القصيدةُ هنا؛ هي رفّةُ العَين، ما بين الصورةِ والذاكرةِ... والدخولِ إلى مملكةِ الكلماتِ من جهةِ الشرفَةِ - هي الاتّساعُ على الذاكرةِ – تلكَ الذاكرةُ التي تُشرّعُ أبوابَها (للأمّ) الأمّ الوَطنِ - والأمِّ الذاكرةِ - والأمِّ الدائمةِ الخَصبِ في تجديدِ الحَياةِ.
أَدخلُ من شُرْفةِ الكلماتِ
إلى إبرةٍ في أصابِع أُمِّي
تَخِيطُ الوطنَ المُجَعَّدَ
هنا حرارةُ العاطفةِ الكامنةِ في الكلمةِ التي خرجَت من الشرفَةِ لتُطِلَّ على العالمِ (عالمِنا العربي) المُجعّدِ.
هي (إبرةٌ) والوسيلةُ مَكشوفةٌ وواضحَةٌ - الإبرةُ التي تَخِيطُ الثوبَ الأجمَلَ بمُتَتاليةِ الوَخزِ (الوَجعِ) هنا أنسَنَةُ الإبرةِ في تجميلِ عالمِنا المُجعّدِ.
تَخِيطُ الوطنَ المُجَعَّدَ
في ثوبِها المنزليّ..
ليس بعَفويةٍ وَبلا قَصدٍ - بل بقصدٍ وإصرارٍ - هذا الثوبُ المَفتوحُ على الجهاتِ الخَمس (يهمُّني هنا، في سياقِ التحليلِ - الجهةُ الخامِسةُ - الفَضاءُ) هو الثوبُ المنزليّ... الذي يجعلُ من ذاكرةِ الشاعرِ الوليدِ السُلّمَ إلى فضاءِ العالَمِ الرحبِ... مِن الواقعيّةِ إلى سدرَةِ الخيالِ.
الوطنُ الذي يتفتَّحُ حَبَقًا
كلَّما فتحتْ يديها على نافذة
تأمّل معي جماليةَ (الواقعيةُ مع الخيالِ) الوطنِ – حبقًا - مِن يديها - هنا الخَصبُ والتجديدُ للوطنِ للحياةِ للإنسانِ والنافذةِ – هي الشاشةُ التي نطلُّ منها على العالمِ الواسعِ.
استطاعَ الشاعرُ بمقدرةٍ بلاغيةٍ توصيلَ الرسالةِ ما بين الأمِّ الوطنِ، والوطنِ الأمِّ... والأمل... كلما فتحنا عيونَنا ونظرنا إلى واقعِنا من نافذةِ الأملِ... نطلُّ على حقلِ الحبقِ.
الوطنُ الذي يتفتَّحُ حَبَقًا
كلَّما فتحتْ يديها على نافذةٍ
على طَرَف الكُمِّ فوضى،
مِئْذَنةٌ تتوَضَّأُ بالرِّيح..
ويتابع؛ يصِفُ الفوضى على طرفِ الكُمّ – هذه الفوضى ليست بالرسمِ فقط، بل بكل شؤوننِا حتى تلك المئذنة – صلاتنا - تتوضّأ بالريحِ... كما قلتُ - ما بين الصورةِ والذاكرةِ، عندَ الوليدِ... تمرُّ مَشاهدُ (ليست عفويةً) بمقدارِ ما في الذاكرةِ من مَخزونٍ عاطفيٍ وفكريٍ لتجديدِ العالَمِ والخروجِ من التعقيدِ إلى البساطةِ - أو السهلِ الممتنع.
نِداءُ المُؤذِّن نسوةٌ
يَفْلِتْنَ من أدْغال صِبَاه
أساورُهنَّ.. في يدِ الضَّوء الأخير.
هنا الروعةُ في الصورةِ الشعريةِ – بعد المِئذنةِ وبالترتيبِ – المؤذّن – وتلك الجماليةُ للذاكرةِ... كيف يجمعُ ما بين كلِّ تلك الرهبةِ – النداءِ - ورنينِ الأساورِ ويدِ الضوءِ – جعلَ للضوءِ (يدًا) أنسنَه الضوءُ كي يفرُشَ العتمةَ أو الضياءَ - تلك العودةُ إلى أدغالِ الصِبا بكلّ جمالياتِ المعنى.
حطَّتْ العتمةُ، حطَّ الحمام
في مَنَاقيره رَنينُ الحِلِيّ.
المدينة فَكَّتْ أزْرارَها،
رَمَتْ شوارعَها في المتاهةِ
لا أحدَ سيمُرُّ،
لا أحدَ من ثُقوب النُّعاس سيفْلتُ،
إلاّ صبيّاً يفتِّشُ عن أمِّهِ في صَرير الباب
ونافورةً
تبحثُ عن مُطْلق
في فضاء الغياب.
المقطعُ الأخيرُ صورةٌ لهذا العالمِ المحصورِ في الجهاتِ الخمسِ... بعد أن حطَّت العتمةُ وأقفرَت الشوارعُ من ناسِها، تعودُ الذاكرةُ ويعودُ رنينُ الحلى لتلك الغائبةِ (الأمِّ أو الوطنِ) وهذا الصبيُّ بعدما نامَت المدينةُ، وحدَه يتذكّرُ ويفتّشُ عن الأمِّ في التفاصيلِ الصغيرةِ وفي الغيابِ.
هنا العودةُ مع المُطلقِ إلى البِدايةِ، وهذا الثوبُ الذي يُعيدُ الذاكرةَ مفتوحةً على مِصراعَيها بوسعِ العالَمِ، وتلك النافورةُ التي هي أيضًا تُعيدُ نشيدَ الماءِ – المرّة تلوَ الأخرى، والإنسانُ عندَ الغيابِ يُعيدُ كلَّ تلك التفاصيلِ الصغيرةِ حتى الرسمِ المَنقوشِ على الثوبِ المَفتوحِ على الجهاتِ الخمس.
القصيدة:
الشاعر: وليد الزوكاني *
ثوبٌ يرتدي خمسَ جهات
أَدخلُ من شُرْفة الكلمات
إلى إبرةٍ في أصابِع أُمِّي
تَخِيطُ الوطنَ المُجَعَّدَ
في ثوبها المنزليّ..
الوطنُ الذي يتفتَّحُ حَبَقَاً
كلَّما فتحتْ يديها على نافذة
على طَرَف الكُمِّ فوضى،
مِئْذَنةٌ تتوَضَّأُ بالرِّيح..
نِداءُ المُؤذِّن نسوةٌ
يَفْلِتْنَ من أدْغال صِبَاه
أساورُهنَّ.. في يدِ الضَّوء الأخير.
حطَّتْ العتمةُ، حطَّ الحمام
في مَنَاقيره رَنينُ الحِلِيّ.
المدينة فَكَّتْ أزْرارَها،
رَمَتْ شوارعَها في المتاهةِ
لا أحدَ سيمُرُّ،
لا أحدَ من ثُقوب النُّعاس سيفْلتُ،
إلاّ صبيّاً يفتِّشُ عن أمِّهِ في صَرير الباب
ونافورةً
تبحثُ عن مُطْلق
في فضاء الغياب.
• وليد الزوكاني شاعر سوري وصحفي ومستشار إعلامي، مدير تحرير في صحيفة القبس الكويتية سابقاً. يدير مجلة حانة الشعراء الإلكترونية. صدر له: ثلاث ليال لقمر أريحا.. شعر (دمشق ١٩٩٥) - منذ ماء كثير.. شعر (دمشق ٢٠٠٧) - لا تثق بالجهات.. شعر (القاهرة ٢٠١٩)
شكرا للشاعر وهيب نديم وهبة ولأسرة تحرير «كتابنا»
ردحذف