بدافع الغّيْرة والحرص والمحبّة، وجّهت، منذ أكثر من سنة، إلى صديق يدير حلقة فكريّة انتقادات حول تقديمه بعض الناس بلقب "دكتور" علماً أنّ المعنيّ/المعنيّة لا يحمل هذه الشهادة أو أنّ الجميع يعلم أنّها مشتراة أو "مفبركة" من واحدة من تلك المؤسّسات أو الجامعات الضحلة التي لا تتمتع بمصداقيّة أو قوّة منح هكذا شهادة ولو "فخريّة". (طبعاً الدكتوراة الفخريّة الحقيقيّة لا تمنح إلاّ من هيئات وجامعات أكاديميّة معترف بها.) أقول هذا مؤكّداً أنّ من هؤلاء من له منجزات كثيرة ويحظى عليها بكلّ تقديري، وهذا ما يزيد في استغرابي وألمي، وهو أصلاً سبب غَيْرتي وحرصي ومحبّتي.
انتشرت هذه الظاهرة ضمن "المثقّفين" في الجالية العربيّة في أستراليا بشكل وبائيّ كان أبرز مثال على فسادها أنّ بعضهم صار يشار إليه بلقب "بروفسور"، وكلّنا يعلم أنّه ليس عضواً في أيّ هيئة أكاديميّة جامعيّة، وهي المكان الوحيد الذي يمكن فيه للمرء أنْ يتدرّج إلى هذه الرتبة بعد أنْ يكون قد قدّم في مجاله إنجازات تفوق الدكتوراة بمكاييل عديدة. مع العلم أنّ هناك دكاكين تبيع مثل هذه الألقاب.
كان جواب صديقي أنّني أهتمّ بـ"القشور".
صحيح هذه "قشور". بيد أنّها رقيقة تكشف عن خداع وغباء من يلفّ نفسه بها. لكنّني لا أهتم بها بل أمقتها احتراماً للصادقين المكافحين الذين قضوا سنوات كثيرة من عمرهم في التحصيل العلميّ والممارسة المهنيّة والفكريّة.
المتمسّك بالقشور هو الذي يدفع آلاف الدولارات للحصول على لقب فارغ المحتوى. وهو الذي لا يعلم أنّ الإنسان يصنع الألقاب والألقاب لا تصنع الإنسان.
أقول هذا وأتذكّر عشرات المطبّلين والمزمّرين الذين لا مانع لديهم من قبول هذا الدجل طالما أنّه يحقق لهم بعض المكاسب، أو لمجرّد التملق الذي يتماشى مع ثقافة النفاق التي تسود بعض الناس والمجتمعات، والتي صارت تتجلّى في تصرفات الناس على الفيسبوك مثلاً، وما يسبغونه من "استحسانات" لا عدّ لها ولا مكيال. والمقلق أنّ هناك تجمّعات تحتوي على أفراد كلّ يقبل الآخر ويعلي من شأنه متغاضيّاً ليس فقط عن تلك "القشور"، بل على أنّ معظم الذين يبيعون أنفسهم على أنّهم كتّاب أو فنانون مبدعون بحاجة لإعادة النظر في مستوى ما يقدّمون. صاحب المستوى المتدني يقبل أمثاله ويعلي من شأنهم: فالكلّ يغطّي على الكل.
عدم مراجعة النفس هو من أهمّ أسباب التخلّف. وخبرتي الطويلة في مجال التحرير والنشر بيّنت لي أنّ ذهنيّة هؤلاء لا تقبل عملية تدقيق أعمالهم، فهم بحجّة أنّهم مبدعون، على حسب ظنّهم، لا يرون حاجة لإعادة النظر، ويغضبون حين نوجّه الملاحظات البنّاءة إليهم. ويبدو أنّهم يعتبرون أنفسهم على درجة عالية من التفوّق، وأنّهم يستحقّون الدكتوراة على أيّ حال.
على نقيض ذلك، وكأحد الأمثلة، أرسل لي مرّة أحد كبار الأكاديميّين والكتّاب الأستراليّين (وهو بروفيسور مؤلّف لأكثر من ستين كتاباً) مادّة للنشر في مجلّة كلمات التي كنت مسؤولاً عنها، وكانت مجلّة محكّمة. بعد مراجعة عمله أرسلت له منوّهاً ببعض الجوانب التي كان برأينا أنّها بحاجة للنظر من جديد. وأعترف أنّني أرسلت تعليقي بخجل شديد من هذه القامة الفكريّة، لكنّ جوابه فاجأني حين أسبغ عليّ شكره الجزيل على لفت نظره إلى أمور لا مانع لديه من إعادة النظر فيها.
أمّا أولئك "المزوّرين" فأشعر بحرج شديد حين أقابل أحداً منهم. لا شكّ أنّه يريد الجميع أنْ يناديه بلقب "دكتور"، وواقع الأمر أنّ معظم الناس تفعل ذلك (ربّما لأنّها لا تتمسك بالقشور على رأي صديقي). لكنّني أحس أنّني إذا فعلت مثلهم، إنّما أكون منافقاً من جهة، ومساهماً في غيّ الآخرين من جهة أخرى. مع وعيي الكامل للإحراج الذي يتعرضون له. لذلك تراني لا أريد ملاقاة هؤلاء الناس، ولا التعامل معهم طالما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
أنا وثلّة من أصدقائي المقرّبين، وكثيرون غيرنا، نحمل "أطناناً" من الشهادات والألقاب الحقيقيّة، لكنّك إنْ ناديتنا بالاسم المجرد نعلم أنّنا لنْ نخسر منجزاتنا، وأنّك تتقرّب منا بصدق.
رغيد
(من كتاب لي سيصدر عام 2020)
0 comments:
إرسال تعليق