" إن الحرية في هذا النظام الصارم هي المعنى العميق والوجه الحقيقي للضرورة"1[1]
جان بول سارتر (1905-1980) هو مثقف نوعي من الطراز الأول عرفته الأوساط الباريسية في فرنسا وعواصم العالم العربي ومعظم البلدان الأوروبية والأمريكية والآسيوية التي زارها طوال القرن العشرين.
لقد جعل من أثره مسارا نضاليا وعكست مؤلفاته برمتها انخراطا مبكرا في المعارك السياسية والصراع الاجتماعي في عصره وظهر ذلك في معاداته للاستعمار وتبنيه نزعة اشتراكية نقدية وقيامه بتأسيس مجلة الأزمنة الحديثة صحبة سيمون دي بوفوار وألبرت كامو وإبرامه لصداقة وجودية مع موريس مرلوبونتي.
لقد أضفى سارتر على الوجودية طابعا إنسانويا ودافع بشراسة على الحرية من حيث هي قدر إنساني في أن يكون حرا ويتحمل مسؤولية ذلك ولقد جمع بين الفلسفة والأدب والمسرح والسياسة والالتزام الوجودي.
بدأ سارتر رحلته في الكتابة بإصدار كتيبات عن الخيال والمخيال في منتصف العقد الثلاثيني ولكنه جسم تأثره البالغ بكتاب مارتن هيدجر الوجود والزمان والأبحاث المنطقية لأودموند هوسرل في عام 1943 بإخراج كتاب مهم عنونه بالوجود والعدم ظل محل جدل وخلاف تأويلي إلى الآن وأردفه بجلسة مغلقة سنة 1944 ترجم فيها أفكاره الوجودية وفق أسلوب أدبي ثم ظهرت له دروب الحرية في ثلاثة أجزاء عام 1945 وفي نفس السنة ظهرت له رسالة الوجودية من حيث هي نزعة انسانوية وتابع اهتمامه بالسيرة الذاتية وألف عن كوميديا جنيت في عام 1952 وأبله العائلة وختم بكتاب نقد العقل الجدلي عام 1960.
بهذا المعنى يكون سارتر قد طور فلسفة وجودية فنومينولوجية تفكر في الوجود من خلال مفهوم الشرط الإنساني بعد القطع مع التصور الكلاسيكي للذات ورفض وجود طبيعة ثابتة تسبق فيها الماهية الوجود.
لقد انتبه سارتر إلى أن الانسانوية بالمعنى الكلاسيكي قد انتهت مع المآسي التي حدثت للنوع البشري أثناء الحربين العالميتين وبعد ظهور الفاشية والنازية والأنظمة السياسية الشمولية التي حكمت بالحديد والنار ومارست أبشع ضروب التنكيل والقمع باسم الاشتراكية والقومية والثورية والحرية والأمة والوحدة ولذلك سعى إلى استبدال انسانوية الأنوار والحداثة بانسانوية وجودية تنطلق من تنزيل الإنسان في واقعه الملموس وتدافع على حقوقه بالمعنى المتعين في منزلة تاريخية ووضعية اجتماعية معلومة وتنتصر للحرية والمسؤولية.
لقد حكم على الإنسان أن يكون حرا وأن يدافع على حريته بحريته وذلك لأنه مشروع وجود وليس له طبيعة تحدد جوهره بشكل مسبق وإنما يعيش في التاريخ عبر مسار شاق من النضال من أجل تحقيق كيانه وتقرير مصيره حسب الاختيارات التي يريدها وذلك لأن المرء هو ما ينبغي أن يصير ما ليس كائنا الآن.
غير أن نقاشه العميق مع الماركسية ودفاعه المستميت على الفرد دفعه إلى تشييد أخلاق وجودية وفكر سياسي فريد وظهور خلافات حول التصورات والبرامج مع رفاقه وانخراطه في تجربة حزبية قصيرة.
فماهو موقف موريس مرلوبونتي من الالتزام الوجودي عند سارتر؟ وكيف دعم مشروعه الفنومينولوجي؟
اذا كان سارتر قد شيد فنومينولوجيا المخيال ووقع مفهوم البراكسيس الجماعي بتجديل العلاقة بين النظرية والممارسة وبالتقريب بين السياسة والأخلاق وبين الفلسفة والأدب فإن مرلوبونتي(1908-1961) قد بذل مجهودات كبيرة للانتصار إلى الحي والإقامة في العالم واستمعان التجربة البشرية ضمن فنومينولوجيا الإدراك الحسي وحاول القطع مع الهيمنة الألمانية على الفلسفة الفرنسية في نسختها الفنومينولوجية.
بدأ أستاذ الفلسفة بجامعة السوربون التأليف منذ سنة 1943 عندما اصدر بنية السلوك وفي عام 1945 كتابه العمدة فنومينولوجيا الإدراك الحسي وجعل من فلسفته تتجه نحو الجسد واللغة والعالم وتثمن دور المحسوس في المعرفة وتحاور مدارس علم النفس وتنغرس في التيار الفنومينولوجي المنحدر من هوسرل وتكون من أكثر الفلسفات تأثيرا في الفكر الفرنسي والفلسفة القارية في النصف الثاني من القرن العشرين.
لقد تجلى ذلك بوضوح بعد تأليفه سنة 1947 الانسانوية والرعب وبعد ذلك المعنى واللاّمعنى سنة 1948 وأضاف إلى مكتبته كل من تقريظ الفلسفة ومغامرات الجدلية والعين والروح عام 1953 وبلغ النضج الفكري في كتب المرئي واللاّمرئي سنة1964 و نثر العالم1969 وعالم الإحساس وعالم التعبير 2011.
لقد انعتق مرلوبونتي من طرح مسألة المعرفة بالشكل المتعارف عليه في المقاربات العلموية والمقاربات الوضعية والنظريات التفكيرية وأوجد لنفسه طريقا فنومينولوجيا من أعمال هوسرل جعله يكتفي بوصف الكيان في العالم والتعويل على التجربة البشرية في الحياة من خلال الجسد المعيش وفنومينولوجيا الكلام.
لقد ثار مرلوبونتي على الميتافيزيقا والديكارتية واستخدم مفهوم البيذاتية بغية إنتاج المعنى حول التاريخ وناقش مدارس علم النفس والسوسيولوجيا البراغماتية وانتصر إلى الفنومينولوجيا والقصدية والمنظورية.
الكلام ليس مجرد علامة على الفكر ولا يقيم علاقة خارجية بالتكفير في العالم وإنما هو أحد أبعاد الوجود يفتح أبواب البحث ونوافذ الإدراك ومجال ظهور الذاتية وإضفاء المعنى على العالم من خلال شاشة الجسد البلاغية ، ولذلك فرق بين الكلام المتكلِم من حيث هو فعل ذاتي والكلام المتكلَم من حيث هو نسق رمزي.
لقد بحث عن سبل تحول علاقته بالجسد من الملكية إلى الوجود ومن الجسد المحمول إلى الجسد المعيش وذلك بالتنحي عن الموضوعي والالتقاء بالذاتي لأن حيازة الجسد تعني صلة بالوسط وربط علاقة بالعالم.
"في حقيقة الأمر هذا الصمت يضج بالكلام وهذه الحياة الباطنية لغة باطنية وليس الفكر الخالص إلا وعيا فارغا"2[2]، فهل أن تفكيره الفنومينولوجي في المؤسسات السياسية هو الذي قاده إلى الانسلاخ عن مجلة الأزمنة الحديثة وإنهاء صداقته مع سارتر؟ وكيف أدى التقريب بين ماركس من ماكيافيلي إلى القول بتاريخية الفلسفة وانتهاء الجدل وبداية التجربة اللغوية من حيث هو التجربة الفلسفية المركزية؟
الهوامش والإحالات:
[1] Sartre Jean Paul, situations, 1, édition Gallimard, Paris, 1947, p334.
[2] Merleau –ponty Maurice, phénoménologie de la perception, édition Gallimard, Paris, 1944,p214.
[1] Sartre Jean Paul, situations, 1, édition Gallimard, Paris, 1947, p334.
[2] Merleau –ponty Maurice, phénoménologie de la perception, édition Gallimard, Paris, 1944,p214.
0 comments:
إرسال تعليق