امرأة أعرفها مسبقا، لم نكن أصدقاء، كانت بيننا مشاحنات طفيفة، لسوء فهم، كنت قد ناقشتها بذلك الخلاف، تراضينا، وأصبحت علاقتنا عادية. انقطعتُ عن محادثتها سنتين وربّما أكثر، عدتُ إلى الفيسبوك بشخصيةٍ متنكرا تحت اسم مستعار، تبادلنا الأفكار والأشعار والكتابات، وحدثتني عن مغامراتها مع أصدقائها، واستفاضت في الحديث عن صديق لها كان يخاف من الجنس، كان يسرد لها الحكايات وهي متوسّدة ركبته، ويلعب بشعرها. لقد بكت عندما غادر ولم يودعها. لم يضاجعها إطلاقا كما قالت. أطلعتني على نص كتبته من وحي علاقتها به، كان نصا مدهشا، مفعما بالحب والشقاوة.
امرأة جميلة، سمراء، ثلاثينية، تضج بالنشاط، تحب الحرية كثيرا، بل إنها لا تحب إلا الحرية. معجبة جدا بشخصية أبيها الذي أطلعها على الكتب وشجعها على قراءتها. وهي ابنة ثلاثة عشر ربيعا، قرأتِ اللاز، وعرس بغل للطاهر وطار تلك الرواية التي تدور في بيت دعارة والشيخ فيها حشاش والأحداث بين العاهرات والقوادين، واطّلعت على شكسبير، وويليام بلايك، وت. س. إليوت، وريلكة، وأبو نواس، وراشد حسين. بل أصبحت قارئة نهمة، وكاتبة محترفة شعرا وقصص، ومواقف حياة.
تتحدث عن أبيها بحب ظاهر، بدت مغرمة به بلا وعي، وعلاقتها به تشبه علاقة جمانة حداد بأبيها. تخبرني أن أباها هو الذي علمها الحبّ والرقص (الفالس، والسالسا، والتانجو) قبل أن يعلمها الدبكة، أو الرقص الشرقي، وقد شربت لأول مرّة من يديه النبيذ، كان أبوها شخصية متحررة، شيوعيا، مثقفا، ورثت عنه مكتبة كبيرة متنوعة. وهو كذلك من علمها أن تكون امرأة، وعلمها أن الفستان هو الذي يمنح المرأة جمالا وأناقة وحضورا أنثويا.
كثيرة هي الأفكار التي تناقشنا فيها، امرأة كما تصف نفسها "ألترا ليبرالية"، تكره المتحرشين بها جنسيا، مع أنها كانت تمارس الجنس مع من ترغب، كأنها تتناول كأس شاي أو فنجان قهوة أو تدخن سيجارة، وعندما تتجلى علاقتها الجنسية بمن تحب ترتفع الرغبة في الممارسة كأنها تؤدي عملا عظيما أو تقرأ في كتاب مقدّس.
تعشق العمل الصفحي جدا، ومستعدة كما قالت أن تستغني عن كل احتياجاتها الجسدية والنفسية والمعنوية لأجل هذا العمل، تنبش في قضايا كثيرة، وتعد التحقيقات الصحفية، ولديها هوس التفوق الذي عبرت عنه مرارا في متابعة عدد القراء لموادها التي تنشرها في المواقع الإلكترونية، تختزن في ذاكرتها كثيرا من الفضائح حول الوسط الثقافي لكتّاب كبار وصغار وكاتبات يمارسن الغواية قبل أن يمارسن الكتابة. تعارضني في موقفي من بعض القضايا الثقافية، ولكنه لم يفسد هذا الخلاف علاقتنا قطّ.
لم أكن قد قابلتها في يوم من الأيام، لكن أخبارها الكثيرة كانت تصادفني، كنت كثيرا ما أقف أتأمل صورتها وجسمها، واكتناز صدرها، وسمرتها الشهية. كانت مثيرة بالفعل، كل شيء فيها يدعو إلى اشتعال اللذة في حريق طويل اللهب.
عندما كنت أعرض عليها بعض النصوص ويمرّ فيها بعض الألفاظ كانت تعبر عن حبها لألفاظ معينة، وكرهها لألفاظ أخرى، لم تكن تحب كلمة "نهد" في القصائد، كانت تفضل استخدام "الصدر"، فالصدر أشمل وأوسع وأبهج، والنهد فيه اختصار واختزال، ربما بتأثيرها ووجاهة قولها صار للصدر حضور كثيف في قصائدي.
لقد كشفتني مرتين، مرة عندما عرّتني من ذلك القناع الفيسبوكيّ الذي كنت أتخفّى خلفه، ومرة عندما كانت ترى حضور المرأة السرابية في نصوصي، لا شك في أنها رثت لحالي، مع أنها أوجعتني في كلتا المرتين.
كانت وحيدة، تسكن في المدينة، ذات ارتباطات متعددة وصداقات متشابكة، دعتني لأقضي في ضيافتها يوما كاملا، ووعدتني بوجبة طعام من إعدادها، كنت مسرورا بذلك، وأنا الذي كنت أحلم برضاها والجلوس إليها، ها أنا في بيتها، لا ثالث بيننا، ولم يحضر الشيطان. عرّفتني على بيتها، وتناولنا الطعام، والشاي والقهوة والأحاديث، تحرّرت من ملابسها الرسمية، وارتدت ملابسة زادتها جمالا وفتنة. كانت متألقة بالفعل، يعلو وجهها مسحةٌ من النور، وبسمتها شفافة، وقد أخذ شعر أبطيها بالظهور. لم أشته شيئا وقتذاك كشهوتي للنظر إلى هذه المنطقة من جسمها وتأمّلها.
قضينا شطرا من الليل ونحن نتحدث، ربما شتمنا بعض المستغلّين والفاسدين، وربما شتمنا الحياة كلها، تقرأ لي وأقرأ لها، نضحك سوية. كان صوتها رخيما رعويا إنشاديا ظريفاً، تأسرني وهي تتحدث بنعومة. يأتيها اتصال مفاجئ يدعوها لتغادر البيت، تركتني وحيدا، بعد أن أوصتني أن أكون كأنني في بيتي، صمتت قليلا ثم أضافت: عندك البيت كلّه بما فيه، كن فيه كما تشاء، وانظر إن أحببت في كل شيء وتأمل كل شيء. لقد رأيت أين هي خزانة ملابسي، تأملها ريثما أعود، قد أتأخر قليلا. حضنتني بحيادية وقبّلتني على وجنتي. خرجت وهي تغمزني بلطف. لم أنتبه لدفء صدرها أو طعم قبلتها. كانت قبلة باردة جدا، ليس فيها ما يبشّر بخلق جو من المتعة بيننا فيما تبقى من ليل.
ذهبت أولا لمكتبتها، ثمة كتب غريبة باللغة الفرنسية والإنجليزية، عرفت بعضها بالمقاربة أو باسم المؤلف، تناولت بعض الكتب العربية وقرأت فيها، إذ إن حظي مع اللغات الأجنبية معدوم. حضّرت لنفسي قدحًا ساخنا من الشاي، وتأملت صورها المركونة في زاوية من زوايا المكتبة. كم هي جميلة وشهية.
بعد ساعة من المكوث مع الكتب، توجهت لخزانتها، كانت عامرة بالكثير من الفساتين، ويفوح من بعضها روائح عطرية، وأخرى يفوح منها رائحة جسمها، يبدو أنها لم تغسلها. كانت رائحة جسمها منعشة إلى حدّ الجنون، تأملت كل فساتينها واحدا واحدا، بعضها رأيتها ترتديه في صورها المبعثرة في المكتبة أو في صفحات الإنترنت. بحثت عن مكان ملابسها الداخلية... ها هي، قطع أرى مثلها لأول مرة، وألوانها حمراء وسوداء وبيضاء ونهدية، وذات أشكال وتفصيلات تثير كل الحواس لأتخيلها وهي ترتديها واحدا واحدا. انتبهت، ثمة قطعة على السرير، التقتطها، تحسستها، فيها بعض البلل، شممتها، ذات رائحة أثارت جنوني، فانتصبت، وبلا وعي، فركت قضيبي به، فبللته كله، لم أفكر بردة فعلها، ساعتئذٍ، كل ما كنت أريده هو أن يختلط مائي بمائها ولو خارج رحمها.
لم أكد أخرج من حالتي وتمالك نفسي، حتى وجدتها واقفة خلفي بكامل نشوتها وهي تضحك، وبيدها "الكلوت الأحمر" المبلل، وقفت أمامها، أخذت تفرك به صدرها العاري، وتنظر إلي بشهوة. جذبتني إليها.
لحظات، لا أدري كيف مرت، وإذ نحن في السرير، فقت من سكرتي، وهي تئن نشوى، وأنا أتلوى، فوقها مرة ومرة تحتها، حتى انتهى كل شيء. حدقت بي وانهمرت ضاحكة، وما هي إلا لحظة قصيرة حتى غرقت معها في موجة ضحك هستيرية ونحن ممدان على السرير عاريين. تكفّ فجأة عن الضحك. وأنا توقفت، متوقعا أن ينقلب المشهد إلى ضده، اعتدلت في جلستها، ودعتني لأفعل فعلها. ارتسمت على وجهها ملامح الجدية ثم قالت: هل تعلم أنني لم أغادر البيت، كنت أراقبك ماذا ستفعل.
- ولكنني رأيتك قد خرجت من الباب.
- نعم، صحيح، ولكنني دخلت من باب آخر، ورأيت كل أفعالك.
قلت وأنا أشعر بالغضب، إذ كيف عرّتني للمرة الثالثة، بل إنها المرة الرابعة: هل تعمدتِ أن تمتحنينني؟
- أبدا، ليس امتحانا، ولكنها لعبة طريفة لأراك دون حجاب، ربما لم تكن جديرا بي.
- وماذا كانت نتيجة اللعبة؟
ضحكت بعلو صوتها، وبسرعة خاطفة جذبتني إليها، وأخذت تقبلني على فمي ورقبتي، واعتلتني مرة أخرى، فشعرت بجسمها كله يتغلغل في جسمي.
في صباح اليوم التالي كانت قد أفاقت من نومها أبكر مني، انتظرتني حتى صحوت فاغتسلنا معا، وارتدت ملابسها قطعة قطعة أمامي، نظرتُ إلى وجهها منعشا كأنه مجبول بخضرة النعنع ورائحة الياسمين. أعدّت فنجانين من القهوة، وأهدتني نصًّا بخطّ يدها كتبته عن ليلتنا، خرجنا من البيت وقد أمسكت بيدي، وقالت: لا نريد سيارة، هل ترغب في أن نقطع المسافة معا مشيا على الأقدام؟ أجبتها وأنا رغبتي تفوق رغبتها في ألّا نستقلّ سيارة: بكل تأكيد، فلا يحلو أن نكون إلّا معا في هذا الطريق الطويل.
نيسان 2020
______________________
* نص من كتاب "نسوة في المدينة" معدّ للنشر.
0 comments:
إرسال تعليق