قد تبدو هذه الحادثة للبعض مجرد مزحة عابرة هامشية؛ بينما هي، برأيي، عكس ذلك؛ فسياقها يجب ان يُموضع ويُقرأ على خلفية المشاهد التي تصدّرت نشرات الفضائيات واستعرضت اخبار اعتداءات قوات الشرطة الاسرائيلية على المتظاهرين المتدينين اليهود، حيث أكّدت مناظر عنف عناصر الشرطة المنفلتين، مرة اخرى، اننا ازاء ظاهرة خطيرة تستوجب التوقف عندها، لأنها تعكس حقيقة وطبيعة النظام السياسي الذي سيحكم الدولة في السنوات القادمة.
معظم المواطنين العرب لا يعيرون هذه الاخبار "الصغيرة" والمشاهد المستفزة أي اهتمام، كما لم يعيروا ، اعتداء نفس هذه الشرطة، قبل شهر، على المتظاهرين اليهود امام بيت رئيس الوزراء نتنياهو في شارع بلفور، وكان بينهم العديد من الشخصيات المعروفة بتاريخها الصهيوني البارز مثل رئيس جهاز الشاباك السابق كرمي جيلون الذي جرح هو وغيره في تلك المظاهرة.
لا أعرف متى ستستوعب نخبنا الواعية وقياديونا اننا نقف على "عتبة جهنم"؛ ولا نملك ذلك الترف، مهما كانت مسبباته، لاغفال ما يحصل، أو لتأجيل مواجهته أو للشماتة بسببه؛ كما تشعر بعض القطاعات الواسعة بيننا، ولسان حالهم يلهج ويقول: إنهم يأكلون بعضهم فدعوهم يسيرون نحو حتفهم بأرجلهم.
هنالك هوة كبيرة بين ما يجري من تفاعلات سياسية داخل المجتمع اليهودي وبين ما يوازيها من ركود مقلق يتحكم في فضاءات مجتمعاتنا العربية السياسية وانهيارات في السلوكيات الاجتماعية؛ فبين الاكثرية اليهودية تتنامى وتكتمل مظاهر الفاشية، وفي مواجهتها تتسع حلقات المعارضين الذين بدأوا يستشعرون بحتمية ذلك التطور الذي سيفضي الى تشكل نظام ديكتاتوري شبيه بجميع الانظمة الفاشية السوداء التي عرفها التاريخ، لا سيما في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين.
أما في المقابل، وعلى الرغم من اقتناع معظم طلائعي النخب العربية ، المزوده بادوات علمية والمنكشفة على تجارب الشعوب الاخرى، بأن ممارسات النظام الفاشي الجديد، على الصعيدين العام والخاص بنا، ستختلف جوهريًا عمّا عاشه المجتمع الاسرائيلي وعشناه نحن في العقود السبعة الماضية، الا ان هذه النخب وعلى الرغم من ذلك لم تبادر الى أية محاولة لمنع وقوع الأسوأ المتوقع، أو للبحث عن وسائل لمقاومته.
سيدّعي الكثيرون، كما أتوقع، أن لا جديد في المشهد الاسرائيلي؛ فهذه الشرطة هي شرطتها القديمة الجديدة، ولطالما شاهدنا عصيها وهي تهوي على رؤوس وأجساد المتظاهرين العرب، وبنادقها تطلق عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع او حتى الرصاص المطاطي والحي، كما جرى في احداث يوم الارض الخالد او خلال احتجاجات اكتوبر في العام 2000 وفي غيرها من الانفلاتات الشرطية العنصرية القمعية التي خلّفت وراءها، بين المواطنين العرب، الضحايا والمصابين والأحزان.
لكنني وان كنت أوافق على صحة هذا الادعاء بمنظوره التاريخي، أؤكد هنا ، مرة أخرى، على ان ممارسات عناصر الشرطة الاخيرة ستبقى علامات فارقة وتاريخية لانها حملت دلالات خطيرة على طبيعة التحولات التي مر بها نظام الحكم في اسرئيل، وبراهين على انتقاله من نظام عنصري يقمع ويضطهد مواطني الدولة العرب الى نظام مستبد لا ديمقراطي وفاشي، لا يقبل بأي نوع من المعارضة السياسية حتى لو كانت آتية من داخل المجتمع اليهودي، وتمارسها قطاعات يهودية متدينة - يدعم كبارها عمليًا حكومة نتنياهو - أو اجسام وجهات وشخصيات صهيونية بارزة وصاحبة تاريخ مشهود لها بتضحياتها من اجل بناء اسرائيل القوية.
من الضروري أن نلاحظ الازدياد في اعداد المعارضين اليهود وتنوع خلفيات شرائحهم الاجتماعية ومؤهلاتهم العلمية وانتماءاتهم الايديولوجية كما كانت معلنة ومعروفة. ومن المفيد ان نسمع أصواتهم وهم يحاولون اختراق جدران السلطة الفولاذية؛ وان نلحظ ما بدأت ترفعه هذه المجموعات من شعارات مناهضة لنظام الحكم، وأية لغة سياسية جديدة اختاروها وجندوها في سبيل ذلك، رغم صهيونيتهم.
سيلجأ الكثيرون من المعلقين والناشطين السياسيين والاجتماعيين العرب، الى تقزيم تلك الظواهر من خلال تنقيبهم عن مواضي اولئك الاشخاص وتسجيل ما اقترفت أيمانهم بحق الفلسطينيين وبحقنا نحن المواطنين العرب، وهذا امر طبيعي ومنتظر ؛ ولئن ستبقى تلك التفاصيل والممارسات وصمات عار في سيَرهم الشخصية، فلا يصح سياسيًا ومن غير المعقول أن نرفض التوقف عند "توباتهم" كما يصرون على اعلانها والقتال من اجلها، واصرارهم على اجهاض الزحف الفاشي ومنع انتصاره النهائي، حتى لو جاءت "صحوتهم" مجزوءة أو متأخرة او ليست وفق طقوسنا؛ ولنا في تجربة الجنرال ماتي بيلد مع "القائمة التقدميه" عبرة وسابقة، وهي ليست الحالة الوحيدة.
من مصلحتنا، نحن المواطنين العرب، متابعة ما يجري في هذه "الجبهة"، ومن واجبنا ان نحاول الاستفادة من هذه التفاعلات، وذلك لن يتم ما دامت كل الاطر السياسية والحزبية والحركية المدنية والاسلامية الناشطة بيننا، سواء في الكنيست او خارجها، متمسكة بتزمت عصبي بأنماط عملها وببرامجها السياسية التي كانت نقطة انطلاقها عند حدوث النكبة ويوم اعلان دولة اسرائيل، وهي غير مستعدة لاجراء أية ليونة سياسية، ولو تكتيكية، تفرضها ظروف الساعة والمخاطر الوجودية المحدقة بمستقبلنا وبمستقبل اولادنا.
يساورني شعور بان هنالك تغييرًا جدّيًا في مواقف مجموعات يهودية عديدة من المعارضين لسياسات اليمين الفاشي؛ واشعر ان دوافع معارضتهم اليوم تختلف عما ألفناه من مواقف ومنطلقات الكثيرين من الصهاينة اليساريين وغيرهم، حين كانت معارضتهم لسياسات القمع بحق الفلسطينيين تحت الاحتلال وبحقنا كمواطنين مضطهدين، مجرد صرخات "اخلاقية" عابرة صادرة عن انتماء صهيوني ليبرالي هش لابن شعب محتل متجبّر، او نتيجة لخوفهم الصهيوني على مصير دولتهم.
قد أكون مخطئًا، لكنني ادعو الى التوقف عند ما يحصل ودراسته بتمعن جدي ومسؤول، والاصغاء لما يقال من خلال بعض المنابر والمواقع المعارضة؛ فشعار "شرطة نتنياهو تقمع الشعب" او "سرقوا الدولة" او تشبيه بعض الممارسات الحكوميه وتعاظم مظاهر الفساد بحكم عائلات الاجرام المنظم وغيرها من الشعارات المستحدثة، كلها قد تكون بوادر لتغييرات جذرية عند من بدأوا يطلقون تلك الشعارات ويفتشون عن حلول خارج أطر معتقداتهم الصهيونية التقليدية؛ خاصة بعد أن تحققوا مما أفضت اليه مواقفهم السابقة.
قد تكون هذه مجرد تمنيات أو ارهاصات حقيقية لحالات يجب ان تتابع وترصد وتدرس وتوظف في سبيل توسيع جبهات مواجهة خطر الفاشية؛ فمن لا يوافقني، عليه ان يعلن عن برنامجه لصد الفاشية والانتصار عليها، وليس بالدعاء وحسب وبالايمان بحتمية المسار التصحيحي للتاريخ، وبشعارات مثل لايصح الا الصحيح وما الى ذلك..
كلنا نعرف خارطة القوى السياسية الناشطة بين المواطنين العرب، ورغم ذلك لا أرى من سيرفع الصاريه ومن سيعلق الأشرعة، لكنني على يقين اننا نقف على "باب جهنم" واعرف انه ما لم نتحرك فورًا فسيسبقنا "الشيطان"؛ فمشاهد عربدات الشرطة ضد كبار رجال الامن السابقين بسبب معارضتهم لسياسات النظام المستبد، وصور العنف الممارس ضد النساء والشيوخ والشباب والشخصيات اليهودية التي شاركت في تلك الاحتجاجات، ستبقى شواهد على كيف تحوّلت مؤسسات الدولة، وشرطتها في المقدمة، من اجهزة موكلة بخدمة الدولة وحماية مواطنيها اليهود - وتمارس بشكل منهجي سياسة القمع العنصري ضد مواطنيها العرب- الى أدوات مقادة من قبل مسوخ بشرية والى اذرع مسيّسة تلاحق وتضرب، باسم الحاكم الاوحد، كل معارض وكل محتج على شرعية سلطته وعلى سياساته .
لسنا وحيدين هنا، فمن سيدق الاجراس على باب جهنم؟
0 comments:
إرسال تعليق