تختصر الأديبة المصرية نوال السعداوي قصة روايتها الموسومة "مذكرات طفلة" (2015) وظروف كتابتها في مقدمة أدرجتها قبل أن تسرد لنا يوميات البطلة سعاد، حيث تشير إلى أن مدرس اللغة العربية في مرحلة الثانوية (سنة 1944) طلب منهم كتابة موضوع لحصة الإنشاء، فوقع اختيارها على "مذكرات طفلة اسمها سعاد" لكنها فوجئت بعلامة الصفر التي حصلت عليها، والتي تظن أنها ساهمت بشكل غير مباشر في توقفها عن الكتابة لسنوات واختيار كلية الطب بدلا من كلية الآداب. ورغم كل ذلك نجحت السعداوي في عالم الكتابة وترجمت مؤلفاتها إلى عدة لغات برغم مرور تلك السنين الطويلة، وأصبحت اليوم عالمية حتى حملت لقب "سيمون دي بوفوار العرب".
تنطلق الروائية في وصف شعور اللذة حين تحكي عن سعاد الطفلة منذ الصفحات الأولى، وهذا الشعور يظل ملازما للبطلة طيلة العمل الروائي حيث تقول السادرة: (أحيانا كان يأخذها أبوها معه إلى الشارع، فتقفز من اللذة وهي تسير إلى جواره، تحرك ذراعيها وساقيها وتكاد تجري، لكن اليد الكبيرة تقبض على يدها، تحاول أن تشد يدها من يد أبيها لكنها لا تستطيع...) ص 11.
كانت سعاد تزور بيت الجدة منذ صغرها، وأكثر ما تحبه هو اللعب برفقة أبناء عمتها خديجة خصوصا زكي الذي كانت تحتمي به كلما جاءت سيرة العفاريت التي كانت تخافها كثيرا: (تلهث أنفاس سعاد وهي تستمع إلى هذه الحكايات، وتمتلئ الظلمة من حولها بالأشباح فتقترب من زكي وهو جالس على الأرض وتلتصق به متكورة حول نفسها مخبئة ذراعيها وساقيها تحت جسدها خشية أن يشدها العفريت بعيدا.) ص 15.
تستمر نوال السعداوي بنبش ذكريات البطلة التي لطالما سيطر على حياتها الفضول وحب اكتشاف العالم المحيط بها حتى في أبسط الأشياء، حتى أن الألفاظ التي ارتكز عليها السرد عموما تلتبس بذهن القارئ لترسم فيه صورا لا يمكن فصلها عن الواقع كان مرئيا أو لا مرئيا: (كان هذا الراديو هو الشيء الوحيد الذي أحبته سعاد في بيت جدها، ولم تكن قد رأت راديو من قبل. وحين أدار خالها أحد مساميره وانطلق منه الغناء والموسيقى اتسعت عيناها بالدهشة والفضول.) ص 21.
تلجأ السعداوي في "مذكرات طفلة" إلى الوقوف عند التفاصيل الدقيقة لحياة البطلة، وهذا التوظيف جاء لإبراز تدفق انفعالات داخلية تختلج في نفسية الشخصية وكأنها تحت تأثير تلك اللذة التي تأبى أن تفارقها: (لم تكن تحب الليل لأن الليل مظلم، والعفاريت لا تظهر إلا في الظلام، وكانت تحب النهار والشمس حين تسطع وتملأ الكون بالنور والدفء. لكن البيت العالي المجاور لهم كان يحجب عنها الشمس، وكانت لا تراها إلا في السماء من بعيد، وأشعتها الذهبية تسقط بالقرب من نافذتها ولا تدخل أبدا، فتمد ذراعها من بين القضبان لكن يدها لا تصل إليها.) ص 27.
لقد لجأت الروائية إلى الحديث عن العديد من المسائل الدينية على شكل أسئلة فضولية تحتل الجزء الأكبر من اهتمامات بطلتها -الطفلة سعاد- كصيام شهر رمضان وحال الفقراء وشبح الجوع الذي يطاردهم يوميا كما نقرأ فيما يلي: (...فقالت أمها وفمها مملوء:
- إنهم يجوعون فقط، ولكن الله فرض علينا الجوع والعطش في رمضان لنشعر بالألم ونشفق على الفقراء ونحبهم ونعطيهم شيئا مما أعطانا الله، ونحمد الله على ما أعطانا من طعام.) ص 42.
نقرأ في موقع آخر موضوع قلق البطلة وتخوفها من الله بسبب ما اقترفته من أفعال، لكن سرعان ما يتلاشى ذلك الإحساس تدريجيا وكأن السعداوي تجمع متناقضات تلك الطفلة لرسم معالم الدين في مجتمعنا وكيفية ترسيخه من قبل الأولياء في ذهن أبناءهم: (لاحظ أبوها انقطاعها عن الصلاة والصوم فسألها عن السبب، لكنها لم تستطع أن تقول لأبيها إنها اقترفت ذنوبا كثيرة وأن الله رآها وسوف يعاقبها، فقالت إنها لا تصلي لأنها لا تعرف كيف تطرد الشيطان، ولا تعرف كيف تفرق بين صوت الله وصوت الشيطان، وهي تحس أنها مذنبة وسوف تدخل النار وصلاتها لن تنفع.) ص 51.
قامت السعداوي بإثارة موضوع مثير للجدل يعمل على إرساء صورة لرفض ديانة الآخر لدى فئة من الناس، وهذا ما ينعكس تدريجيا على غرسه في روح أبناءهم، وهذا خطأ شائع لأن الإسلام جاء متسامحا مع جميع الأديان: (أصبحت سعاد كلما تتعرف إلى تلميذة جديدة أو تلميذ جديد تسأله: هل أنت مسلم أم قبطي؟ وحمدت الله لأن الفصل كله لم يكن فيه إلا ميشيل، القبطي الوحيد. وكانت تراه جالسا في الفناء وحده يراقب التلاميذ وهم يلعبون، وأحيانا كانت الشمس تسقط على وجهه فيبدو وجهه محمرا، ويخيل لسعاد أن الله سيجعل الشمس تتحول إلى نار لتحرق وجه ميشيل، وترتعد أحيانا من احمرار وجهه تحت الشمس...) ص 57.
جاءت الصورة السردية خالية من التعقيد، حيث نقف أمام اعتراف سعاد بينها وبين نفسها أنها تتحايل مع الله حينما تطلب منه أن تنجح في دراستها بعدما ذاقت طعم الرسوب، خصوصا بدموع تعرف أنها لن تخدع الخالق عز وجل: (وخيل إليها أن صلاتها أصبحت باطلة، فكيف تفكر في رشوة الله؟! بل كيف تتصور أن الله يقبل الرشوة مثله مثل أي شخص بلا ضمير؟! فاستغفرت الله ثلاث مرات، واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، ثم قطعت الصلاة وبدأتها من جديد، واختتمتها بدعاء قالت فيه: "أشكرك يا رب وأحمدك سواء نجحتني أم سقطتني".) ص 87.
يلاحظ القارئ كثافة العواطف وتداخلها بين فرح وحزن وحب وغضب ومدح وتوبيخ، وهذا ما جعل النص الروائي من أوله إلى آخره مشوقا يغزو النفوس رغم بساطته دون استئذان.
تنجح سعاد في امتحان الشهادة الابتدائية، وهذا يدفعها لتسافر إلى بيت جدها لإتمام دراستها هناك، حيث أصبحت تنتظر الإجازات بفارغ الصبر لتمضيتها وسط أجواء عائلتها: (وأصبحت تحب الإجازات الطويلة لتسافر إلى دسوق، وإجازة الصيف أطول إجازة وتفضلها على الجميع، وإجازة العيد الكبير أفضل من إجازة العيد الصغير لأنها أطول منها. كما أن مشاهدة الجزار وهو يذبح خروف العيد له عندها متعة أكثر من مشاهدة أمها وهي تصنع الكعك قبل العيد الصغير.) ص 105-106.
لقد استطاعت نوال السعداوي أن تنبش في ركام ذكريات طفولة سعاد، لتسرد لنا حكايتها بأسلوب بسيط كونها كانت لا تزال طالبة في الثانوية حينما كتبت هذه الرواية كما ذكرت ذلك في مقدمتها، أين نقف أمام الذات العاطفية الفضولية التي لم تكن ذاتا منغلقة على أعماقها، بل كانت على نقيض ذلك راصدة رائية لما ولمن حولها، أضافت إلى السرد مشاهدا حية من الذاكرة وكلاما مسموعا متصلا بعالمها الخاص كطفلة مكتشفة للعالم الخارجي من خلال عنصر اللذة الذي يأبى مفارقتها منذ البداية.
المصدر
(1) نوال السعداوي: مذكرات طفلة، دار الساقي، 2015.
*كاتب وناقد جزائري
تنطلق الروائية في وصف شعور اللذة حين تحكي عن سعاد الطفلة منذ الصفحات الأولى، وهذا الشعور يظل ملازما للبطلة طيلة العمل الروائي حيث تقول السادرة: (أحيانا كان يأخذها أبوها معه إلى الشارع، فتقفز من اللذة وهي تسير إلى جواره، تحرك ذراعيها وساقيها وتكاد تجري، لكن اليد الكبيرة تقبض على يدها، تحاول أن تشد يدها من يد أبيها لكنها لا تستطيع...) ص 11.
كانت سعاد تزور بيت الجدة منذ صغرها، وأكثر ما تحبه هو اللعب برفقة أبناء عمتها خديجة خصوصا زكي الذي كانت تحتمي به كلما جاءت سيرة العفاريت التي كانت تخافها كثيرا: (تلهث أنفاس سعاد وهي تستمع إلى هذه الحكايات، وتمتلئ الظلمة من حولها بالأشباح فتقترب من زكي وهو جالس على الأرض وتلتصق به متكورة حول نفسها مخبئة ذراعيها وساقيها تحت جسدها خشية أن يشدها العفريت بعيدا.) ص 15.
تستمر نوال السعداوي بنبش ذكريات البطلة التي لطالما سيطر على حياتها الفضول وحب اكتشاف العالم المحيط بها حتى في أبسط الأشياء، حتى أن الألفاظ التي ارتكز عليها السرد عموما تلتبس بذهن القارئ لترسم فيه صورا لا يمكن فصلها عن الواقع كان مرئيا أو لا مرئيا: (كان هذا الراديو هو الشيء الوحيد الذي أحبته سعاد في بيت جدها، ولم تكن قد رأت راديو من قبل. وحين أدار خالها أحد مساميره وانطلق منه الغناء والموسيقى اتسعت عيناها بالدهشة والفضول.) ص 21.
تلجأ السعداوي في "مذكرات طفلة" إلى الوقوف عند التفاصيل الدقيقة لحياة البطلة، وهذا التوظيف جاء لإبراز تدفق انفعالات داخلية تختلج في نفسية الشخصية وكأنها تحت تأثير تلك اللذة التي تأبى أن تفارقها: (لم تكن تحب الليل لأن الليل مظلم، والعفاريت لا تظهر إلا في الظلام، وكانت تحب النهار والشمس حين تسطع وتملأ الكون بالنور والدفء. لكن البيت العالي المجاور لهم كان يحجب عنها الشمس، وكانت لا تراها إلا في السماء من بعيد، وأشعتها الذهبية تسقط بالقرب من نافذتها ولا تدخل أبدا، فتمد ذراعها من بين القضبان لكن يدها لا تصل إليها.) ص 27.
لقد لجأت الروائية إلى الحديث عن العديد من المسائل الدينية على شكل أسئلة فضولية تحتل الجزء الأكبر من اهتمامات بطلتها -الطفلة سعاد- كصيام شهر رمضان وحال الفقراء وشبح الجوع الذي يطاردهم يوميا كما نقرأ فيما يلي: (...فقالت أمها وفمها مملوء:
- إنهم يجوعون فقط، ولكن الله فرض علينا الجوع والعطش في رمضان لنشعر بالألم ونشفق على الفقراء ونحبهم ونعطيهم شيئا مما أعطانا الله، ونحمد الله على ما أعطانا من طعام.) ص 42.
نقرأ في موقع آخر موضوع قلق البطلة وتخوفها من الله بسبب ما اقترفته من أفعال، لكن سرعان ما يتلاشى ذلك الإحساس تدريجيا وكأن السعداوي تجمع متناقضات تلك الطفلة لرسم معالم الدين في مجتمعنا وكيفية ترسيخه من قبل الأولياء في ذهن أبناءهم: (لاحظ أبوها انقطاعها عن الصلاة والصوم فسألها عن السبب، لكنها لم تستطع أن تقول لأبيها إنها اقترفت ذنوبا كثيرة وأن الله رآها وسوف يعاقبها، فقالت إنها لا تصلي لأنها لا تعرف كيف تطرد الشيطان، ولا تعرف كيف تفرق بين صوت الله وصوت الشيطان، وهي تحس أنها مذنبة وسوف تدخل النار وصلاتها لن تنفع.) ص 51.
قامت السعداوي بإثارة موضوع مثير للجدل يعمل على إرساء صورة لرفض ديانة الآخر لدى فئة من الناس، وهذا ما ينعكس تدريجيا على غرسه في روح أبناءهم، وهذا خطأ شائع لأن الإسلام جاء متسامحا مع جميع الأديان: (أصبحت سعاد كلما تتعرف إلى تلميذة جديدة أو تلميذ جديد تسأله: هل أنت مسلم أم قبطي؟ وحمدت الله لأن الفصل كله لم يكن فيه إلا ميشيل، القبطي الوحيد. وكانت تراه جالسا في الفناء وحده يراقب التلاميذ وهم يلعبون، وأحيانا كانت الشمس تسقط على وجهه فيبدو وجهه محمرا، ويخيل لسعاد أن الله سيجعل الشمس تتحول إلى نار لتحرق وجه ميشيل، وترتعد أحيانا من احمرار وجهه تحت الشمس...) ص 57.
جاءت الصورة السردية خالية من التعقيد، حيث نقف أمام اعتراف سعاد بينها وبين نفسها أنها تتحايل مع الله حينما تطلب منه أن تنجح في دراستها بعدما ذاقت طعم الرسوب، خصوصا بدموع تعرف أنها لن تخدع الخالق عز وجل: (وخيل إليها أن صلاتها أصبحت باطلة، فكيف تفكر في رشوة الله؟! بل كيف تتصور أن الله يقبل الرشوة مثله مثل أي شخص بلا ضمير؟! فاستغفرت الله ثلاث مرات، واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، ثم قطعت الصلاة وبدأتها من جديد، واختتمتها بدعاء قالت فيه: "أشكرك يا رب وأحمدك سواء نجحتني أم سقطتني".) ص 87.
يلاحظ القارئ كثافة العواطف وتداخلها بين فرح وحزن وحب وغضب ومدح وتوبيخ، وهذا ما جعل النص الروائي من أوله إلى آخره مشوقا يغزو النفوس رغم بساطته دون استئذان.
تنجح سعاد في امتحان الشهادة الابتدائية، وهذا يدفعها لتسافر إلى بيت جدها لإتمام دراستها هناك، حيث أصبحت تنتظر الإجازات بفارغ الصبر لتمضيتها وسط أجواء عائلتها: (وأصبحت تحب الإجازات الطويلة لتسافر إلى دسوق، وإجازة الصيف أطول إجازة وتفضلها على الجميع، وإجازة العيد الكبير أفضل من إجازة العيد الصغير لأنها أطول منها. كما أن مشاهدة الجزار وهو يذبح خروف العيد له عندها متعة أكثر من مشاهدة أمها وهي تصنع الكعك قبل العيد الصغير.) ص 105-106.
لقد استطاعت نوال السعداوي أن تنبش في ركام ذكريات طفولة سعاد، لتسرد لنا حكايتها بأسلوب بسيط كونها كانت لا تزال طالبة في الثانوية حينما كتبت هذه الرواية كما ذكرت ذلك في مقدمتها، أين نقف أمام الذات العاطفية الفضولية التي لم تكن ذاتا منغلقة على أعماقها، بل كانت على نقيض ذلك راصدة رائية لما ولمن حولها، أضافت إلى السرد مشاهدا حية من الذاكرة وكلاما مسموعا متصلا بعالمها الخاص كطفلة مكتشفة للعالم الخارجي من خلال عنصر اللذة الذي يأبى مفارقتها منذ البداية.
المصدر
(1) نوال السعداوي: مذكرات طفلة، دار الساقي، 2015.
*كاتب وناقد جزائري
0 comments:
إرسال تعليق