الشعر السردي التعبيري هو الحالة الفريدة من الشعر التي جمعت جمال الشعر مع السرد مع الفن التشكيلي التعبيري بصورته العذبة جدا وكأننا نرسم بالكلمات فوق الورق بأعلى صورة حسية تصويرية شعرية ,
ندخل في قصيدة الشاعر (( كريم عبد الله )) : لنشاهد الصورة التعبيرية التي تحوزها القصيدة , وكيف يؤثث السردية بكل هذا الكم من المشاعر الملونة بحب وجمال وشفافية منسابة بعذوبة بتلقائية صرفة , تسرد تلك الحالة الشعورية بلطف شديد . معنا نص القصيدة:
شجرةُ الليمون أغنية الفرح
شجرةُ الليمون كوّمتْ مشاعرها اليابسة هنااااااااكَ في أقصى الضجر , صاغها الربيعُ كرستالاً دافئاً يترقرقُ يظلّلهُ الحنين , هيفاء غضٌّة ٌ مشاعرهُا رهيفة ٌ يرتسمُ الفرحُ على ثيابها يكسو عريَ أيام الجفاف , لامفرَّ لالليلِ الناعس إلاّ أن يخلعَ نعليهِ يطوفُ حولَ أسرارها يتوسّدُ عطرهِا المرتعش , ضفيرتانِ مِنَ النجومِ تتماوجانِ يرتقيانِ شموخها المتطاول سحراً , مِنْ عتمتها تخرجُ رائحةُ الليمون تتمايلُ على شواطىءِ الفيروزِ وحفيفُ البحرِ المترجرج يزيّنها بـ حُليّ الغبشِ ويقظة النهارات , حافية أوراقها طريّة تخبّىءُ الندى في إبطيها تتشمّسُ على أريكتها الشفيفة يداعبها قوس قزح يتخافقُ فوقَ الوسادةِ , كلَّ صباحٍ ترفرفُ عصافيرها تغنّي أغنيةَ الكونَ تراهنُ على صمودِ الحياة تلملمُ شذراتَ الربيع تُطعِمُ براعمها إكسيرَ الخلود , ترتدي ريشَ الأحلامِ الورديّة ترقصُ فرحاً متدفقة فادحة التأنق , تعلّقُ الأمنيات مستنفرة القبلات تنتظرُ مواسمَ اللقاء تمسحُ عنها تقشفَ الشتاء تتفادى ذبولَ السبات , خجلاً تتعرّقُ ملامحها إذا برقَ الحبَّ في قلبها الصائم تطردُ مِنْ رئتيها موسيقى الحزن , ينضجُ القدّاحُ يومىءُ إذا دغدغتها مناديل الفجرِ المتستّرةِ بـ الوشوشاتِ وفي جذورها العميقةِ جداً سـ يتكاثرُ النبض , كلّما يبزغُ الطلع مسروراً تتهللُ الأسارير تمضي و أنامل الدفءِ الحنونِ تتلذّذُ على القمةِ , مازالت تحفظُ ابتسامة جميلة تفتحُ أبوابَ الصباحِ الموشّى بـ الحرير , في نظراتها أفقٌ ثملٌ ناصعُ الأمل , تحتَ أجفانها تفقسُ الأزهار تعتنقُ أنوارها حرّة تتسكّعُ تتنشّقُ أريجَ ضحكتها البريئة , حتماً سـ تصغي الفصولُ لـ هديرِ كنوزها العاشقة تملأُ مجاعتها تغاريدَ بلابل وتغيّرُ طقوسَ الأيام , وسـ تدلّي سلالمَ الوفاء نحو ابراجها تدعوني أتفكّهُ حرّاً تمنحني تيجانَ ربيعها تلوّنني .
شجرةُ الليمون كوّمتْ مشاعرها اليابسة هنااااااااكَ في أقصى الضجر , صاغها الربيعُ كرستالاً دافئاً يترقرقُ يظلّلهُ الحنين , هيفاء غضٌّة ٌ مشاعرهُا رهيفة ٌ يرتسمُ الفرحُ على ثيابها يكسو عريَ أيام الجفاف .
العنوان في حد ذاته قصيدة جميلة فرحة , تلج للحواس البصرية والإدراكية للقارىء وتصور شجرة خضراء فرحة , مزينة بثمارها ورائحتها الطيبة تفوح في الأرجاء في جسد إمرأة , تتضوع في أحاسيسه رقة العطر الجميلة وجماله بكل ما يمكن من تصوير يخالج النفس والروح
إن الصورة هنا أستطاعت بسرعة القفز لمخيلة القارىء والمكوث هناك .
نتابع معه الشطر الأول من القصيدة
" شجرةُ الليمون كوّمتْ مشاعرها اليابسة هنااااااااكَ في أقصى الضجر "
يسرد الشاعر مشاعر حبيبته تلك مشبهاً إياها بشجرة الليمون الخضراء الجميلة التي تخبىء داخلها مشاعر تيبست من الضجر والعزلة فلا أبشع من الضجر, فهي تحتاج قلبا يمطرها حباً
جمال الصورة هنا يفرد اللوحة للقارىء عنصرا عنصرا , وكأنه فنان يشرح ما بلوحته ويترك للقارى حيز كبير إيمائي ليرى اللوحة من خلال الكلمات ,
" إن الصورة هنا تصويرية حسية " أمتهنت اللون والشكل والرائحة والعمق في قلب المرأة التي يصفها .
من جمال السرد الشعري أن يتركك الشاعر تدخل عمق اللوحة السردية دون أن تشعر بذلك, ومن ثم يسلط الضوء على أجزء اللوحة شيئا فشيئا , كأنك تشاهد الصور تمر أمامك من خلال السرد أشبه بقصة تمر في مخيلتك أو فيلم تجري أحداثه أمامك بينما تلمس أحاسيسك بالعمق دالة على ما يتوهج داخل الشاعر .
والشاعر كريم عبد الله من الشعراء الفذين في الوصف السردي الجميل , الذي يكون اللوحة بحسية عالية تفرد ألوان الحس وتداخلاته في قصيدته ببراعة تبهرك وأنت تقرأ وكأنك تشاهد .
ـ يستكمل السرد بتتالي لوحات جميلة مكملاً الوصف بحيث يجعلنا نتتبع القصيدة بشغف فيقول
( صاغها الربيعُ كرستالاً دافئاً يترقرقُ يظلّلهُ الحنين )
ما أروع الصورة لشدة جمالها وشفافية مشاعر تلك الهيفاء التي يراها ويستحسها, كأنما كانت كريستال شفيف دافىء يكسوه الشوق والحنين فيتضوع الجمال أكثر باهرا يلتمع في أقصى أكنات النفس .
الصورة تلمس العمق منا بيسر وجمال لقد عبر عما داخله بسلاسة أتخذت من السهل الممتنع لها عنوانا دون تعقيد وحشو في المعنى
ـ " نحتاج في التعبيرية الصورة الطازجة "
التي تشعرنا بتوهج الشاعر وكأنه ابن اللحظة وكأننا معه الآن وهو يتكلم , وليس سردا من غابر الأزمان أو من زمن بعيد
هنا اختلاف الصورة التعبيرية في الشعر عن الرواية أو القصة التي قد تأخذ بعداً زمنياً طويل المدى بسرد واقعي
يتابع الوصف فيقول
( هيفاء غضٌّة ٌ مشاعرهُا رهيفة ٌ يرتسمُ الفرحُ على ثيابها يكسو عريَ أيام الجفا ) .
حملت الصورة هنا صفات ملموسة فنجد كلمة (هيفاء .. غضة .. رهيفة .. فرح يرتسم .. يكسو عري الأيام ) .
كلها جاءت وصفية ملموسة تصور الحالة التي فيها تلك الهيفاء الفاتنة
صارت الصورة هنا فيها الكثير من المشاعر الحسية وفي الصورة الكثير من الوصف الشكلي المحسوس, الذي يجعلك كأنك ترى ما تقرأ وهنا براعة الشاعر السردي أن يصف كأنك ترى ما يصفه وتحسه بكل إنفعالاته الشعرية الجميلة , إن يدخلك معه الحدث من خلال الصورة التعبيرية يحدث حالة شعورية تشعرك بجمال الشعر العميق محدثة داخلنا التغير .
فعلى الشاعر السردي أن يكون فنان يرسم بالكلمة إذا أراد أن يكتب القصيدة السردية التعبيرية فهو شعر يرسم بالكلمات حتى يستطيع أن يعبر عن داخله بأقصى ما يمكن ويستطيع لمس قلب الجمهور وإحداث التغير او وصل الأفكار التي يريدها للخارج .
أخذ من القصيدة مقطعاً آخر
فجمال الوصفي الشعوري والدفق يزداد توهجا مع كل شطر جديد ومجاز جديد في القصيدة
وذاك يعطينا إنطباع عن قوة الإستشراق داخل الشاعر المتصلة , في وصف سردي ينقلنا معه لتدفق الأحداث , فالأحداث تتباثق مع كل مجاز بحدث جديد هذه التباثقية المتصلة بفكرتها منذ البداية , تجعلك تتابع الأحداث بدقة وترى اللوحات وهي تشرح داخل الشاعر حساً ومكاناً وزماناً فلا يشت إنتباه القارى لأن الشاعر أفكاره مترابطة بقوة يقول هنا
( تعلّقُ الأمنيات مستنفرة القبلات تنتظرُ مواسمَ اللقاء تمسحُ عنها تقشفَ الشتاء تتفادى ذبولَ السبات خجلاً تتعرّقُ ملامحها إذا برقَ الحبَّ في قلبها الصائم تطردُ مِنْ رئتيها موسيقى الحزن ( .
وكأنما الأمنيات أقراط تعلق أو ثمار تعلق على الشجرة وكأني أرى رقة الصورة وألوانها أمامي
ثم تنتظر مواسم اللقاء .. الصورة تعطيني إنطباع بفصول للقاء تحمل ألوانا مختفلة
وما زال يسرد حيث أنها تمسح تقشف الشتاء وبرده وزمهريره وتحيد عنها السبات الشتوي لتنهض مع صيف اللقاء .و ما زال يسرد عن المرأة في روح شجرة كل ما بها جميل أو روح إمرأة يرسمها بجمال شجرة طيبة مباركة
) خجلا تتعرق ملامحها ) أي تعبير أكثر طزاجة من هذا المعنى الحسي وكأنك تقف أمامها وتراها تتعرق توهجاً ودهشا وحباً
أتت الصورة الثانية متى وذاك
( إذا برق الحب في قلبها الصائم )
وكأن الحب برق يضرب في القلب فينهض بكل أحاسيسيه .
الصورة هنا لوحة عميقة الحس رشيقة المجاز بكل ما فيها تتابع معنا السردية للنهاية حتى يختمها بصورة
( حتماً سـ تصغي الفصولُ لـ هديرِ كنوزها العاشقة تملأُ مجاعتها تغاريدَ بلابل وتغيّرُ طقوسَ الأيام )
أتت الصورة واسعة فهي تصغي لكل أمانيها وحتما ستحققها , وكأنني في ختام الفيلم أشاهد كيف يستجيب القدر لأمانيها .
يذكرني ذلك بلقطة من فيلم حين جلست الفصول الأربعة تتحداث مع بعضها البعض لمساعدة الأميرة لقد حرك ذاكرتي العميقة وليس فقط وليس فقط الحس الأني , إنه جمال السرد الذي يتغلغل برقة سرده للأعماق
وها هي الفصول ستملأ جوع قلبها وتجعلها ممتلئة على أغصانها ببلابل تغرد رقيق النغم من فرحة اللقاء , ما زلنا نتكلم ونصور صورة تلو أخرى شجرة الليمون في روح أمرأة والمرأة الحيبية في روح شجرة ليمون غناء طيبة الرائحة جميلة بكل ما فيها
هذا هو جمال التعبيرية
أن تعبر عن ذاك الإنفعال الضخم داخلك بلوحة شعرية فنية طازجة تستطيع أن توصل أحاسيس الشاعر بأكبر قدر ممكن من الأحاسيس والوصف الصوري الموصوف بإطار الصورة الشعرية وما تحمله من تعبيرية جلية واضحة .
لقد أمتعنا الشاعر الفذ أ. كريم عبد الله برقة الوصف وجمال الصورة التعبيرية بكل إكتنازها بجمال المعنى المرسوم , ورقة مجازاته الشعرية التي تبهرك وأنت تطالع شفافية الوصف وصدقه وروعة السرد ورقته وعذوبة الصياغة العامة في تداخل الشعور بالصور .
إنها المدرسة التعبيرية الشعرية الحديثة لما بعد الحداثة بكل ما تحمله من جمال وعذوبة في التعبير والسرد والتصوير والإختزال والإيقاع المختلف عما سواها من مدارس الشعر .
.
0 comments:
إرسال تعليق