اقتصرت مراسم التنصيب الأمريكية هذه المرّة كغير المعهود على حضور محدود، وذلك بسبب القيود المفروضة لمواجهة انتشار كورونا مؤطّرة بإجراءات أمنية مكثّفة لتأمينها في مبنى«كابيتول هيل» عقب اقتحام المقر من مؤيدي ترامب في 6 يناير/كانون الثاني، كذلك عدم الحضور المعيب لسلفه «دونالد ترامب» المتوقع، ليخالف بذلك التقليد الأمريكي.
كانت أول تصريحات «جو بايدن» بعد ساعات من أداء اليمين إبطال أبرز قرارات ترامب، وأهمّها تغيّر المناخ والهجرة وإعادة الإنضمام إلى «اتفاق باريس للمناخ» المبرم في 2015م، كما وتهدف حكومته - مثل البلدان الصناعية الأخرى - إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الصفر بحلول عام 2050م، وإلغاء التصريح الرئاسي لخط أنابيب «كيستون» المثير للجدل من كندا إلى أمريكا، والذي احتجت عليه الحكومة الكندية بشدّة، كما وأنهى حظراً على دخول مواطني عدد من الدول ذات الغالبية المسلمة، بالإضافة إلى المساواة بين الأعراق والأجناس، والعودة إلى منظمة الصحة العالمية، وما سيتمخّض عنها من تحسّن في فرص التعاون مع الدول الأخرى والتعامل مع كورونا والأوبئة المستقبلية، إلّا أنّ التغيّر الذي - قد يصفه البعض بـ «الجذري» - لن يعيد كثير القرارت إلى ما كانت عليه في سابق عهدها.
حاول دونالد ترامب حتى آخر 48 ساعة له كرئيس العبث بالقرارات لتعقيد المهمّة أمام خلفه، حيث أمر الأخير يوم الاثنين 18 يناير/كانون الثاني 2021م برفع حظر الدخول المتعلّق بكورونا للأجانب من معظم الدول الأوروبية والبرازيل الساري منذ مارس/آذار من العام الماضي، بدءاً من 26 يناير/كانون الثاني، إلّا أنّ المتحدّثة بإسم البيت الأبيض «جين بساكي» صرّحت أنّ قرارات الأخير لن يتم تنفيذها بسبب الوضع الوبائي الدراماتيكي، لا بل من المتوقّع تشديدها.
لقد فرضت إدارة ترامب يوم الثلاثاء 19 يناير/كانون الثاني 2021م عقوبات على مشروع خط الأنابيب الألماني الروسي «نورد ستريم 2» وبهذا نفّذ الرئيس المنتهية ولايته القرارات التشريعية التي أقرّها الكونجرس عام 2019م بأغلبية كبيرة من الحزبين. لذلك، لم يكن هناك اعتراض من جهة بايدن، بدلالة التصريحات السابقة للأخير ووزير خارجيته «أنتوني بلينكين» التي تشير إلى أنّ الحكومة الجديدة ستتّخذ إجراءات أكثر حسماً ضد مشروع خط الأنابيب، حيث تتهم الأخيرة ألمانيا بجعل أوروبا مع استكماله معتمدة بشكل كبير على إمدادات الطاقة الروسية، ممّا قد يؤدي إلى صراع مع حكومة «أنجيلا ميركل» المتمسّكة بالمشروع. من ناحية أخرى يتهم أنصار نورد ستريم 2 الولايات المتحدة بأنّها تريد جرّاء ذلك التسويق لغازها المسال بشكل أفضل في أوروبا.
وعود بايدن بحلّ الدولتين
ما إن تمّ تحديد بايدن كفائز في الانتخابات الرئاسية حتى فتحت السلطة الفلسطينية القنوات الدبلوماسية التي أغلقتها في ظلّ إدارة ترامب، فقد أجرت السلطة الاتصالات الأولى مع الإدارة الأمريكية، وزار الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأردن ومصر لإجراء محادثات تنسيقية، كما استأنفت حكومته التعاون مع إسرائيل الذي كانت قد علّقته في مايو/أيّار رداً على خطط الضّمّ الإسرائيلية.
يبدو أنّ بايدن سينفّذ بعض وعوده تجاه الفلسطينيين بما لا يتناقض ومصلحة إسرائيل، حيث عزم الأخير على استئناف تقديم مساعدات كان دونالد ترامب قد أوقفها، فضلاً عن استئناف نشاط البعثات الدبلوماسية، بالإضافة إلى تأييد بايدن «الشكلي» بحلّ الدولتين لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حسب تصريح «ريتشارد ميلز» القائم بأعمال السفير الأمريكي لدى الأممّ المتحدة.
وهذا ما صرّح به إبّان حملته الإنتخابية في لقاء افتراضي جمعه بمتبرعين يهود أمريكيين يوم الثلاثاء 19 مايو/أيّار، حيث بدا كثير الحنكة، فقد قال بأنّه سيعكس سياسات ترامب تجاه إسرائيل، والتي تضرّ وتقوّض بشكل كبير آلية السلام مع الفلسطينيين، ومعارضته «بنيامين نتنياهو» مشروع الضّمّ، متعهداً في ذات الوقت بالحفاظ على مذكّرة التفاهم لعام 2016م التي أُبرمت بين إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق «باراك أوباما» وإسرائيل، والتي تُخصّص لإسرائيل 38 مليار دولار لمدّة عشر سنوات، على الرغم من طرح بعض منافسي بايدن السابقين طيلة الإنتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي استخدام منع المساعدات كآلية لردع الحكومة الإسرائيلية عن تفعيل قرارات تضرّ بحلّ الدولتين.
بالمقابل كان قد نوّه الأخير أثناء حملته بأنّه لن يسعَ لإعادة السفارة إلى القدس لوضعها السابق كقنصلية، كما لم يتطرّق إلى العمل لمنع الضّمّ إذا قامت حكومة نتنياهو بإقرارها قبل انتخابات نوفمبر 2020م، وأنّه ملتزم بقانون «تايلور فورس»، الذي أُبرم عام 2018م وينص على حجب أجزاء من المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية واقتطاع دولة الإحتلال عائدات الضرائب «المقاصة» التي تصل إلى 2.6 مليار شيقل سنوياً، بسبب صرف حكومة عباس رواتب شهرية لأُسر الأسرى والشهداء الفلسطينيين.
الأكثر قرباً من الواقع ألّا تأخذ القضيّة الفلسطينية ومشروع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين مكانة مميّزة في القريب العاجل أو أنّ تكون واحدة من أولوليات الحكومة الأمريكية الجديدة، وتحديداً المصلحة الفلسطينية، وللمراقب أن يرى بجلاء الإهتمام الأول للرئيس وهو البيئة والمناخ تزامناً مع سياسته المقبلة مع روسيا والصين والإتفاق النووي مع إيران ودعمها الراسخ لإسرائيل على حدّ تعبير ميلز.
روسيا الخصم
سبق ووصف الرئيس الحالي روسيا بأنّها «الخصم الرئيس» للولايات المتحدة أثناء حملته الانتخابية، بينما كان ترامب دائمًا يعهد بهذا الدور إلى الصين. وعلى الرغم من اختلاف بايدن بالسياسة الخارجية لسلفه، فستتمثّل المناقضة في استمرار القيادة الأمريكية الجديدة في مختلف مجالات العلاقات الدولية والسياسية.
بصرف النظر عن الحقيقة التي يبدو بايدن من خلالها وبلينكين ونائبة الرئيس «كامالا هاريس» أكثر موضوعيّة ووديّة من سلفه، ستحاول حكومة الأخير تصحيح مسار سياسة ترامب جزئياً أو كلياً في بعض الإتجاهات، لكنّها ستستمر لا محال في مجالات أخرى كخلفها أو ستفاقمها وفقاً للمصلحة القومية الأمريكية. ولا يزال غير واضح كيف سيتوافق التزام بايدن وبلينكين بموضوع «التعدّدية» والتعاون الدولي مع مطالبهم المُصاغة بوضوح بدور قيادي عالمي. الأكثر وضوحاً هو الابتعاد عن سياسة ترامب ونهجه الفجّ الفظّ الغليظ.
الصراع الإيراني الصيني وحلف الناتو
من ناحية أخرى تطالب طهران الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة في عهد ترامب، وممّا قد يزيد الصراع تعقيداً هي الدعوات إلى الاتفاق النووي ليشمل قيوداً على الصواريخ التقليدية الإيرانية، فأهمية التوصّل إلى اتفاق هي ضرورة ملحّة، لأنّ قوة المتشدّدين في إيران تعزّزت بفعل سياسة ترامب المتمثّلة بالضغط الهائل على إيران.
ستلتزم حكومة بايدن بحلف شمال الأطلسي، الذي وصفه ترامب بالذي عفا عليه الزمن؛ وبمعزل عن جميع الخلافات الداخلية، إلّا أنّ الحلف لا يزال الأداة الأهم للولايات المتحدة لممارسة نفوذها وسيطرتها الجزئية على أوروبا، ومع ذلك سيزداد الضغط الذي تمارسه واشنطن على الحلفاء الأوروبيين وتحميلهم المزيد من الأعباء المالية والعسكرية.
أمضت إدارة أوباما بالإضافة إلى بايدن ثماني سنوات دون جدوى في مناقشة استراتيجية صحيحة تجاه الصين، تضمّنت مواجهات عسكرية من خلال تزايد القوات المسلحة الأمريكية في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي، أو اندماج الصين في اللوائح والتعاون مع المؤسسات الدولية. أمّا في عهد ترامب فكان أول إجراء رسمي لحكومته قبل أربع سنوات هو إعلان منطقة التجارة الحرّة - التي تم التفاوض عليها في عهد أوباما - بين الولايات المتحدة وجميع الدول ذات الصلة اقتصادياً في آسيا باستثناء الصين، بالإضافة إلى شنّ ترامب حرباً اقتصادية ضد الأخيرة، أدّت إلى إلحاق ضرر أكبر بالاقتصاد الأمريكي.
الولايات المتحدة مستمرّة بفقدان نفوذها
سيكون العامل الحاسم في السلوك المستقبلي للولايات المتحدة تجاه الصين هو ما إذا كانت الحكومة الحالية ستأخذ حقاً مطالبتها بدور قيادي عالمي على محمل الجدّ، أو ما إذا كانت عبارات الرئيس الحالي تسويقيّة فارغة جوفاء أو صيّغ لفظية رنانة، فبالنظر إلى الإطار السياسي العالمي اليوم، فإنّ هذا المطلب أو الاستحقاق الذي ترنو إليه الحكومة الأمريكية غير واقعي. أوروبا بالمقابل ناتجها القومي الإجمالي أكبر بالفعل من الناتج القومي الأمريكي، ومن المتوقّع تفوّق الصين على الولايات المتحدة في غضون أعوام في مجال العلوم والتكنولوجيا أيضاً، فقد وصلت القوة العالمية الصينية المستقبلية للمستوى الأمريكي، وربما تجاوزتها. أمّا روسيا فتقف متساوية معها كقوة نوويّة تقريباً، بالإضافة إلى الهند التي ستنضم في غضون سنوات قليلة إلى القوى العالمية الفاعلة.
نهاية، سؤال إلى العرب الحالمين بصلاح الدين الأمريكي عن حدود تبدّل القرارات الأمريكية حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهل سيقيم بايدن دولة فلسطينية ويخضِع إسرائيل للمطالب الفلسطينية؟ أم أنّ الأخير يدغدغ المشاعر العربية بوعود معسولة لا غير، لا تتجاوز حد الخطابة والتخدير؟
لن يتراجع بايدن عن قرارت ترامب، إنّما سيتحدّث خطابياً لا غير عن ضرورة حلّ الدولتين دون ممارسة أي نوع من الضغوطات على إسرائيل لإقامة دولة فلسطينية أو لوقف التوسّع الإستيطاني على حساب الفلسطيني، هذا لإختراق إسرائيل النظام الأمريكي الواضح، بحيث تجدّ المفاوضين الأمريكيين يتذّرعون لإسرائيل ويدافعون ويخلقون مبرّرات بدل دورهم كوسيط نزيه، و«جاريد كوشنير» وصفقته «السلام من أجل الإزدهار» التي أثقلت وأثخنت بالقضية أكبر مثال، فقد تضمّنت الضّمّ الذي يؤرّق الجانب الفلسطيني وحده.
النظام الأمريكي بحزبيه الديمقراطي والجمهوري لا يقيم وزناً للعرب أو لحفائه من المطبّعين، لذلك لن تلعب الإدارة الأمريكية دور الوسيط النزيه أبداً إن لم يكن هناك كلفة تترتّب على الإستهتار بالمطالب الفلسطينية. وحدة الصف الفلسطيني بجميع فصائلها هي وحدها القادرة على تحقيق مطالبهم لإقامة دولة على حدود 1967م، وهي وحدها القادرة على إخضاع الإحتلال وإجلاسه معهم «النِّدّ بالنِّدّ» على طاولة المفاوضات، وإعادة قراءة الملف الفلسطيني من جديد. ما دون ذلك، فقد قفزت إسرائيل عن السلطة الفلسطينية وأقامت معاهدات إذلالية تطبيعية مع أخوتهم العرب الطامعين بتنفّذ وهمي في المنطقة.
0 comments:
إرسال تعليق