في مطلع هذا الشهر أثار وفاة المغنية التركية اليسارية هيلين بولاك اهتماماً إعلامياً واسعاً وغضباً غارماً، حيث فارقت الحياة بعد دخولها في إضراب عن الطعام استمر 288 يومًا في معركة أطلقت عليها «الأمعاء الخاوية» احتجاجاً على سياسات حكومة أردوغان القمعية التي حظرت فرقتها واعتقلت أعضاءها.
يشار إلى أن فرقة يوروم التركية هي فرقة موسيقية تركية ذات توجهات يسارية اشتراكية، وصدر عنها حتى الآن عشرون البوم منذ عام 1987، حظرت حفلاتها وألبوماتها على مدى عدة سنوات وتعرض بعض أعضاءها للاعتقال والتعذيب.
دخلت بولاك وزميلها في الفرقة إبراهيم غوكتشيك في إضراب عن الطعام لإجبار الحكومة على رفع الحظر عن الفرقة والإفراج عن أعضائها المعتقلين، وكانا قد نقلا قسراً إلى المستشفى لكنهما خرجت بعد رفض العلاج.
وبحسب صحفية الاتحاد اليسارية تعرضت الفرقة لغضب السلطات بسبب تركيزها على مكافحة الرأسمالية والإمبريالية، ومعارضة سياسات أردوغان القمعية وسياساته الاحتلالية خارجياً، وفي عام 2017 أصدر الفريق ألبومًا بعنوان «كافح بغض النظر عن أي شيء» وظهر على غلاف الألبوم آلات موسيقية كانت شرطة اردوغان قد حكمتها أثناء مداهمة في ذات العام!
وتختزل مأساة هيلين بولاك حجم القمع الذي تمارسه أجهزة رجب طيب اردوغان بحق معارضيه ومناخ الترهيب الذي يسود تركيا بعد التعديلات الدستورية التي منحت الرئيس صلاحيات تنفيذية واسعة!
وتفضح «معارك الأمعاء الخاوية» التي يخوضها يساريون ومعارضون في تركيا اردوغان وجماعة الإسلام السياسي، حيث تلفت الانتباه العالمي نحو السياسات الاستبدادية التي يمارسها النظام ومنها اعتقالات الفنانين وأصحاب الرأي، وقضية هيلين بولاك واحدة من عدة قضايا، حيث لم يعد أمام المئات من سجناء الرأي ومن المعارضين السياسيين والأكاديميين الذين تم الزج بهم في السجون بتهم كيدية من خيار المعركة «الأمعاء الخاوية» لإسماع صوتهم للعالم، حيث إن إبراهيم فوكتشيك رفيق بولوك في الفرقة والنضال، يواصل استمراره في معركة «الأمعاء الخاوية»، وهو ينتظر الموت حالياً.
وقد تحدث كاتب تركي متضامن في تسجيل انتشر على الشبكة: «منذ زمن طويل ونحن نعيش فترة قمعية تتأجل الحقوق والحريات الأساسية وتنعدم فيها الثقة بالقضاء، أي أولئك الذين تصنفهم السلطة على انهم مذنبون ومجرمون، بسبب تعبيرهم عن آرائهم وأفكارهم وتزج بهم في السجون والمعتقلات، يعد تسليمهم بذا الشكل الهين إلى فيروس كورونا المستجد بمثابة التعاون مع ملك الموت واحتجاجاً على انتهاك حقوق الإنسان التي تستهدف الحقوقيين ومختلف فئات الشعب التركي أعلن منذ أيام المحامي ايتاج اونال والمحامية ابروتيمتيك إضراباً مفتوحاً عن الطعام.
وأوضح بيان صادر عن جمعية الحقوقيين التقدميين ومكتب المحاماة الشعبي التركي أن تيميك واونال قرّرا الدخول في هذا الإضراب المفتوح للمطالبة بالإفراج عن رئيس الجمعية «سلجوك كوز اغاجلي» وسبعة من أعضاء هيئتها الإدارية المعتقلين بعد أن حكمت المحكمة عليهم وعلى 12 آخرين من المحامين من أعضاء الجمعية بالسجن لفترات مختلفة وصل مجموعهم إلى 159 عامًا.
وناشد البيان في اليوم العالمي للصحافة جميع المنظمات الحقوقية في العالم باتخاذ موقف تضامني مع المحامين الأتراك المعتقلين «الذين يدفعون ثمن تصديهم لسياسات اردوغان الاستبدادية والمعادية للديمقراطية».
ويأتي إضراب المحاميين اونال وتيمتيك بعد وفاة المغنية بولاك.
انتهاك النظام التركي لحقوق الإنسان تتصدر تقارير المنظمات الدولية وعلى رأسهم تقرير الأمم المتحدة، حيث قامت دول عديدة بتوجه انتقادات لاذعة لتركيا بسبب تفشي ظاهرة انتهاكات لحقوق الإنسان منها الخارجية مثلما يحدث في سوريا وليبيا، ومنها داخلياً بسبب القمع الذي يمارسه النظام التركي للمواطنين الأتراك.
وأشارت منظمة «هيومن رايتس ووتش» إلى أن سلطات الرئيس التركي اردوغان، زادت بشدة بعد الانقلاب في 2016، وبعد الانتقال إلى النظام الرئاسي، وان الحكومة التركية تحاول فرض الشرعية على الإجراءات التي تتخذها مع المعارضة، ومع كل من ينتقد الحكومة.
وطلبت المنظمة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من الحكومة التركية التي يترأسها اردوغان، التوقف عن الاحتجاز التعسفي والممدد الطويلة والمحاكمات، للناشطين، والسياسيين والمعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
كشف تقرير جديد عن تصاعد المخاوف في تركيا بسبب ضعف البيئة السياسية الديمقراطية في البلاد، وأشار التقرير الذي صدر عن معهد دراسات الشرق الأدنى تحت عنوان «نظرة على الديمقراطية التركية 2033 وما بعدها» إلى أن «الجميع» قلق من أن النظام الحاكم قد يلجأ لفكر وأساليب أكثر قمعية في السنوات المقبلة».
الباحث في المعهد نيكولاس دونافورث، قال: «لن يكون من السهل على اردوغان أن ينقل الحكم إلى خليفته الذي يختاره أمام المعارضة بهذا الشكل، وسط الصعوبات السياسية التي يواجهها.
وأضاف: «تركي اليوم باتت دولة لا وجود للديمقراطية فيها، تركيا أصبحت دولة اضعف مما يصوره المرجون لها» في وداع هيلين تحولت - كما ينقل الكاتب والباحث المصري سامح إسماعيل - جنازتها إلى مظاهرة غاضبة ضد خليفة القمع وحزبه، فما كان من الشرطة إلا أن اقتحمت الجنازة، واعتدت على المشيعين، واعتقلت البعض منهم.
وعليه لم يعد أمام الآلاف من سجناء الرأي في زنازين اردوغان غير صيام الموت، كوسيلة أخيرة للمقاومة بعد أن سقطت كل الأقنعة عن النظام التركي والمتواطئين معه بموت هيلين بولاك، ففي الوقت الذي تمارس فيه جماعة الإخوان المسلمين والقوى المتأسلمة الأخرى كل أشكال الضغط للإفراج عن معتقليها، تغض الطرف عما يجري في السجون التركية من تعذيب وتنكيل وقتل.
ربما تصبح هيلين بولاك أيقونة جديدة من أيقونات المقاومة والتحرر، وربما يخلدها التاريخ ورفاقها، بعد أن ضربت المثل في التضحية والإيمان بقضيتها، وربما يردد العالم أغنياتها ذات يوم بشيء من الفخر، بعد أن يدرك الجميع حجم المأساة التركية، لكن المؤكد أن لغتها سوف تطارد النظام التركي المستبد إلى الأبد.
0 comments:
إرسال تعليق