قصة قصيرة
إنها مقولة قديمة " أن الذين يغامرون قليلا يعيشون قليلا " وكثيرا ما تكون المغامرة مخاطرة مخيفة ولكنها مع ذلك تبدو ضرورية، وبدون الدراية الكافية بطبيعة الصعوبات الخبرة الوافية للتعامل معها فإن الرخاء يكون أجوفا.
يحدث في بعض مجالات الحياة أن يكون أكبر المخاطر هي عدم المخاطرة على الإطلاق، لقد اختارت "رشا "مثلها مثل كثيرات من بنات جنسها حلما تمنت أن تحققه وهو إتمام دراستها خارج بلدتها، فقطعت من أجل ذلك مسافة طويلة إلى المدينة رغم ظروفها القاسية بعدما حصلت على منحة جامعية ، تدبرت رشا أمرها وتمكنت من ادخار مبلغا اقتطعته من المنحة لأنها تعلم أن أهلها لن يستطيعوا أن يوفروا لها مصاريف دراستها العليا التي عزمت أن تكملها خارج الوطن ،كانت تعمل في أوقات فراغها بائعة للزهور بأحد الأحياء الراقية لتعود في المساء إلى إقامتها الجامعية ، اعتادت اتخاذ مكانا منعزلا بأحد المقاهي ، وقررت ذات يوم إفراغ ما يختلج في صدرها فتكاشف أهلها بحقيقة طموحها وتشرح لهم أحلامها وتؤكد إرادتها في تحقيق الخروج من ذلك النفق الأسود الذي يعيشون فيه منذ سنين، لقد ملّت هذه الحياة البائسة التي أدت إلى نظرة احتقار أهل بلدتها لهم ، لم تتمكن من إكمال كتابة الرسالة ، توقفت وارتشفت القهوة ، وبين الحين والآخر تميل نحو طاولة قريبة منها لتسترق السمع ، كان الحديث بين بعض الطالبة البائسين مثلها يشكون سوء حالهم ، كانت ترفض أن تسرد لأقرب صديقاتها أو لأي أحد أقاصيصها إذ تراه مسلك الضعفاء وشكوى تعبر عن الإحساس بالعجز بدون مبرر واعتراف مسبق بالهزيمة استخرجت جواز السفر، إنها فتاة عنيدة لا تستغل محنتها لتنال عطف الناس أو استدرار شفقة الآخرين ، صعبة المراس والمنال ، ولا تحب الطرق الملتوية، هي الأنثى ذات الحرم الأنثوي اللامتناهي ، تكسب ود كل من يعرفها بشجاعتها الأدبية المحترمة ، تقيس شدة المصائب بوقعها لا بحجمها، وترى أن العدل كل العدل في أن القاسم الجامع الوحيد بين البشر هو الألم، طموحها اللامحدود يزيد من ألمها فهو ليس طموحا يرتبط بالأشياء التافهة التي تحط من قيمة البشر بل لأنه طموح يستند إلى استشعار عميق لمسؤوليتها الكبيرة تجاه أفراد عائلتها، كلهم ينتظرون بأمل أن تخرجهم من الفقر إلى الحياة التي تستحق وجودهم فيها و إلا فالموت أهون.وبين لحظات مفعمة بمداعبة الأمل الجميل وبين أخرى مشوبة برائحة اليأس تواصل رشا اجتهادها لتصبح على قدر ما تأمله عائلتها وأن تشق طريقها سريع إليه. كل شيء الآن مرهون بظروفها الحالية فهي تأخذ كل ما يحدث في عائلتها مأخذ الجد، وتحمل التزامها بتخفيف متاعبهم على محمل المسؤولية ، لقد نذرت حياتها لهم ، لم تنساهم كما توهم بعضهم، تخوض من أجلهم الصعاب في زوايا غامضة ومتباعدة لمستقبل لا يزال مجهولا. أسئلة بسيطة تجول بخاطرها ولكنها كثيرة ولا تجد لها إجابة لأن القلوب تتقلب والأفكار تتبدل، هي لا تفكر في اليوم والغد فقط لكنها كانت تسافر بفكرها نحو المستقبل.
كاتبت رشا إحدى الجامعات الفرنسية ثم جاءها الرد بعد عدة أشهر تضمن الموافقة على التحاقها بالجامعة حيث توافقت مؤهلاتها مع شروط الدراسة بالجامعة، وكانت مصاريف التسجيل كبيرة ، أخبرت عائلتها بالأمر وطمأنتهم أنها ستعمل خلال الصيف بالمدينة فلا يستعجلون مجيأها. و قرب الموعد المحدد للتسجيل الجامعي كانت رشا قد تدبرت المبلغ المالي وكافة أوراق ملفها وحصلت على التأشيرة ، أخبرت أ مها أنها ترسل حوالة مالية بما تبقى لها ، وعندما تصل باريس ستعمل إلى جانب دراستها وسترسل لهم ما باستطاعتها إرساله لمواجهة المصاريف المتزايدة ، ظنوا أن أبواب الجنة أخيرا تفتح لهم ليخرجوا من دائرة الهمز واللمز، وسخرية أهل القرية منهم إذ تركوا ابنتهم تسافر وحدها إلى الخارج على غير عادات بلدتهم أن مكان الفتاة هو البيت والزواج وبناء الأسرة .
وصلت رشا العاصمة الفرنسية باريس رتبت سريعا أمور إقامتها وبدأت مباشرة البحث عن عمل يناسبها، أخبرتها إحدى الطالبات المقيمات معها أن هناك شخص من عائلة أمريكية يبحث عن من تعتني بأمه المريضة خلال فترة غيابه عنها ، وافقت رشا بدون تردد فالأهم عندها أن تعمل وتنقذ نفسها وعائلها، اجتهدت في خدمتها ورعايتها وحرصت على احترام مواعيد تناولها الدواء إلى حين حضور ابنها من العمل فتذهب هي لمواصلة دراستها. مرت الشهور على رشا ما بين الدراسة والعمل ، لا شيء سوى الانضباط لبلوغ ما تطمح إليه قبل حلول فصل الصيف ،رغبت في البحث عن عمل إضافي ،فأخبرها أنه مسرور بحماسها وإخلاصها ، ولكن عليه العودة إلى وطنه ، واقترح أنه بإمكانها السفر إلى أمريكا ففرص العمل هناك كثيرة ومتنوعة ، ثم صارحها أنه معجب بها ويود الاقتران بها ، فكرت طويلا واهتدت إلى أن وجودها معه سيحل المشكل نهائيا وستعتمد عليه في بلد كبير تجهله ، ولابد لها من سند ، كان يكبرها بست عشر سنة ، كان لطيفا معها ومعجب بجمالها البسيط وبقوامها الممشوق وعينيها الساحرتين ، كان غرضه تكوين أسرة ، والاطمئنان إلى زوجة ترعي والدته، وتنجب له الأطفال بعدما فشل في زواجه الأول ، سافرت رشا معه بعد عقد قرانها إلى أرض الأحلام . لم تتجاوز قصة الحب من أول نظرة التي ربطت بينهما سوى ثمانية أشهر حتى بدأ كابوس مخيف يطبق على صدرها بعدما عاد زوجها لمصاحبة مطلقته ، ثم بدأ يضربها لأتفه الأسباب ويمارس عليها صنوف التعذيب الجسدي ، كان يختفي لعدة أسابيع بعيدا عنها، ويهدد كل من يتقرب منها أو أن يريد إقامة علاقة صداقة معها أو يشفق عليها ، ثم أجبرها في النهاية على توقيع أوراق تفيد تخليها عن كل حقوقها ، طردها ووجدت نفسها كمتشردة تجوب شوارع بلاد لا تعرفها ولا تتحدث لغة أهلها وبدون أي أوراق قانونية ، ولا يمكنها أن تجد عملا بدونها ، ووسط حيرتها وفزعها لمحت مطعما عربيا اقتربت منه طالبة قطعة خبز ، سألها صاحب المطعم عن أصلها وكانت المصادفة أنه من نفس بلدها ، أدخلها وأطعمها ،واضطرت على غير عادتها أن تسرد حكايتها كي يطمئن إليها، فهي قد دخلت جحر الثعابين برجليها وعليها أن تحمد الله كثيرا أن توقفت مأساتها عند هذا الحد ، اقترح عليها أن الحمام لتنظف نفسها من قذارة الشارع ، ثم غادر هو وأحضر لها بعض الملابس النظيفة وقبعت منكمشة تفكر في حل لمشكلتها ، اقترح عليها العمل معه في غسل الصحون بالمطعم مقابل مبيتها وطعامها، فالمطعم جديد في الحي وزبائنه قليلون ، شكرته كثيرا ، واخبرها أنه هو كذلك كان لوجوده في أمريكا قصة طويلة سيحكيها في وقت لاحق ,عملت رشا بالمطعم وتعرّفت على زبائن من جمعية حقوق المرأة ، اعادت من خلالها ملف هجرتها بعد طلاقها ، ثم جرى تكييف وضعها كزوجة تعرضت للتعنيف النفسي وقاست التعذيب الجنسي على يد زوجها، عرفت رشا حينها أنها ليست الوحيدة التي مرّت بهذه التجربة المريرة وأن هناك زيجات انتهت نهايات قتل مأسوية.
عادت رشا يوما مبتهجة وأخبرت صاحب المطعم أنها سوّت أوراقها مع سفارة بلدها، وقد كان شهر رمضان على الأبواب، عزمت العودة إلى بلدها بعد انقضاء الشهر الفضيل لاستكمال استخراج بعض الأوراق، ، شدّد عليها رؤوف صاحب المطعم أنه بإمكانها أن تبقى تعمل بالمطعم تأكل وتبيت وشكا لها ظروفه الصعبة ، بادرته باقتراح قد يكون وراءه حلا لكل مشاكله ، أخبرت أن بعض من أبناء بلدها الذين صادفتهم داخل السفارة قد جمعوا لها مبلغا محترما من المال لتتمكن من العودة إلى بلدها ،ولكنها مترددة فمستحيل أن تعود إلى أهلها خائبة، لقد تعودت على المخاطرة ، اقترحت أن يعلق لافتة باسم بلدهما على باب المطعم ، وعلى أبواب رمضان سيرغب العرب المقيمين في تناول أصناف الطعام " الرمضاني " ، أخبرها أنه ومن معه لا يجيدون إعداد أصناف الأطعمة التقليدية وهم مختصون في عمل البيتزا والسندويتشات والأكلات السريعة ، نصحته أن يلغي حاليا كل هذا ووعدته أن تتكفل هي بالمطبخ وتحضير الأكلات من كل الأصناف فهي بنت الجبال التي كبرت وتعلمت في مطابخ أهل قريتها ، ، ابتسم رؤوف إذ طابت له الفكرة وقرر الاعتماد عليها، وبدأ التحضير على قدم وساق لاستقبال الشهر الفضيل بما يلزم ليتذكرالزبائن أجواء رمضان في البلاد ، تعظمت دهشة رؤوف وأصدقائه من مهارة وسرعة واتقان رشا لعملها ، كانت الروائح الذكية تفوح من المطعم تجذب الزبائن الصائمين جذبا وهم لا يصدقون ما يرون ، وشد المطعم انتباه الأجانب وواجهت رشا وضعا صعبا في تلبية الطلبات المتواصلة طيلة أيام الشهر المبارك وصار الزبائن يتسابقون لحجز أماكنهم قبل موعد الإفطار ، فاضطر رؤوف إلى زيادة عدد العاملين معه ومضاعفة الموائد والكراسي لقد أصبح المطعم نموذجا جديدا أحبه سكان نيويورك وأقبلوا عليه ،. مضت أيام شهر رمضان وحلّ عيد الفطر والمطعم مازال يعج بالزبائن، بدأ القلق يساور رؤوف عن مصير المطعم بعد مغادرة رشا ، وبينما هو كذلك شكت رشا من دوار شديد أصابها كادت على إثره أن تسقط أرضا ، تم نقلها سريعا إلى المستشفى ليتبين أنها حامل، باتت حزينة ثم قررت أن تؤجل سفرها لوقت لاحق ، كانت سعادة رؤوف ببقائها لا توصف وقد كان يدفع لها مبلغا كبيرا وعثروا لها على منزلا محترما بالقرب من جامعتها ، لقد ألفت رشا منذ نعومة أظافرها التعامل مع المصاعب ، وتمكنت أن توفق بين دراستها وعملها .. وحملها، وفي غمرة مشاكلها لم تنس أهلها فواظبت قدر إمكانها على إرسال بعض مدخراتها إلى أهلها وتكمنوا من الانتقال إلى المدينة بعدما اشترت لهم منزلا جديدا ، لم تكن قد أخبرتهم بطلاقها بعد أو حملها كذلك ، صارت رشا محبوبة الزبائن يأتونها من بعيد للتمتع بتذوق مأكولاتها.
أنجبت رشا طفلا أسمته باسم والدها المتوفي صالح ، ودعت أن يكون صالحا مثل والدها ، وكالعادة طلبت من رؤوف أن يتلو الآذان في أذنه وبشرها أنه سيكون قويا مثلها، ،وعدته أنها ستواصل الدراسة بكل جد وستبقى تعمل معه على أن يبقي ابنها في رعا يته فترة غيابها عنه بالجامعة إذ لا تأتمن أحدا غيره على ابنها، كل شيء في حياتها كان يسير على ما يرام بتوافق وتنسيق تام ، ويوم سمح مستوى العلاقة بينهما أن تبادره بالاستفسار عن سبب عدم ارتباطه، فهو يقيم في هذه البلاد منذ فترة طويلة ، صارحها أنه قبل أن يلقاها كان فاقد المصداقية في نفسه وكان ذلك أعظم البلاء وأنكى العقاب، وعندما نبالغ في المغفرة فإننا نصنع ممن يستحق الشفقة عملاقا لا نقوى على مواجهته، فخلال دراسته الطب اتفق مع زميلته أن يتوجها بعد التخرج إلى فرنسا لمواصلة الدراسات العليا بإمكانياته الضعيفة لذا كانت الأيام الأولى صعبة ، صبرا وتحملا الكثير من المشاق، ويوما عرض عليها الزواج ورفضت لأنها تريد العمل أكثر لتصرف على نفسها وأهلها بعدما تعرض والدها لحادث سير، تراءى له أن ينصحها بتوخي كل الحذر من الذين تعمل لديهم فلم يكن مرتاحا لهم ، ولكنها كانت تستخف بمخاوفه وتشعره بأنه ضعيف وغير قادر على تحمّل المسؤولية ، لذا كانت كثيرا ما تتخذ قرارات خاطئة وهي تظن أنها تحسن صنعا ،وعندما كلّفها رب عملها بالسفر لإنجاز عمل مستعجل في نيويورك سافرت رغم أنه لم يكن راضيا ، بعدها انقطعت أخبارها عنه ، ومن فرط حبه لها سافر إليها ، وكانت هي المرة الأولى التي يضع قدميه في هذه البلاد ، بحث عنها طويلا وسأل عنها كثيرا ثم تبين له أنها تورطت في تهريب ممنوعات وتم كشفها لدى وصولها المطار وجرى إيداعها السجن ، ثم عثر عليها الحراس مخنوقة بجورب نسائي، بكى عليها كثيرا وشارك آخرين في التكفل بترحيل جثمانها إلى بلدها، كانت صدمته فيها شديدة ولم يقوى على العودة إلى البلاد ليتجنب لوم أهلها ، فبقي يعاني آلامه بعدما شهد فصول نهاية محبوبته المؤلمة نتيجة تصرفاتها المؤسفة.
تأثرت رشا كثيرا بما سمعته منه، فهي كذلك خاضت تجربة ارتباط فاشلة ولكنها لا تريد الرجوع إلى الماضي إلاّ بالقدر الذي منه تتعلم الدرس وتأخذ العبرة وتستفيد من الموعظة ، إنها تعلم أن الفشل وارد وأن المهم هو إجادة اتخاذ القرار الصحيح والإصرار على طي الصفحة القديمة وتجديد العزم على فتح صفحة جديدة شعارها أن الحياة جميلة وتستحق أن تعاش مع من نحترم صدقهم ، الفشل في تجربة الحب ليس نهاية العالم ، الحياة رحبة والتجارب تحل وتمضي والأهم الخروج من كل تجربة أكثر صلابة وأشد قوة .
0 comments:
إرسال تعليق