بركات الزواج.
تلاوة وثيقة الزواج
يتلو الراب أو أحد الضيوف الذي يكون العروسان قد اختاراه مُسبقًا، الوثيقةَ الآنَ إمّا بالآرامية وإمّا بترجمتها العبرية، وهذه التلاوة تمثّل فصلًا بين مراسم الخطوبة ومراسم الزواج. من الممكن، إذا شاء العروسان، عدم تلاوة الوثيقة بالمرّة والاقتصار على قراءة صدرها وعجزها شرط أن يكون قد اتّفق على ذلك مع الراب من قبلُ. بعد ذلك تسلّم الوثيقة للعروس التي بدورها تناولها لوالدتها أو لأيّ شخص آخرَ للمحافظة عليها. نسخة منها تُرسل إلى مكتب الزواج.
سبع بركات الزواج
تشكل تِلاوة هذه البركات بنغمة تقليدية معيّنة أو بدونها من قِبل الراب أو من قِبل من اختارهم العروسان لبّ مراسم الزواج. يُعلن عادة عن اسم القارىء ويقوم عادة قارىء واحد بتلاوة البركتين الأوليين، ومثلا قد يتلو البركة الثالثة جدّ العروس. تتمحور مضامين هذه البركات حول خلق العالَم، خلق الإنسان، جمع شعب إسرائيل وحبّ العروسين وتعقد بذلك مقارنة بين الخليقة وبين خلق بيت إسرائيل الجديد.
البركات السبع
* مبارك أنت يا الله، إلهنا ملك العالَم خالق ثمر الكرمة.
* مبارك أنت يا الله إلهنا ملك العالَم، خالق الكلّ تكريمًا له.
* مبارك أنت يا الله، إلهنا ملك العالَم خالق الإنسان.
* مبارك أنت يا الله، إلهنا ملك العالَم الذي صنع الإنسان على صورته كمثاله إلى الأبد، مبارك أنت يا الله صانع الإنسان.
* لتفرح العاقر وتبتهج بتجمّع بنيها بداخلها بحبور، مبارك أنت يا الله، مُفْرِح صهيون بأبنائها.
* فرّح المحبّين كتفريحك مخلوقاتك في جنّة عدن في القِدم، مبارك أنت يا الله، مُبهج العروسين.
* مبارك أنت يا الله إلهنا ملك العالَم، الذي خلق الفرحة والابتهاج، العريس والعروس، بهجة، اغتباط، حبور، فرح، حبّ وأُخوّة، سلام وصداقة. عاجلًا سيسمع الله إلهنا في مدن يهودا وفي شوارع القدس، صوت الحبور والسرور، صوت العريس وصوت العروس، صوت تهاليل العرسان في مظلّتهم وفتيان من وليمة غنائهم، مبارك أنت يا الله، مُفْرح العريس والعروس.
بعد هذه البركات السبع يشرب العروسان من الكأس وعادة يسقي العريس عروسَه.
كسر الكأس
حسب العادة التقليدية يكسر العريس كأسَ الزجاج البيضاء الملفوفة جيدًا بالقماش مثلًا منعًا للإصابة بجروح، بدوسه عليها بقدمه، وعند كسر الكأس يردّد العريس الآيتين ”إنْ نسيتُكِ يا أورشليمُ فلتنْسني يميني؛ ليلتصق لساني بحنكي إنْ كنتُ لا أذكركِ، إنْ كنت لا أُعلي أورشليمَ على ذُروة فرحي“ (سفر المزامير ١٣٧: ٥-٦). وعادة الكسر هذه قديمة، ولها تفاسير عديدة وفق الطوائف والزمان والمكان، منها رمز للتقليل من الفرح، ذكرى لخراب الهيكل (أنظر التلمود البابلي براخوت ل: ب -لأ: أ). كما يرمز هذا الكسر إلى أنّ الإنسان من تراب وإليه يعود، وإلى نجاح العريس في التغلّب على حاجز بتولية العروس. في ألمانيا، على سبيل المثال، كُسرت الكأس لطرد الشياطين مثل حالة كسر جرّة الفخار عند مسلمي ليبيا. كسر الكأس يوقف الفرحة للحظة، ليذكّر بأنّ بيت العروسين الخاصّ بهما مُقام الآن، وهنالك في الدنيا خراب وشرّ والفرح غير كامل. في الماضي، في عهد الحاخاميم رمز كسر الكأس إلى الحزن على الموتى، على أن الحياة مؤقّتة والحداد على خراب الهيكل وأورشليم. ووفق التقليد اليهودي يخلق الدمج بين الاحتفال والذكرى توازنًا للعالَم. هكذا تأتي الحوپاة إلى تمامها وعندها من الممكن مثلا إعطاء المحبس للعريس، ثمّ إلقاء الكلمات والتهاني.
0 comments:
إرسال تعليق